محطات في حياتي.. المحطة الثانية عشرة

ولاء حافظ •• الرواية الكاملة لبطل جسّد معنى الإرادة الإنسانية
بداية الحكاية •• عندما يضع الله في طريقك رجالاً من نور:
في مسيرة الحياة يقف الإنسان أحياناً أمام محطات تُصبح علاماتٍ مضيئة في عمره، لا بسبب أحداثها فقط، بل بسبب الأشخاص الذين ارتبطت بهم. وهنا تبدأ حكايتي مع القبطان ولاء وائل عباس حافظ؛ رجلٌ لو لم يكتبه التاريخ لكتبته القلوب. لقد كانت علاقتي به علاقة محبة صادقة، علاقة لم تُبنَ على مصالح ولا على مجاملات، بل على احترام عميق وتقدير ممتد وتوافق روحي قلّ حدوثه في حياة البشر. ولعل سبباً من أسباب عمق تلك العلاقة يعود إلى أن عمه اللواء وسام عباس حافظ (أحد أبطال المجموعة 39 قتال) كان منذ شبابي قدوةً ومثلاً أعلى لي ورمزاً من رموز الرجولة والوطنية والعسكرية، ثم شاء الله أن تجمعني الأيام بابن من أبناء ذلك البيت العريق، بيت الرجال الذين صنعوا للوطن تاريخاً لا يزول.
إن ذكر هذه النقطة ليس تفصيلاً عابراً، بل هو مفتاح لفهم جذور هذا البطل؛ لأن الرجولة لا تولد فجأة، بل تُنحت عبر أجيال. فجده اللواء عباس حافظ من الضباط الأحرار الأوائل، ووالده اللواء وائل عباس حافظ من رجال البحرية الذين حملوا أمانة الزي العسكري وشرفه. وعندما يُولد إنسان كهذا في بيت كهذا فلابد أن يكون من طينة أخرى.
ولادة في حضن البحر حين يكون المكان قدراً:
لم يكن البحر في حياة ولاء مجرد مساحة زرقاء، بل كان هوية وكياناً. وُلد ولاء وكأن الموج ينتظره، وكأن الأفق البحري يعرف اسمه قبل أن ينطق به أحد. نشأ في بيت يعرف معنى الانضباط، ومعنى القوة، ومعنى أن يكون الرجل ابن الوطن، ولهذا لم يكن دخوله القوات الخاصة البحرية – الضفادع البشرية – مجرد اختيار وظيفي، بل كان استجابة لنداء داخلي.
في وحدات الضفادع البشرية لا يُصنع الرجال، بل يُختبرون. وهناك تشكّل ولاء كما تُصنع السهام والسيوف: ليالٍ طويلة، وصمت البحر، وقسوة التدريب، وصرامة الانضباط، ومسؤولية المهام، وتدريب يجعل الجسد يصرخ لكن الروح تصمت لتسمو.
ولاء في تلك الأعوام لم يكن مجرد ضابط، كان مشروع بطل؛ كان يتمتع بالصلابة والتركيز والهدوء والطموح الذي لا يعرف سقفاً. لكن القدر كان يُعدّه لشيء آخر.
السقوط الأول •• بداية الميلاد الجديد:
تعرض ولاء لإصابة قوية في العمود الفقري خلال إحدى المهام، إصابة أنهت خدمته العسكرية رسمياً، لكنها لم تُنهِ ارتباطه بالمكان الذي أحبّه.
خرج من القوات المسلحة، ولكن لم يخرج من روح المقاتل، بل أعاد الله توجيه طريقه حيث تم تعيينه مرشداً بهيئة قناة السويس. وهنا برزت شخصية ولاء الحقيقية؛ فالرجل لم يبكِ على الماضي ولم يتوقف عند ألم الإصابة، بل تعامل معها كما يتعامل البحّار مع العاصفة: ينحني حتى تمر، ثم يعود ليقف منتصباً.
كان يعرف أن الله لا يأخذ إلا ليعطي، وأنه لم يأتِ بعد وقتُ أخذ البطولة الكبرى.
الرقم العالمي الأول •• حين يغوص البطل ويقاوم الزمن:
في عام 2015 قرر ولاء أن يخوض تحدياً غير تقليدي وهو تحطيم الرقم العالمي لأطول غطسة في المياه المفتوحة. لم يكن القرار مجرد رياضة، بل كان إثباتاً للذات وإعلاناً للعالم أن البطل لا يُهزم.
وبالفعل غاص في البحر الأحمر حيث استمر تحت الماء 51 ساعة و24 دقيقة و13 ثانية.
إنجاز عالمي دخل به موسوعة چينيس وجعل العالم يقف مذهولاً أمام قدرة بشرية خارقة على التحمل. لكن ولاء كان يعرف أن هذا الإنجاز مجرد بداية.
الحادث القاسي •• اللحظة التي تهدم الجسد ولا تهدم الروح:
بعد سنوات قليلة حدث ما لم يكن في الحسبان: حادثُ سيارة مروّع أدى إلى إصابته بشلل رباعي كامل، وفقدان نطق، وفقدان قوة، وفقدان سيطرة على الجسد.
جسدٌ سقط، ولكن القلب لم يسقط.
عقلٌ توقّف قليلاً، لكن الإرادة لم تتوقف.
إنسانٌ عانى، ولكنه لم يستسلم.
سنوات من العلاج والألم والعمليات وفقدان الحركة وفقدان الأمل أحياناً، لكنها كانت مرحلة إعداد وليست نهاية.
ولم يكن وحيداً:
زوجته العظيمة كانت معه صابرة، مؤمنة، قوية، مُحتسبة؛ امرأة تحمل قلباً يوازي الجبال.
أبناؤه كانوا رسالته ودافعاً يومياً للاستمرار.
وأسرته – عائلة البطولة – كانت خلفه كالسور المنيع.
العودة المستحيلة •• عندما يقرّر المقاتل تحدي قوانين الطب:
قال الأطباء:
هذا مستحيل.
وقال المتخصصون:
النتيجة قد تكون كارثية.
لكن ولاء قال:
لا مستحيل مع الله.
وقرر أن يعود للغوص.
رجلٌ مشلول يعود للبحر؟
نعم، لأن البحر كان وطنه، وكان يعرف أن في حضن البحر سيعود للحياة.
ونزل للماء وغاص، وكتب اسم مصر مرة أخرى في التاريخ؛ غطس 6 ساعات و4 دقائق و45 ثانية، محققاً رقماً عالمياً جديداً كأول رجل شلل رباعي يدخل موسوعة چينيس.
هذا لم يكن غوصاً بل كان ولادة جديدة، وكان رسالة للعالم أن الإعاقة ليست في الجسد بل في العقل الذي يستسلم.
تكريم البطل •• قرار رئيس الجمهورية والاعتراف الرسمي:
لم يمر إنجاز ولاء مرور الكرام؛ فالدولة المصرية حين ترى من يستحق تكرّمه بما يليق بقيمته.
صدر قرار رئيس الجمهورية بتعيينه عضواً في مجلس الشيوخ المصري.
لم يكن التكريم سياسياً، بل كان إنسانياً؛ اعترافاً بأن هذا الرجل لم يعد مجرد مواطن، بل أصبح رمزاً.
الجانب الإنساني •• قلب أكبر من الألم:
ولاء حافظ ليس مجرد بطل أرقام، بل بطل إنسانية.
جلساته مليئة بالطمأنينة، حديثه بسيط لكنه عميق، ابتسامته تُخفي جبالاً من الألم لكنها تضيء المكان.
زوجته امرأة عظيمة، صبورة، قوية، تقف بجانبه بلا تردد. كانت ومازالت أماً وأختاً وصديقة وزوجة ورفيقة معركة.
أبناؤه مصدر قوته؛ كانوا السبب الأول في نهوضه.
عائلته بيتٌ من ذهب؛ منهم تعلّم ولاء أن الرجولة لا تُشترى بل تُربّى وتتوارث.
الدروس المستفادة •• إرث للأجيال القادمة:
من قصة ولاء نتعلم:
-أن الإنسان أقوى بكثير مما يظن.
-أن المحن قد تُصبح منحاً حين يواجهها الإنسان بالإيمان.
-أن الأسرة سندٌ لا يُقارن.
-أن الوطن يحتضن أبناءه العظماء.
-وأن الإرادة يمكنها أن تهزم قوانين الطب والعلم.
الرسالة الإنسانية الخالدة •• إرادة أقوى من البحر وأعمق من الجراح:
ولاء حافظ ليس قصة رجل، بل قصة إنسانية كاملة؛ قصة تُكتب في كتب الحياة لا في كتب الرياضة، قصة تُدرّس في الجامعات لا في صالات التدريب، قصة تُبكي القلب وتنهض الروح في الوقت ذاته.
في ملامحه ترى معنى الصبر، وفي صوته تسمع حكمة الألم، وفي عينيه تلمع شرارة رجل يعرف أن الله اختاره ليكون رسالة.
ولاء لا يقدم درساً واحداً، بل يقدم عشرات:
.أن الشلل لا يهزم الروح.
.أن السقوط لا يعني النهاية.
.أن المعركة الحقيقية داخل الإنسان لا حوله.
.وأن البحر رغم عمقه لا يساوي عمق الإرادة.
ولاء حافظ يقدّم للعالم فلسفة كاملة: “لا تدع العجز يعرّفك •• دعك أنت من تعرّف العجز”:
رسالته للشباب: لا تتوقفوا ولا تستسلموا؛ فكل سقوط هو مقدمة لصعود أعظم.
رسالته للعالم: أن الإنسانية قادرة على صنع معجزات إذا وجدت قلباً لا يعرف الهزيمة.
رسالتي له: لقد علمتنا يا ولاء معنى البطولة؛ علمتنا أن النفوس الكبيرة لا تُقاس بالجسد بل بالأثر، وأن الرجال العظماء هم الذين يصنعون من الألم وطناً جديداً يسكن في قلوب الناس.
ولاء حافظ ليس بطلاً عادياً؛ إنه تاريخ ومدرسة ومُشعل نور للأجيال القادمة، وسيظل مرجعاً لكل من يريد أن يفهم معنى الإرادة ومعنى الرجولة ومعنى الإنسان.