الإكتناز والشمول المالى فى المجتمع المصرى

عبدالفتاح الجبالي- رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الأسبق.
أعاد إلى الأذهان وجود ما تقرب قيمته من ربع مليار جنيه (بالجنيه المصرى والعملات الأجنبية والذهب) فى منزل أحدى سيدات الأعمال، الحديث عن الإكتناز بالمجتمع. خاصة أنها ليست المرة الأولى التى تحدث فيها هذه المسألة.
فهناك المئات من القصص المشابهة تماما وبأحجام مختلفة من النقود. وكلها تؤكد حقيقة واحدة وهى أن اكتناز الأموال فى صورة سائلة أو مشغولات ذهبية مازالت تعد إحدى السمات الأساسية للمجتمع المصرى، رغم المجهودات العديدة التى تبذل فى سبيل تعزيز الشمول المالى عن طريق إتاحة واستخدام كل الخدمات المالية لمختلف فئات المجتمع من خلال القنوات الرسمية، بما فى ذلك الحسابات المصرفية والتوفير وخدمات الدفع والتحويل وخدمات التأمين والائتمان.
وهناك العديد من المؤشرات التى تشير إلى ارتفاع معدل الإكتناز بالمجتمع والذى ظهرا جليا فى الأموال التى تتوجه إلى شركات توظيف الأموال منذ ثمانينيات القرن الماضي، علاوة على تلك التى استثمرت فى شهادات قناة السويس وغيرها الكثير.فعلى الرغم من ارتفاع عدد المواطنين المشمولين ماليا، أى الذين يملكون حسابات تمكنهم من اجراء معاملات مالية سواء فى البنوك أو البريد المصرى أو محافظ الهواتف المحمولة أو البطاقات المسبقة الدفع، لتصل إلى نحو 52مليون فرد أى نحو 75% من المواطنين (15 سنة فأكثر) إلا أنها ترجع بالأساس إلى مجموعة الإجراءات التى قامت بها الحكومة المصرية مثل دفع الرواتب والأجور والمعاشات عن طريق البطاقات الائتمانية، الأمر الذى تطلب فتح المزيد من الحسابات المصرفية لدى الجهاز المصرفى أو توفير البريد.على العكس من ذلك تشير المؤشرات الإحصائية إلى العديد من الظواهر المهمة التى تؤكد استمرار تفضيل التعاملات النقودية داخل المجتمع على التعامل مع الجهاز المصرفى ومن أهمهاانخفاض عدد الشركات التى تتعامل مع البنوك، فإن 40% من شركات القطاع الخاص المنظم لا تملك حسابات فى البنوك ولا تتعامل مع الجهاز المصرفى على الإطلاق، وينطبق نفس القول على القطاع غير المنظم. إذ تشير بيانات التعداد الإقتصادى للمنشآت إلى أن عدد المنشآت الحاصلة على قروض من القطاع غير الرسمى بلغت نسبة 1.26% من الإجمالي.
وعلى الجانب الآخر هناك ارتفاع نسبة النقد المتداول خارج الجهاز المصرفى فى هيكل السيولة المحلية جنبا الى جنب مع انخفاض نصيب الودائع المصرفية وانخفاض النقد المتداول من العملات فئات العشرين جنيها والفئات الأقل، مقابل الزيادة الكبيرة فى العملات فئتى (مائة جنيه ومائتا جنيه) وهنا تجدر الإشارة إلى أن معظم البلدان التى تبنت الشمول المالى منهجا لها قامت بسحب الأوراق النقدية ذات الفئات الكبيرة من التداول وذلك بعد أن أثبتت الدراسات أن العملة ذات الفئات الكبيرة تلعب دورا مهما فى انتشار الفساد والدخول غير المشروعة
يضاف إلى ما سبق عدم نجاح الجهاز المصرفى حتى الآن، فى تقديم الخدمات المصرفية المطلوبة فى الريف والقري، ولا الوجود بالقرب منهم وفى أماكن يسهل الوصول اليها. فعلى الرغم من توسع البنوك فى إنشاء العديد من الفروع فإنها مازالت لا تتناسب مع عدد السكان من جهة، وأيضا تعانى من مشكلة التركز، إما فى القاهرة الكبرى أو بعض المحافظات الحضرية وفى مدن هذه المحافظات، ولم تحقق الانتشار المصرفى المطلوب فى كل مدن وقرى مصر. وبالتالى مازالت البنوك غير قادرة على خدمة المواطنين العاديين والفلاح البسيط، ولم تقم إلا بمبادرات محدودة للغاية لاجتذاب هذه الأموال.
كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى هروب الأفراد من الجهاز المصرفى، الذى فشل حتى الآن، على الأقل، فى تغذية الروح الإدخارية لدى المواطن العادي. وذلك نظرا لتعقيدات المعاملات البنكية أو لسيادة انطباع لدى البعض بسوء المعاملة وتكلفتها، ناهيك عن بعض الأسباب الخاصة بالقيم والأوضاع الإجتماعية والإقتصادية السائدة.
يضاف إلى ما سبق فإن الحكومات المتعاقبة لم تتمكن من إيجاد كيانات استثمارية مناسبة تتمكن من جذب هذه الأموال، فعلى الرغم من الحديث المعاد والمكرر حول تشجيع المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر فإنها لم تتحول بعد إلى سياسات محددة، رغم صدور العديد من القوانين بشأن المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر خاصة فيما يتعلق بالمزايا الضريبية والجمركية.
إذ إن المسألة ببساطة تكمن فى كيفية تنظيم وترشيد تدفق المدخرات المالية لدى القطاع العائلى وجذبها داخل دولاب الإقتصاد القومي، وهو ما يتطلب تحقيق مصلحتين، الأولى مصلحة الأفراد فى الحصول على العائد المناسب من استثمار هذه الأموال، والثانية ضمان حسن استخدام هذه الموارد بما يعود بالنفع على المجتمع حيث يسهم فى توسيع القاعدة الإنتاجية. وهو الدور الذى كان يجب أن يقوم به الجهاز المصرفى من جانب، وسوق المال وجهاز المشروعات الصغيرة والمتوسطة من جانب آخر، باعتبارها الوسائل الأساسية لتحقيق الأهداف المشار اليها آنفا ولكنها لم تتحقق أو على الأقل لم تتحقق بالقدر الكافي. وهكذا أصبح من الضرورى العمل على تعزيز وتعميم الشمول المالى مع الحد من المخاطر التى تهدد الاستقرار المالى وحماية المستهلك فرغم الإجراءات العديدة التى يقوم بها الجهاز المصرفي، فإن الطريق مازال طويلا وشاقا لتحويل المجتمع الى التعاملات المصرفية، ويحتاج إلى تضافر الجهود بغية تغيير العادات السائدة، وكذلك قيام البنوك بتوسيع دائرة الاهتمام لتشمل كل قرى ومدن مصر مع إزالة العقبات أمام تسهيل المعاملات. وهو ما يتطلب التوسع فى إنشاء شبكة من مزودى الخدمات المالية بما فى ذلك فروع البنوك وشركات الصرافة ومكاتب البريد بجانب زيادة عدد ماكينات الصرف الآلى على أن تمتد لتشمل المناطق الجغرافية المحرومة خاصة فى الريف المصري. والتوسع فى الخدمات المالية الرقمية المقدمة عبر الهاتف المحمول والشبكة الإلكترونية. وفى هذا السياق يجب العمل على تطوير وتحديث صناديق توفير البريد بحيث تصبح أداة لتعبئة المدخرات خاصة فى القرى والنجوع المصرية. حيث من المأمول أن تقوم صناديق توفير البريد بسد هذه الفجوة، خاصة أنها تمتلك العديد من المزايا التى تؤهلها لذلك فهى توجد فى مختلف القرى والنجوع، كما أنها تنسجم كثيرا مع القيم والأعراف السائدة فى هذه المجتمعات. وبالتالى تعد إحدى الأدوات الجاذبة للأموال المكتنزة لدى القطاع العائلى وكذلك القطاع غير الرسمي، وهناك العديد من الخبرات الدولية فى هذا المجال والتى تؤكد بما لا يدع مجالا للشك الإمكانات الهائلة التى يمكن أن تسهم بها هذه الأداة فى تعزيز النمو ورفع معدلات الادخار بالمجتمع.
نقلا عن جريدة الأهرام.