نهج تصعيدي : كيف ردت إيران على التقارب العربي – الإسرائيلي ؟
علي خلفية المواجهات “غير التقليدية” الدائرة بين إسرائيل وإيران، والتي تفاقمت حدتها خلال السنوات الماضية، خاصة المتعلقة بقيام كلا الطرفين بــ (عمليات الاغتيال لعلماء ومسئولين سياسيين وعسكريين، الهجمات السيبرانية، تفجير المنشآت النووية، الحروب بالوكالة، وتهديد السفن التجارية، عرقلة مفاوضات إحياء الاتفاق النووي)- انتهج نظام الملالي أسلوب مغايرًا للرد على إسرائيل، وهذا بمحاولة ضرب عمليات التقارب التي تحدث بين إسرائيل وعدد من الدول العربية من جهة، وتقويض العلاقة بين تل أبيب وأنقرة التي تحسنت خلال الفترة الماضية وذلك باغتيال إسرائيليين بالأراضي التركية من جهة أخرى.
تخوف إيراني:
وبعد أيام قليلة من زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي “يائير لابيد” لتركيا في 23 الماضي، لإجراء مباحثات مع الحكومة التركية بشأن منع هجمات إيرانية محتملة ضد إسرائيليين في أنقرة، سارع نظام الملالي بإرسال وزير خارجيته “حسين أمير عبداللهيان” على الفور لزيارة العاصمة التركية أنقرة في 27 يونيو الماضي، لإيصال رسالة مفادها أن المزاعم حول مخططات إيرانية لاستهداف السياح الإسرائيليين في تركيا لا أساس لها من الصحة، وهي جزء من مؤامرة معدة سلفا لتدمير العلاقات بين أنقرة وطهران.
وتجدر الإشارة، أن طهران قررت الانتقام من إسرائيل داخل الأراضي التركية بعدما كانت في السابق ترد على أية هجمات إسرائيلية من خلال الميليشا الموالية له بعدد من دول المنطقة كسوريا، العراق، ولبنان، بعد واقعة اغتيال العالم النووي الإيراني “محسن فخري زاده” في ديسمبر 2020، إذ أعلنت قوات الأمن التركية في فبراير الماضي عن اعتقالها لخلية مكونة من تسعة أشخاص تعمل لصالح إيران أثناء محاولتهم اغتيال رجل أعمال إسرائيلي يدعي “يائير غيلر” يقيم في مدينة اسطنبول، كما تم إحباط عمليتين استهدفتا إسرائيليين داخل تركيا.
وبعد أسبوع، من اتهام إيران لإسرائيل بمسؤوليتها عن اغتيال «صياد خدائي»، القيادي في الحرس الثوري الإيراني، من أمام منزله بالعاصمة طهران أواخر مايو الماضي، تعاونت تل أبيب مع الأجهزة الأمنية التركية بعد حصولها على معلومات استخباراتية تفيد باستعداد إيران لشن هجمات انتقامية لاستهداف الإسرائيليين في تركيا، وحذر رئيس الوزراء الإسرائيلي “نفتالي بينيت” المواطنين من عدم السفر إلى تركيا إلا في حال الضرورة، وهدد في اجتماع له 19 يونيو الماضي، أن أي هجوم ضد إسرائيليين في اسطنبول سيكلف طهران ثمناً باهظاً، ومشددًا أن قوات بلاده ستواصل استهداف الإرهابيين ومن يرسلهم، قائلًا، “قاعدتنا الجديدة هي أن من يرسل الإرهابيين، سيدفع الثمن”.
وتزايدت التهديدات الإيرانية مع إعلان إسرائيل مطلع يونيو الجاري عن نشر “منظومة رادارات” بمنطقة الشرق الأوسط خاصة في الإمارات والبحرين اللذان وقعت معهم إسرائيل اتفاقيات السلام المعروفة باسم “اتفاق أبراهام” (إبراهيم عليه السلام) في سبتمبر 2020، مبينة أن هذه الخطوة الهدف منها “مكافحة التهديدات الإيرانية” والتمهيد لبناء حلف استراتيجي بالمنطقة ينتج عنه اتفاقية دفاع مشتركة مع واشنطن وعدة دول عربية، هذا الأمر دفع بقائد القوات البحرية بالحرس الثوري الإيراني “رضا تنكسيري”، للقول أن “السماح بوجود إسرائيل على أراضي دول مجاورة يشكل تهديداً لأمن المنطقة”.
ويرجع الإعلان عن ما أسمته إسرائيل بـ “تحالف الدفاع الجوي للشرق الأوسط”، في هذا التوقيت تحديدًا، إلى الهجمات الصاروخية والضربات الجوية التي تعرضت لها كل من إسرائيل والسعودية والإمارات وأجزاء من العراق مؤخرًا، وقد أعلنت الميليشيات المدعومة من إيران مسؤوليتها عنها أو اتهمت بها.
استراتيجية مواجهة الإخطبوط:
بيد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي أعلن في وقت سابق عن اتباع بلاده تطبيق جديد لتضيق الخناق على إيران، أطلق عليه “استراتيجية مواجهة الإخطبوط”، وتُنفذها إسرائيل من خلال مسارين، أولهما، يكمن في استهداف القدرات العسكرية والنووية لإيران، بجانب استهداف أبرز رجال نظام الملالي، أما المسار الثاني، بتوطيد علاقتها مع الدول العربية خاصة المتحالفة مع أمريكا من جهة وتركيا (الحلف الأبرز لإيران) من جهة أخرى، لأنها تعي تمامًا أن حشد معارضين لما تقوم به طهران؛ سيقوي موقفها في مواجهة التهديدات الإيرانية وعرقلة أية مفاوضات خاصة بالبرنامج النووي الإيراني.
وتضع إسرائيل آمالها على زيارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في الفترة من 13 إلى 16 يوليو القادم إلى منطقة الشرق الأوسط، وأن تسهم تلك الزيارة في إقناع “بايدن” لدول مجلس التعاون الخليجي بالموافقة على الانضمام إلى نظام دفاع جوي أمريكي إسرائيلي متكامل لمواجهة محاولات إيران للمساس بدول المنطقة من خلال قذائف أو صواريخ أو طائرات مسيرة، وهذه بدوره يمكن أن يسهم في تقريب وجهات النظر بين تل أبيب والرياض لتوصل إلى اتفاق سلام على غرار الدول الأخرى.
وفي إطار مساعي إيران لضرب أية محاولات إسرائيلية للتغلغل في بلدان المنطقة وعقب الإعلان عن تحالف إقليمي مشترك، أجرى وزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبداللهيان” مباحثات هاتفية مع نظيره الإماراتي الشيخ “عبدالله بن زايد آل نهيان”، لإيصال رسالة مفادها أن طهران لا تريد سوى تحقيق الأمن والاستقرار بالمنطقة، وأن التعاون مع دول الجوار هو أولوية بالنسبة للسياسية الخارجية الإيرانية، لافتًا أن وجود إسرائيل بالمنطقة هو ما يسهم في نشر الإرهاب والتخريب وزعزعة أمن المنطقة، وبدوره فإن الوزير الإماراتي أكد أن بلاده لن تسمح لأي طرف بارتكاب أعمال تخريبية ضد دول الجوار.
خطوات تصعيدية:
وفي سياق ما تقدم، يطرح تساؤلًا رئيسيًا حول رد الفعل الإيراني جراء استمرار توطيد علاقات التعاون بين إسرائيل والدول العربية خاصة إذ تم تدشين التحالف الاستراتيجي بشكل رسمي، فماذا ستفعل طهران لضرب التقارب العربي مع تل أبيب؟، ويمكن الإجابة على هذا التساؤل من خلال القول أن إيران ستبذل كل ما في وسعها لتقويض التحالف العربي الإسرائيلي، على النحو التالي:
(*) تقوية ميليشيا الملالي لتهديد الدول العربية: إن أبرز ما يهدد دول الخليج العربي ليس أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية إنما الميليشا والخلايا النائمة التي استطاع نظام الملالي على مدار السنوات الماضية زرعها في قلب المنطقة، ولهذا فإن التقارب الإسرائيلي العربي، سيدفع طهران لتنشيط عناصرها وقواعدها بالمنطقة، وهذه بدوره قد يؤدي لتوجيه ضربات للإسرائيليين بكل من البحرين والإمارات أو استهداف منشآت حيوية بتلك البلدان بإطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية.
والدليل على ذلك أنه حينما تم الإعلان عن اتفاق سلام بين الإمارات وإسرائيل، وجهت طهران تهديد مباشر إلى أبوظبي، على لسان رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء “محمد باقري”، قائلًا، “نهج طهران تجاه الإمارات سيتغير، إذا حدث شيء ما في منطقة الخليج الفارسي وتضرر أمننا القومي مهما كان الضرر صغيرًا، فسنحمل الإمارات مسؤولية ذلك ولن نتهاون معه”، إضافة إلى أنه في يناير الماضي، استهدفت ميليشيا الحوثي ذراع إيران في اليمن مناطق ومنشآت مدنية في دولة الإمارات من خلال صاروخين باليستيين.
والأمر ذاته ينطبق على البحرين، فحينما تم الإعلان عن تعين تل أبيب ملحقًا عسكريًا لدى قيادة الأسطول الخامس الأميركي الذي يتخذ من المنامة مقراً له في أبريل الماضي، هدد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية “سعيد خطيب زاده” البحرين بتعرضها لنفس الهجمات التي وقعت بمدينة أربيل بإقليم كردستان شمالي العراق، بسبب النشاط الإسرائيلي فيها، ولمحت طهران بإطلاق صواريخ بشكل مباشر على الأراضي البحرينية في حال رأت أن الأنشطة الإسرائيلية في المملكة تهدد مصالحها الأمنية.
ولطالما نجحت الأجهزة الأمنية بالبحرين على مدار السنوات الماضية في إحباط مخططات إرهابية للعناصر والجماعات الإرهابية ذات الصلة بإيران، كان آخرها على سبيل المثال لا الحصر، في نوفمبر الماضي، إذ تمكنت الداخلية البحرينية من القبض على خلية إرهابية كان بحوزتها أسلحة ومتفجرات مصدرها إيران، خططت لارتكاب عمليات إرهابية بالبلاد وتبادلت تحويلات مالية مشبوهة مع حزب الله اللبناني الموالي لإيران، وفي يناير 2021، تمكنت الأجهزة البحرينية من إحباط مخطط تشكيل خلية إرهابية تحت مسمى “سرايا قاسم سليماني” مدعومة من الحرس الثوري لتنفيذ أعمال إرهابية بالمنامة.
(*) استعراض القوة العسكرية والنووية: رغم أن الاغتيالات والتفجيرات التي طالت طهران أثبتت ضعف قدرتها الأمنية والاستخباراتية، إلا أنها ستحاول الرد على التقارب العربي الإسرائيلي، باستعراض قوتها سواء أكانت العسكرية أو النووية، وهذا ما حدث بالفعل عقب اغتيال “خدائي”، حينما هدد قائد القوات البرية في الجيش الإيراني العميد “كيومرث حيدري” إسرائيل، بالقول أن بلاده “ستسوي تل أبيب وحيفا بالأرض في حال ارتكاب أي حماقة”، ليس ذلك فقط بل كشف عن “مدينة الطائرات المسيرة” التي يمتلكها الجيش الإيراني، مشيرًا أن الجيش أجرى تحديثًا لجيمع أسلحته وأن مدى الطائرات المسيرة والصواريخ العملياتية للجيش قد ازداد.
وستعمل إيران أيضًا على الاستمرار في تطوير قدراتها النووية، وكانت البداية في 9 يونيو الجاري حينما أعلنت عن تشغل المزيد من أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم ردًا على إصدار الوكالة الدولية للطاقة الذرية قرار ضد طهران التي تعي جيدًا أن تل أبيب تتخوف من حصولها على سلاحاً نووياً وهو ما يدفعها لتحسين علاقتها ببلدان المنطقة للحصول على دعم عربي وغربي للتصدي لأي محاولة من شأنها تطوير البرنامج النووي الإيراني.
(*) استهداف أهداف إسرائيلية: رغم أن الظاهر على الساحة يوحي بأن إيران لا ترد فعليًا على علميات الاستهداف الإسرائيلية لرجالها ومؤسساتها النووية، إلا أن الحقيقة تكشف عن استهداف إيران لبعض الأهداف الإسرائيلية، كان آخرها في مارس الماضي حينما نفذ الحرس الثوري هجومًا صاروخيًا على “مقر للموساد” في أربيل بالعراق، وهو ما نجم عنه مقتل قائد فريق الاغتيالات بالموساد بعد استهدف مركبته بمدينة أربيل، وكان هذا ردًا على استهداف تل أبيب مقرًا للمسيرات الإيرانية غربي البلاد، ولم تتبن طهران تلك العملية، لكونها تتعامل بـ”مبدأ المعاملة بالمثل” في حربها الأمنية والسيبرانية مع إسرائيل التي لم تتبن هي الأخرى عملية واحدة نفذتها بالداخل الإيراني.
وعليه، فمن المتوقع وخاصة بعد نشر تل أبيب لمنظومات رادار متقدمة في دول خليجية واقتربها بذلك من حدود إيران، أن تستعد ميليشا الملالي وتحديدًا في العراق وسوريا خلال الفترة القادمة، لاستهداف منشآت إسرائيلية، خاصة بوجود معلومات تفيد بأن إيران أرسلت في وقت سابق عبر دولة أوروبية صورًا وخرائط لمنشآت إسرائيلية سرية، فضلًا أن طهران ووكلائها قاموا على مدار السنوات الماضية بضرب أهداف إسرائيلية في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا، وهو ما يجعل تل أبيب تواجه معضلة أساسية تتمثل وجود وكلاء إيران بالمنطقة.
(*) التفاوض مع واشنطن: لدى نظام الملالي قناعة أن إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” لا تؤيد توجيه إسرائيل لضربات ضد إيران، لأنها تعى أن تلك الهجمات من شأنها إشعال المنطقة بأكملها، وعليه فإن هذا النظام يرى أن تقاربه مع واشنطن يمكن أن يقوض التعاون العربي الإسرائيلي من ناحية، ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد من ناحية أخري وهذا بدوره سيهدأ من حدة الاحتجاجات بالداخل الإيراني، لذلك من المتوقع أن تواصل إيران مفاوضتها النووية مع أمريكا حتى وإن كان على حساب الإبقاء على وضع الحرس الثوري على قوائم الإرهاب الأمريكية، كما تتجنب طهران الزج بنفسها في أية أزمات تكبدها خسائر لا تتحملها حاليًا، بجانب أن وقوع توترات بالمنطقة سيسهم في الإسراع من تشكيل تحالفات بمشاركة إسرائيل ودول عربية وتركيا وهذا ما لا تريده إيران.
تأسيسًا على ما سبق، فإن إيران ستكثف جميع جهودها خلال الفترة المقبلة لعرقلة أي محاولة من شأنها تعزيز التعاون بين إسرائيل ودول المنطقة، أو توقيع اتفاق سلام مع المملكة العربية السعودية على غرار البلدان الأخرى، وهذا بمحاولة إنجاح المباحثات الإيرانية السعودية الجارية منذ فترة، حيث ترى طهران أن عدم توقيع المملكة اتفاق سلام مع تل أبيب قد يدفع باقي الأنظمة العربية الأخرى إلى اتباع النهج ذاته، وستعمل إيران أيضًا على الاستمرار في مد قنوات التواصل مع دول الجوار خاصة الإمارات التي تحتضن أكثر من نصف مليون إيراني وتشكل ما يزيد عن 10% من التجارة الخارجية لطهران، إلا أن هذا لن يمنعها أيضًا من الاستمرار في توسيع نفوذها الإقليمي ببلدان الأزمات العربية وهذا من شأنه إحداث تغيير جذري في التوازنات بالعالم العربي.