د. محمود محيي الدين يكتب: البحث عن إقليم!

منذ نحو مائتي عام كانت الصين والهند الاقتصادين الأهم عالمياً، ثم غادرهما قطار الزمن لنحو قرنين، فانتقل مركز الجاذبية الاقتصادية نحو الغرب الذي انتقلت به الثورة الصناعية لرحاب التقدم. ثم ها هي الصين والهند تتداركان ما فاتهما بإصلاحات نهضت باقتصاديهما على مدار العقود الأربعة الأخيرة، لتحتلا المركزين الثاني والثالث عالمياً، بعد الولايات المتحدة المستمسكة، حتى الآن، بالمركز الأول. فينتقل مركز الجاذبية الاقتصادية إلى الشرق مرة أخرى، ويدعم هذا الانتقال ما صار من تطور في اقتصادات الجوار المتمثلة في تجمع «آسيان»، وكوريا وبلدان أخرى ناهضة في شرق العالم.
وما كان لمثل هذا التحول الدرامي ليجري بيسر من الغرب إلى الشرق فتبادر الدول منحسرة القوة لتقديم التهاني والتبريكات للبلدان بازغة التأثير لمكاسبها المتوالية، وتنافسيتها في مضامير التجارة والاستثمار والتحول الرقمي والاستدامة بالمعايير والنظم ذاتها التي طوَّرها الغرب في مراحل صعوده. فلا تحسبن أن تواتر حديث الصراعات الجيوسياسية آتٍ من فراغ.
يتزامن مع هذا تراجع مطرد في مكاسب الطبقة الوسطى وفرصها ومزاياها في أوروبا الوجلة على منافع دولة الرفاه، وفي الولايات المتحدة المهمومة بتباعد فرص تحقق الحلم الأميركي، الذي لطالما شغل ألباب قاطنيها بإمكانية تحقيق فرص الثراء.
ويشير تقرير عن التفاوت في توزيع الدخل والثروة قُدم لمجموعة العشرين التي رأستها جنوب أفريقيا، أن 1 في المائة من سكان العالم يستحوذون على 41 في المائة من الثروة، بينما لا يتجاوز نصيب الخمسين في المائة الأدنى دخلاً نسبة 1 في المائة من الثروة. وفي مقال مشترك نشرته صحيفة «الفاينانشال تايمز» الشهر الماضي، دعا الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، ورئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا إلى توجيه نداء لتأسيس لجنة دولية لمواجهة عدم العدالة في توزيع الدخل والثروة.
وفي هذه الأثناء تتزايد سيطرة حالة من الغموض سياسياً واللايقين اقتصادياً على التوجهات العالمية. وهي حالة لا يربح، أو بالأحرى لا يتربح، فيها إلا المغامرون والمقامرون والمجازفون وتجار الأزمات القائمة والمفتعلة. وهي الحالة ذاتها التي يكثر فيها الحديث عن تفاقم الفقاعات المالية تضخماً بتخرصات عن احتمالات انفجارها محدثة أزمة محدودة على غرار ما حدث في مطلع القرن لشركات تكنولوجيا المعلومات بما عرف بأزمة الدوت كوم، أو أزمة عميقة وواسعة كما حدث في الأزمة المالية العالمية لسنة 2008. ومع الانشغال بفقاعات المال لا يمكن تجاهل الفقاعات الأخطر المتمثلة في الظواهر المحيطة بالإجراءات الشعبوية التي يتبارى في اتخاذها والترويج لها من أتت بهم أجواء الاحتقان والتطرف المتزايدة منذ الأزمة المالية العالمية.
في ظل هذه التطورات، هناك ثلاثة توجهات محتملة: الأول تصور أن التغيرات المشهودة في الساحة العالمية مؤقتة، وأن ما يتطلبه الأمر هو إصلاح ما هنا أو هناك في المؤسسات والمنظمات الدولية، مع الأمل في التئام أسباب التصدعات الجيوسياسية. وهذا يندرج في باب مخاطر التعلق بحبال الآمال الواهية، التي لا تأتي بمكاسب سواء سلمت الحبال أو تقطعت. فإن هي سلمت فلا معنى لذلك إلا استمرار أوضاع لم يكن فيها لبلدان عالم الجنوب شأن يذكر إلا قليلاً، وإن هي انقطعت، من دون التحوط ضد انقطاعها، لتضررت البلدان التي اعتمدت على التعلق بها بلا بديل.
التوجه الثاني، هو نهج توطين التنمية بالاستثمار في البشر، ولا أقول السكان. فالتعامل مع البشر باعتبار جزئي بأنهم ساكنو دولة ما؛ أسهم في توجيه السياسات والقائمين عليها توجيهاً «مالثوسياً» نسبة إلى توماس مالثوس الباحث البريطاني المشهور بنظرياته التي انتشرت في القرن التاسع عشر عن التكاثر السكاني، وأن السكان يزيدون عدداً بمتوالية هندسية بينما يرتفع الإنتاج الزراعي بمتوالية عددية، بما سيؤدي إلى نقص في الغذاء وعجز في أماكن السكن. وقد أثبت الزمن خطأ نظرية مالثوس التي أغفلت، فيما أغفلت، أثر التكنولوجيا في ارتفاع الإنتاجية وزيادة غلة الأرض، وكذلك إمكانية الانتقال والهجرة وآثارها في عمارة الأرض، فضلاً عن تطور هندسة المدن والمباني وتخطيط العمران. وهذا كله يساند الاستثمار في البشر تعليماً ورعاية صحية، وتوفيراً للبنية الأساسية والتكنولوجية التي تسمح للبشر بالإبداع والابتكار والإنتاج والتطوير، على النحو الذي شهدته بلدان محدودة الموارد الطبيعية مثل كوريا وسنغافورة من تحديث وتطور جعلهما في مقدمة تصنيفات البلدان.
التوجه الثالث، هو التنمية الإقليمية؛ إذ يمكن أن توجد الأقاليم الاقتصادية في حدود الدولة الوطنية، إذا سمح عدد سكانها ومساحتها بأن تقسم إلى أقاليم تتخصص في مجالات وفقاً لمزاياها النسبية والتنافسية. ولكن المقصود هنا هو التعاون الإقليمي بين دول الجوار الجغرافي، أو فيما يتجاوز القرب الجغرافي الملاصق، بفعل تيسير سبل النقل والسفر، بما يحقق زيادة في التجارة البينية، مع زيادة مخاطر الحروب التجارية، بخاصة من قِبل الولايات المتحدة. كما يزيد من فرص الاستثمار في ضوء ما تفرضه بلدان متقدمة من قيود على الاستثمارات الأجنبية. كما يمنح مجالات لانتقال العمالة المنظمة مع زيادة الموجات المنفرة والطاردة للهجرة لأسباب سياسية وعنصرية، رغم المزايا الثابتة لأثر المهاجرين الإيجابي على الإنتاجية والتنافسية، بخاصة في البلدان التي تميل فيها التركيبة السكانية نحو كبر المتوسط العمري.
وتتجلى الفرص الإقليمية في قارة أفريقيا التي يبلغ فيها الوسيط العمري 19 عاماً، في حين يبلغ نحو 43 عاماً في أوروبا، وذلك في قارة ذاخرة بمكونات صناعات المستقبل.
نقلا عن جريدة الشرق الأوسط.