لواء أحمد زغلول يكتب: محطات في حياتي.. المحطة التاسعة

قفزة الألم والإصرار – من الميدان إلى دروس الحياة
في عام 1985 كنت أحد طلاب الكلية الحربية في الفرقة الثالثة، أتهيأ لاجتياز فرقة المظلات، وهي إحدى المراحل الحاسمة في إعداد الطالب الضابط لما تحمله من تحديات بدنية ونفسية تثبت معدن الرجال وتصنع من الإرادة واقعًا ملموسًا.
كانت أيامًا مليئة بالحماس والتعب تختبر فينا الصبر والانضباط وتغرس معنى البطولة والتضحية في أدق تفاصيل اليوم، لكن القدر شاء أن أتعرض لإصابة قوية في القدم أثناء التدريب.
كانت إصابة مؤلمة حدّ أني خُيّلتُ للحظة أن هذه الحادثة قد تكون سببًا في إلغاء اشتراكي بالفرقة، وأن حلمي في الحصول على شارة المظلات سيتبدد أمامي.
عشت أيامًا عصيبة من القلق والخوف بين ألم الجسد وخشية ضياع الهدف، وكانت حالتي النفسية في أدنى درجاتها حتى شعرت أنني أقف على حافة الانهيار.
روح الزملاء •• درع من الدعم والإخلاص
لكن في الميدان لا يُترك أحد خلف الصف. وجدت زملائي إلى جواري في موقف سيظل محفورًا بذاكرتي، لم يتركوني لحظة واحدة؛ كانوا يواسونني ويشدّون من أزري، يحملون عني بعض المعاناة ويمنحونني الثقة بأنني قادر على تجاوز الإصابة، وأن ما بدأته يجب أن يكتمل.
تلك الروح الجماعية كانت السند الحقيقي؛ فالإخلاص بين الزملاء في الميدان لا يُعلَّم بالكلمات بل يُختبر بالمواقف، وكان دعمهم لي حافزًا قويًا جعلني أواصل رغم الألم.
القائد الإنسان خفيف الظل
في خضم تلك الظروف القاسية لفت انتباهي النقيب محمد عبدالنور الشيخ، الذي لم يكن معلمي أو قائدي في الفرقة، لكنه كان ضابطًا من طراز خاص.
رآني أتدرب وأنا مصاب، ولمح في ملامحي القلق من احتمال إلغاء الفرقة، فاقترب مني مدفوعًا بإنسانيته وتعاطفه، وشجعني بكلمات لن أنساها ما حييت.
طمأنني أن الله لا يضيع أجر من صبر واجتهد، وأن مثابرتي لن تذهب هباءً. كانت كلماته القليلة لكنها الصادقة وقودًا أضاء عزيمتي وجعلتني أستعيد توازني وثقتي بنفسي.
كان النقيب محمد وقتها رياضيًا فذًّا في لعبة الإسكواش، يتمتع بلياقة عالية وانضباط ذهني نادر، وكان ضمن فريق القفز الحر، وقد انعكس ذلك على شخصيته الهادئة والقوية في آنٍ واحد.
لقد مثّل في نظري نموذجًا ملهِمًا للقائد الذي يجمع بين الصرامة والرحمة، وبين الاحتراف والإنسانية.
ولعل الأقدار الجميلة لا تأتي كثيرًا؛ فقد جمعتني به بعد سنوات طويلة صدفةً نادرة حين أصبح رئيسي المباشر في إحدى الجهات الأمنية، وهناك تعلّمت منه مجددًا دروسًا عميقة في القيادة والالتزام.
فقد كان مثالًا للقائد الذي يرعى مرؤوسيه، ويسأل عنهم ويوجههم برقي واحترام، علّمني أن القيادة ليست رتبة ولا سلطة، بل رسالة ومسؤولية، وأن النجاح الحقيقي هو أن تزرع أثرًا طيبًا في نفوس من تعمل معهم.
الشهيد النقيب محسن باهي •• المعلّم والقدوة
ومن المواقف التي لا تُنسى في تلك الفترة حادث استشهاد النقيب محسن، أحد معلمينا وقدوتنا في فرقة المظلات. كان رجلًا دمث الخلق، دائم الابتسامة، قريبًا من قلوبنا جميعًا.
وفي يوم الحادث كان يحدّثنا قبل القفزة عن مولوده الجديد الذي رزقه الله به، ووعدنا بأنه سيقيم لنا احتفال “السبوع” عقب انتهاء الفرقة.
ولكن شاء الله أن تكون تلك القفزة آخر عهده بالدنيا؛ إذ لم تُفتح مظلته بالكامل أثناء القفز، فسقط أمام أعيننا، ورأينا مشهد استشهاده في لحظة صمتٍ مهيبة لا تُنسى.
كان وقع الحادث علينا عظيمًا، وزادت قسوته لأننا كنا على موعد مع القفزة النهائية في اليوم التالي، وهي الفقرة التي يتوّج بها المتدربون جهودهم الطويلة في فرقة المظلات.
كانت الليلة السابقة لتلك القفزة من أصعب الليالي في حياتي، امتلأت بالأسى والحزن والخوف، خصوصًا وأنا مصاب في قدمي لا أزال أقاوم الألم والرهبة.
ومع ذلك، في صباح اليوم التالي شعرت أن الإصرار الذي بُعث في قلبي كان أكبر من الألم، وأن علينا جميعًا أن نُكمل ما بدأناه وفاءً لروح الشهيد الذي علّمنا معنى التضحية حتى آخر لحظة.
القفزة الأخيرة •• مكافأة الصبر على البلاء
عندما حانت لحظة القفزة الأخيرة كنت أعلم أنها ستكون الفيصل بين النجاح والتراجع، بين أن أُكمل ما بدأت أو أن أُهدر ما حلمت به طويلًا.
ورغم أن إصابتي كانت لا تزال مؤلمة، كانت تلك القفزة أسهل وأجمل قفزة نفذتها في حياتي.
شعرت كأن الله تعالى يُكافئني على صبري وثباتي وعلى عزيمتي التي تحدّت واقعًا مؤلمًا كاد أن يحرمني شرف الحصول على شارة فرقة المظلات.
كانت تلك القفزة بالنسبة لي قفزة الإيمان قبل أن تكون قفزة في الهواء؛ قفزة من الضعف إلى القوة، ومن الألم إلى المجد، ومن الخوف إلى الطمأنينة.
لقد أيقنت حينها أن الصبر على البلاء طريق إلى العطاء، وأن الله لا يخذل من صبر واحتسب.
اللقاء بعد الأعوام الطويلة •• استمرار الأثر وبقاء القيم
مرت الأعوام وتبدلت المواقع، لكن تلك التجربة ظلت حاضرة في وجداني، تذكّرني دائمًا أن القيادة موقف، والبطولة سلوك، والوفاء مبدأ.
ثم شاءت الأقدار أن يجمعني العمل مجددًا بالنقيب محمد عبدالنور الشيخ بعد أن أصبح رئيسًا لي أثناء عملي في إحدى الجهات الأمنية.
كانت تلك الصدفة من أجمل محطات حياتي، لأنني عملت تحت قيادة إنسان تعلمت منه ما لم أتعلمه من الكتب أو الدورات.
كان حريصًا على توجيهي، يسأل عني باستمرار، ويشاركني بخبراته بتواضع القائد الواثق ونبل الإنسان الحقيقي.
ومن خلاله تعلمت كيف يكون النجاح الجماعي أهم من النجاح الفردي، وكيف يُبنى التاريخ المهني بالخلق أولًا قبل الخبرة والسلاح.
الدروس والعِبر من هذه المحطة
1. الإيمان بالقدر لا يُعارض العمل الجاد: ما يُصيب الإنسان من بلاء قد يكون بابًا لنجاحٍ أعظم إذا قابله بالصبر والثقة بالله.
2. روح الفريق أساس الانتصار: لا يكتمل نجاح الفرد دون دعم زملائه؛ فالقوة الجماعية هي ما تصنع الفارق في الميدان وفي الحياة.
3. القيادة بالقدوة لا بالأوامر: القائد الحقيقي هو من يمدّ يده وقت الشدة، ويمنح الكلمة الطيبة قبل التوجيه.
4. الوفاء للشهداء والمعلمين: تذكّر من قدّموا أرواحهم أو علمهم واجب وطني وإنساني يخلّد أثرهم في الأجيال اللاحقة.
5. الرياضة والقيادة وجهان للانضباط: كما كان اللواء محمد عبدالنور الشيخ رياضيًا فذًّا في الإسكواش، كذلك كان في القيادة، يجمع بين القوة والاتزان، وبين التركيز والروح الجميلة.
6. الإصرار والمثابرة طريق الشرف: كل صعوبة تُقابل بالعزيمة تتحول إلى إنجاز، وكل ألم يُحتمل بصبر يتحول إلى وسام.
دروس من سماء التجربة وأرض الواقع
كانت تلك المحطة من حياتي علامة فارقة بين الألم والأمل، بين الضعف البشري والقوة التي يمنحها الإيمان بالله والعزيمة على النجاح.
لقد أدركت أن ما يواجهه الإنسان من ابتلاءات ليس نهاية الطريق، بل بداية اختبار حقيقي لمدى صلابته وإصراره على بلوغ هدفه.
ورغم إصابتي الخطيرة في القدم، كانت القفزة الأخيرة التي خضتها في ختام فرقة المظلات أسهل وأجمل قفزة أنجزتها في حياتي؛ كأن الله تعالى أراد أن يُكافئني على صبري وثباتي، وأن يمدّني بطاقة خفية تجاوزت حدود الألم والخوف.
شعرت وقتها بأن السماء احتضنتني كما يحتضن الوطن أبناءه الصادقين، وأن كل لحظة ألم تحولت إلى معنى سامٍ من معاني الإيمان بالقدر والإصرار على تحقيق الهدف.
ولن أنسى ما تركه الشهيد النقيب محسن فينا من أثر خالد؛ فقد كان معلّمًا وقدوة لا زميلًا فقط.
علّمنا معنى التفاني في أداء الواجب والرضا بقضاء الله، وكان رحيله المفاجئ أمام أعيننا أثناء القفز الحر درسًا بليغًا في أن البطولة الحقيقية لا تقتصر على الميدان، بل تمتد إلى الإخلاص حتى اللحظة الأخيرة من الحياة.
كما سيبقى في ذاكرتي موقف النقيب محمد عبدالنور الشيخ الذي لم يكن قائدي أو معلمي أثناء الفرقة، بل ضابطًا تعاطف معي إنسانيًا حين رآني أتحامل على إصابتي وأخشى إلغاء الفرقة.
لم يكن بيننا حينها سوى رابط الزمالة العسكرية، لكنه بإنسانيته النبيلة شجعني وطمأنني، فكان ذلك التشجيع بمثابة بلسم أعاد الثقة إلى نفسي.
ثم شاءت الأقدار أن تجمعني به مرة أخرى بعد أعوام طويلة عندما التحقت بالعمل في إحدى الجهات الأمنية ليكون رئيسي المباشر ومعلمي الحقيقي في الحياة العملية، صدفة نادرة تُثبت أن العلاقات الإنسانية الصادقة لا تنتهي، بل تمتد بتقدير وتواصل واحترام.
كان اللواء محمد عبدالنور الشيخ رياضيًا فذًّا في لعبة الإسكواش، يجمع بين اللياقة الجسدية والانضباط الذهني، وهما سمتان تميّزان القائد الحقيقي.
ومن خلال العمل معه تعلمت أن القيادة ليست سلطة ولا رتبة، بل رسالة ومسؤولية قوامها الرحمة والقدوة والقدرة على احتواء الآخرين.
وهكذا خرجت من تلك التجربة وقد أدركت أن: الإيمان بالقدر لا يعني الاستسلام، بل الرضا الممزوج بالعمل. الإصابات لا تُقصي الأبطال، بل تصنع فيهم عمقًا جديدًا من القوة. القائد والرفيق والمعلم، كلٌّ منهم يترك بصمته في حياة المقاتل الشريف.
خاتمة، إنها محطة من محطات حياتي أفتخر بها؛ لأنها لم تكن مجرد تدريبٍ عسكري، بل كانت تجربة إنسانية وروحية عميقة، صاغت شخصيتي، وعلّمتني أن التحدي يولّد النجاح، وأن الصبر على البلاء هو جسر العبور نحو التميّز والخلود.
فمن يقف على أرض الميدان مؤمنًا بعدالة قضيته، متمسكًا بعقيدته العسكرية، ومحتسبًا جهده لله وللوطن، فإن الله يُكافئه دائمًا بقفزةٍ ناجحة مهما كان ثِقل الألم أو قسوة الرياح.