تكامل مشروط: كيف يؤثر محور “فيكتوريا-البحر المتوسط” في تفاعلات أطرافه؟

يعتبر مشروع الخط الملاحي الذي يربط بحيرة فيكتوريا بالبحر المتوسط، أحد أبرز المشروعات الطموحة لدول حوض نهر النيل، حيث يسمح بتوفير منفذ بحري للدول الإفريقية الحبيسة، وتأتي أهمية مشروع الربط الملاحي بين بحيرة فيكتوريا والبحر المتوسط، في إطار تطوير سبل التعاون بين دول حوض النيل، والاستغلال الأمثل لمياه النهر وتعظيم الفوائد لجميع الدول، إذ سيعمل على تعظيم القيمة الاقتصادية والسياسية لنهر النيل، وإحداث نهضة في التعاون والتبادل التجاري بين دول الحوض المختلفة. ويتيح المشروع تيسير النقل التجاري بين دول حوض النيل بتكلفة رخيصة بما يساهم فى تسهيل التجارة البحرية وفتح أسواق تصدير إلى قارة أوروبا والدول العربية عن طريق مصر، بما يساهم فى إنعاش الاقتصاد بالدول الإفريقية ويساعد في رفع معدلات التنمية وخفض نسب الفقر[1].
وتأسيسًا على ما سبق؛ تتناول الورقة التالية أهمية مشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر المتوسط في تعزيز التجارة البينية والتكامل الإقليمي لتعزيز المصالح الأمنية والتنموية بين دول حوض النيل والتحديات التمويلية المحتملة.
مسار المشروع
يربط محور “فيكتوريا-البحر المتوسط” بين هضبة البحيرات الاستوائية وشرق إفريقيا مع البحر المتوسط حيث يبدأ من بحيرة فيكتوريا ثم بقية البحيرات الاستوائية الموجودة في أوغندا حتى يصل إلى حدود السودان وبحر الجبل، ثم منطقة السدود، ويصل إلى النيل الأبيض ويستمر فى مساره حتى يلتقى بنهر السوباط ثم يلتقى بالنيل الأزرق فنهر عطبرة إلى وادى حلفا ومنطقة الشلالات ثم سد مروى بالسودان عن طريق إنشاء هويس خاص بذلك، ثم يصل لبحيرة ناصر حتى يمتد إلى البحر المتوسط عبر “ميناء الإسكندرية” عن طريق فرع رشيد أو “ميناء دمياط” عن طريق فرع دمياط. ويتطلب ذلك أعمال تهذيب على طول مجرى نهر النيل فى مصر[2]. ويمر المشروع بالدول التالية (بوروندي، الكونغو الديمقراطية، كينيا، تنزانيا، السودان، جنوب السودان، أوغندا، ومصر)[3].
يساهم المشروع في إنشاء آلية إقليمية في مجال النقل النهري وفي تطوير مجرى نهري يصل إلى البحر المتوسط. يتضمن المشروع إنشاء ممرات تنمية تشمل مجاري نهرية بنهر النيل وبحيرة فيكتوريا وسكك حديدية وطرق برية وشبكات للإنترنت ومراكز لوجستية وتنمية تجارية وسياحية بين دول حوض النيل، كما يتضمن إنشاء قنوات ملاحية تمنع الفواقد المائية الحالية نتيجة البخر من مستنقعات بحر الغزال في جنوب السودان ومنطقة السدود بقناة جونجلي، وسيتم إنشاء مجموعة من مراكز التدريب والأبحاث بطول المجرى الملاحي[4].
السياق السياسي
يرتبط مستقبل مشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبعد السياسي للحوض. من ناحية، تؤكد مصر والسودان على حقوقهما التاريخية في مياه النيل والضرورة المطلقة لحماية حصتهما من مصادر المياه[5]. من ناحية أخرى، تدعو دول المنابع (أوغندا، تنزانيا، إثيوبيا، كينيا، رواندا، بوروندي، الكونغو الديمقراطية، جنوب السودان) إلى تقاسم عادل واستغلال شامل للموارد المائية لتنميتها. وفي زيارة رسمية إلى القاهرة (أغسطس 2025) قال الرئيس الأوغندي موسيفيني: «وماذا عنّا نحن؟»؛ مشيرًا إلى ما اعتبره تجاهل احتياجات دول المنبع لعقود طويلة، ودعا إلى رؤية تعاونية شاملة تضمن «الكهرباء والزراعة والمياه الصالحة للشرب لجميع شعوب الحوض». وأكد أن مياه النهر «يجب أن تكون مورّدًا مشتركًا لا حكرًا على طرف واحد[6].
بالمقابل شدّد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على التزام مصر بتعاون إقليمي «وفق قواعد القانون الدولي» لحماية النيل باعتباره شريان حياة لا يعوض. وقد وافق الجانبان على مواصلة المشاورات ضمن مبادرة حوض النيل مع مراعاة مصالح الجميع، دون عرقلة التنمية[7].
الفوائد الاقتصادية والتجارية
يقدم محور “فيكتوريا-البحر المتوسط” فوائد اقتصادية ضخمة للدول المشاركة: فهو يخفض تكلفة النقل والوقت بالنسبة للبضائع والركاب في حوض النيل بأكمله. تشير تقديرات البنك الإفريقي للتنمية إلى أن النقل النهري قد يقلّص التكاليف بنسبة تصل 30–40% مقارنة بالنقل البري. بذلك يستفيد اقتصاد الحوض (ذو ناتج محلي إجمالي يقارب 500 مليار دولار ويضم نحو 300 مليون نسمة) من فتح ممر مائي مباشر إلى البحر المتوسط[8].
يُمكّن هذا الربط الدول الحبيسة في وسط وشرق إفريقيا (أوغندا، رواندا، بوروندي، إثيوبيا، جنوب السودان، الكونغو الديمقراطية، إلخ) من الوصول البحري المباشر إلى الأسواق العالمية عبر موانئ شمال إفريقيا[9].
(-) تنمية التجارة والتكامل الإقليمي: يسهم المشروع في إنشاء سوق إفريقي مشترَك ضخم ضمن منطقة COMESA شرق وجنوب إفريقيا وسيزداد حجم التبادل التجاري البيني بين دول الحوض (التي يعاني حاليًا من تكاليف نقل مرتفعة للغاية تصل إلى 30% من قيمة البضاعة مقارنة بمعدل عالمي ~9%). عبر الربط الملاحي، تقلّ الحاجة للمرور الإلزامي عبر موانئ بعيدة مكتظة (مثل مومباسا ودرب الملاح)، مما يزيد تنافسية الصادرات والربط بين المتنقلات الإفريقية.[10]
(-) توفير وظائف وتحفيز الصناعات المحلية: من المتوقع أن يخلق المشروع عشرات الآلاف من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة في مراحل الإنشاء والتشغيل[11]، ستحتاج الدول المشاركة لبناء موانئ نهرية ومراكز لوجستية، وتدريب كوادر ملاحية وفنية. كما سيدعم هذا نمو قطاعات الخدمات اللوجستية والتصنيع والتحويل الزراعي (سواء لنقل الحبوب، أو المعادن، أو غيرها من البضائع الكبيرة)[12].
(-) فرص تنموية أخرى: يشمل التخطيط للمشروع عناصر متكاملة: إلى جانب الممر المائي نفسه، يرفق به خط سكك حديدية، وطريق بري، وكابل كهرباء، وكابلات معلومات[13]. هذا التكامل يخلق بنى تحتية تعزز أمن الطاقة والاتصالات ويدعم التنمية المتبادلة. إذ يمكن للدول مشاركة قدرة توليد كهرباء (مثلاً توليد أوغندا للطاقة من نهر النيل) عبر شبكة إقليمية، الأمر الذي يعكس شعار المشروع «الازدهار والنماء للجميع». كما يساعد المشروع في تحسين إدارة المياه والفيضانات عبر تنسيق هندسي للنهر وتعزيز الاستفادة من الإيراد المائي حسب الاحتياجات الإقليمية.
التحديات التمويلية وآليات الحل
يرتبط نجاح محور “فيكتوريا-البحر المتوسط” بتأمين تمويل ضخم على مراحل. تُشير الوثائق إلى أن تكلفة الدراسة الأولية (التفصيلية) قد تبلغ حوالي 11.7 مليون دولار، في حين قد تصل تكلفة التنفيذ الإجمالية إلى نحو 8–12 مليار دولار[14]، ولمواجهة هذا التحدي المالي، يُوصى بالآتي:
(*) التنويع في مصادر التمويل: استقطاب تمويل من بنوك التنمية الإفريقية والعالمية (مثل البنك الإفريقي للتنمية، البنك الدولي، البنك الأوروبي للاستثمار، الصناديق العربية التنموية)[15]. يمكن تقديم الدعم لهياكل المرحلة الأولى (دراسات الجدوى والتصميم) بشروط تيسيرية أو منح متعلقة بالبنية التحتية الإقليمية.
(*) الشراكة مع القطاع الخاص: إطلاق استثمارات مشتركة (PPP) لتطوير الموانئ النهرية والمرافق اللوجستية[16]، فمثلاً يمكن لشركات ملاحة خاصة ومشغلي قطارات استئجار أو إدارة أرصفة حاويات ومخازن، بينما تتحمل الحكومات تكاليف الأعمال الهندسية الثقيلة (الترع والموانئ والقنوات).
(*) الاستفادة من المناخ والسياسات: نظرًا للطابع الصديق للبيئة للنقل النهري، يمكن للقطاعات الخضراء العالمية (صناديق المناخ والتنمية المستدامة) تقديم دعم ممول. كما أن اتحاد المغرب العربي أو الاتحاد الإفريقي قد يسهّل تناسق السياسات والحوكمة بين الدول المشاركة.
(*) آليات تمويل مصرية قائمة: يمكن البناء على تجربة مصر في دعم مشروعات الحوض، مثل الصندوق المصري لإعمار مشروعات النيل (100 مليون دولار للمشاريع التحتية في حوض النيل)[17]، وتوسيع نشاطه ليشمل هذا الممر الجديد. واستعداد مصر لتمويل سد أنجلولو بين أوغندا وكينيا عبر القروض والقروض الميسرة.
دور الشركات المصرية
في قلب القارة السمراء، برزت الشركات المصرية كقوة إنشائية قادرة على تنفيذ مشروعات عملاقة. ويأتي في المقدمة مشروع سد ومحطة جوليوس نيريري الكهرومائية في تنزانيا، ويُعد المشروع من أضخم المشروعات التنموية في شرق إفريقيا بطاقة إنتاجية تصل إلى 2,115 ميجاوات. وتولّى تنفيذه تحالف مصري يجمع بين شركة المقاولون العرب وشركة السويدي إلكتريك، حيث قامت الأولى بأعمال البنية الإنشائية الضخمة من جسم السد والأنفاق والجسور، بينما تكفّلت الثانية بالأعمال الكهروميكانيكية المعقدة، بما في ذلك تركيب التوربينات وأنظمة ربط الكهرباء بالشبكة الوطنية. المشروع لم يكن مجرد إنجاز هندسي بل أيضًا دبلوماسية تنموية عزّزت حضور القاهرة في محيطها الإفريقي، وأظهرت أن الكفاءات المصرية قادرة على منافسة الشركات العالمية في مثل هذه المشاريع العملاقة[18].
إلى جانب هذا المشروع، واصلت أوراسكوم كونستركشن نشاطها في القارة عبر تنفيذ محطات طاقة وبُنى تحتية في عدة دول إفريقية، مُعتمدة على خبرتها الطويلة كمقاول عالمي متعدد التخصصات، فتولت أعمال EPC لإنشاء محطة تحلية مياه بصفاقص في تونس بحصة بارزة ضمن تحالف دولي[19].
الخلاصة؛ يمثل محور “فيكتوريا-البحر المتوسط” خطوة رائدة نحو تحقيق رؤية «تنمية وازدهار للجميع» في حوض النيل. سيحقق تكاملًا إقليميًا واسعًا يدعم التجارة والنمو ويعزز الروابط السياسية بين دول المنبع والمصب. ورغم التحديات التمويلية الكبيرة، فإن التزام الدول المعنية (لا سيما مصر وأوغندا) وتعاون المؤسسات المالية والقطاع الخاص يمكن أن يخلق واقعًا تنمويًا جديدًا. إن إشراك الشركات المصرية الكبرى، والاستفادة من التمويل الدولي، واتباع رؤية متوازنة لإدارة موارد المياه والطاقة، سيحول هذا الحلم إلى واقع ملموس يعود بالنفع على شعوب دول حوض.