كيف يدعم التعاون الاقتصادي تطوير العلاقات المصرية التركية؟

نورهان محمد-باحث مشارك
تشهد العلاقات المصرية-التركية تصاعدًا ملحوظًا في وتيرة التعاون الثنائي مع تبادل الزيارات بين البلدين، ما أدى إلى دخول العلاقات مرحلة جديدة من التطبيع. وقد برز ذلك في استقبال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في 14 فبراير 2024، لنظيره التركي رجب طيب أردوغان بالقاهرة، في زيارته الأولى لمصر بعد ثورة 30 يونيو 2013. ويشير هذا التطور إلى انطلاق مرحلة جديدة في العلاقات بين الدولتين، والتي سيكون لها انعكاسات واسعة على أمن المنطقة، بالنظر إلى الثقل الإقليمي لكل من مصر وتركيا. وتعتمد الدولتان على تعزيز التعاون المشترك والتوافق الإقليمي لإرساء الاستقرار في الشرق الأوسط وشرق المتوسط والقرن الإفريقي.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي تطور العلاقات المصرية التركية وآفاقها المستقبلية من واقع علاقات التعاون الاقتصادي والتجاري.
مسارات وسياقات التقارب
ترتبط مصر وتركيا بالعديد من الروابط التاريخية والثقافية المشتركة فقد شهدت الأعوام الثلاث الماضية تعاونًا غير مسبوق بين البلدين، وجاء ذلك في تكثيف تبادل الزيارات للوفود الدبلوماسية والاقتصادية بين القاهرة وانقرة حيث تعتبر الفترة من مايو إلى سبتمبر 2021 من أبرز مراحل تطور التعاون بين مصر وتركيا، شهدت عقد جولتين من المحادثات الاستكشافية بهدف تعزيز العلاقات الثنائية.
وفي نوفمبر 2022، اجتمع الرئيسان عبد الفتاح السيسي ورجب طيب إردوغان في لقاء قصير خلال افتتاح كأس العالم لكرة القدم في قطر، وعقب ذلك قام وزير الخارجية المصري سامح شكري بزيارة أنقرة في فبراير 2023 لتقديم مساعدات إنسانية بعد الزلزال المدمر الذي ضرب مدن جنوب تركيا، وهو ما لاقى ترحيبًا وتقديرًا كبيرين من الجانب التركي عبر زيارة وزير الخارجية التركي السابق “مولود جاويش أوغلو” للقاهرة.
وفي يونيو 2023، بادر الرئيس عبد الفتاح السيسي بالاتصال بنظيره التركي رجب طيب أردوغان لتهنئته بفوزه في الانتخابات الرئاسية، وقد أسفر هذا الاتصال عن اتفاق بين الجانبين على رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية، كما عُقد أول اجتماع رسمي بين الرئيسين في سبتمبر 2023 على هامش القمة الثامنة عشر لمجموعة العشرين بالهند، تلاه اجتماع ثانٍ في الرياض على هامش القمة العربية الإسلامية الاستثنائية لبحث الأوضاع بقطاع غزة في نوفمبر 2023، مما يعكس اهتمام الجانبين بتعزيز التعاون الثنائي.
وشارك الرئيس التركي السابق عبد الله جول في”المنتدى الثالث لثقافة السلام العادل” الذي عُقد في القاهرة في 22 فبراير 2024، وفي مارس 2023، قام نائب وزير الخارجية التركي بزيارة إلى مصر، حيث عُقد اجتماع مع نظرائه المصريين، كما شارك وزير الخارجية آنذاك سامح شكري في منتدي أنطاليا الدبلوماسي في مارس 2024 وعقد اجتماعًا مع نظيره التركي هاكان فيدان لبحث تعزيز التقارب بين البلدين.
ويُعتبر الاجتماع الوزاري المصري-التركي منصة للتواصل السياسي المباشر بين قيادات البلدين، مما يعزز من مستويات التعاون الدبلوماسي ويؤكد على أهمية العلاقات الثنائية في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية في شتى المجالات وقد برز في العديد من مؤشرات التعاون التي يمكن استعراضها على النحو التالي:
(*) عودة مجلس التعاون الاستراتيجي: اتفق البلدان على تأسيس مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى عام 2010 بهدف تعزيز العلاقات الثنائية في المجالات الاقتصادية والسياسية والتجارية وتنسيق التعاون في مختلف المجالات، وجاء الاتفاق في اجتماع بين وزير الخارجية المصري آنذاك أحمد أبو الغيط ونظيره التركي أحمد داوود أوغلو. ومع ذلك، شهدت العلاقات بين البلدين توترًا ملحوظًا بعد ثورة 30 يونيو 2013، مما أدى إلى تجميد أنشطة المجلس.
وفي عام 2022، بدأت جهود حثيثة لإعادة تطبيع العلاقات، وتوج لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في القاهرة 14 فبراير 2024 جهود إحياء وإعادة تشكيل مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى وتوقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بين البلدين، وعقد المجلس أولى اجتماعات برئاسة قادة البلدين على هامش زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لأنقرة في سبتمبر 2024.
ويعد تفعيل مجلس التعاون الاستراتيجي بين مصر وتركيا خطوة ذات أهمية في تعزيز العلاقات والتعاون بين البلدين في مختلف المجالات، ومن المهم أن يكون هناك إرادة سياسية قوية من البلدين للتوصل إلى تفاهمات واتفاقيات ملموسة تعزز التعاون الثنائي، وعلى الرغم من وجود خلافات وتوترات بين مصر وتركيا، إلا أن تفعيل مجلس التعاون يشكل خطوة إيجابية نحو تحسين العلاقات علي كافة الأصعدة.
(*) التعاون في القضايا الإقليمية: شهد يناير 2025 لقاءًا بين وزير الخارجية والهجرة المصري د. بدر عبد العاطي، ونظيره التركي هاكان فيدان، حيث استعرض الوزير المصري موقف القاهرة تجاه الأزمة السورية، مؤكدًا ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا وسيادة مؤسساتها الوطنية، والدفع نحو عملية سياسية شاملة تضمن حقوق الشعب السوري، بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254. كما تناول الوزيران الملف الفلسطيني، حيث توافقت وجهات النظر المصرية والتركية بشأن معالجة الأزمة في قطاع غزة، وسعت الجهود المشتركة إلى وقف إطلاق النار الفوري وتهدئة التوتر في الضفة الغربية، تمهيدًا لاستئناف المفاوضات السلمية لإحياء مسار إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. كما أكد الجانبان رفضهما القاطع لأي عملية عسكرية تستهدف تهجير الفلسطينيين من القطاع.
وتطرّق اللقاء أيضًا إلى آخر التطورات في ليبيا والأزمة السودانية، في ظل الصراع المسلح الذي يشهده السودان منذ 15 أبريل 2023، بالإضافة إلى مناقشة الأوضاع في منطقة القرن الإفريقي وأمن البحر الأحمر والمضايق البحرية المرتبطة به، وتأثير ذلك على اقتصادات دول المنطقة.
كما بحث الجانبان سبل تحقيق الأمن والاستقرار في الصومال والحفاظ على وحدته، حيث تتبنى القاهرة وأنقرة رؤية موحدة تجاه الملف الصومالي، وترفضان الاعتراف بشرعية الاتفاق الموقع بين إثيوبيا ومنطقة أرض الصومال الانفصالية. ويمكن للبلدين تقديم الدعم السياسي والعسكري للصومال لحماية سيادته ومنع زعزعة الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي.
(*) تعزيز التعاون العسكرى: أوضح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في زيارته الأخيرة للقاهرة عن رغبته في تعزيز التعاون العسكري بين مصر وتركيا حيث أوضح بقوله “نري استثمار مصر القوي في قطاع الدفاع، ونؤمن أن تركيا ستؤدي دورًا قويًا في دعم تلك الجهود “. كما أعلنت أنقرة عن موافقتها علي بيع صفقة طائرات مسيرة بيرقدار، في صفقة هي الأولى من نوعها بين الدولتين. كما بحث وزير الدولة للإنتاج الحربي في مصر، محمد صلاح الدين مصطفى، مع السفير التركي بالقاهرة صالح موطلو شن، سبل التعاون في مجال التصنيع العسكري. كما اجتمع الوزير المصري مع وزير الصناعات الدفاعية التركي على هامش معرض الدفاع العالمي بالسعودية في فبراير 2024، خلال تفقده الجناح التركي ومنتجات الصناعات الدفاعية التركية من الصواريخ والذخائر الذكية الصغيرة والأسلحة المضادة للدبابات والسفن.
كما شارك رئيس وكالة الصناعات الدفاعية التركية خلوق جورجون في النسخة الثالثة لمعرض الصناعات الدفاعية والعسكرية (EDEX 2023) الذي عُقدت بالقاهرة من أجل تعزيز التصنيع العسكري لاسيما في مجال التقنيات الحديثة.
(*) التعاون الاقتصادي بين البلدين: تتبنى مصر وتركيا نهجًا نشطًا لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية المتوازنة بينهما، في ظل إعلان الدولتين عزمهما رفع حجم التبادل التجاري إلى 15 مليار دولار خلال السنوات المقبلة، ويشير الجانب التركي إلى أن مصر أصبحت مركز جذب استثماري للشركات الصناعية التركية، حيث تعد الشريك التجاري الأول لتركيا في إفريقيا وبوابة رئيسية لصادراتها إلى الأسواق الإفريقية، كما جاءت مصر ضمن قائمة أكبر 20 دولة مستوردة للسلع التركية. وبلغ حجم الاستثمارات التركية في مصر نحو 3 مليارات دولار، موزعة على عدة قطاعات حيوية، أبرزها صناعة الملابس الجاهزة من خلال شركة “جيد تكستايل”، وصناعة الحلويات عبر شركة “كيرڤن”.
وفي خطوة جديدة لدعم التعاون الاقتصادي، وقّعت المجموعة المصرية للمحطات متعددة الأغراض، التابعة لوزارة النقل، مذكرة تفاهم مع شركة “دوغوش القابضة” التركية لإنشاء منطقة صناعية لوجستية تركية في مصر تستهدف جذب استثمارات مباشرة بقيمة 7 مليارات دولار، مع توفير ما يقرب من 20 ألف فرصة عمل، وهو ما يعكس توجه البلدين نحو بناء شراكات استراتيجية طويلة المدى.
آفاق مستقبلية
توجد العديد من الفرص الاقتصادية التي يسعى الجانبان لاستغلالها من أجل زيادة التبادل التجاري بين القاهرة وأنقرة، من بينها استئناف العمل بخط الرورو الملاحي للربط بين البلدين حيث تتمتع الدولتان بموقع استراتيجي حيوي مؤثر في الشرق الأوسط ويحتلان أكبر مساحة بالمنطقة ويتحكمان في ممرات ملاحية مهمة مثل قناة السويس بمصر ومضيقي الدرنيل والبسفور بتركيا، وإزالة أي عوائق أمام تعزيز الاستثمارات المتبادلة مع التركيز على توطين الصناعات لدعم النمو الاقتصادي وتعزيز العلاقات التجارية طويلة الأمد وتنظيم رحلات سياحية بين الجانبين.
كما يرحب الطرفان بالتوقيع على مذكرات التفاهم في مجالات المالية والبيئة والعمران والصحة والطاقة والمشروعات المشتركة، والزراعة، والطيران المدني، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والتعليم العالي والعمل والتشغيل والتعاون وبناء القدرات والسكك الحديدية وسياسات المنافسة، وتدريب الدبلوماسيين، ويقررا الارتقاء بالجهود المشتركة لتنويع وتعميق التعاون والتنسيق متعدد الأوجه من خلال تطوير أطر التعاون المؤسسي الثنائي القائم في كافة المجالات حسب الحاجة.
إجمالًا؛ وفي ضوء ما سبق ثمة العديد من الفرص الاقتصادية التي يجب استغلالها لرفع التبادل التجاري بين البلدين مصر وتركيا وتعزيز التعاون الثنائي بينهم، واستكمال الدراسات التي بدأها البنكان المركزيان المصري والتركي بهدف تطبيق “آلية التبادل التجاري بينهما باستخدام العملات المحلية وهو ما يعود بالنفع على كلا البلدين، واستخدام ثقلهما السياسي وأدواتهما الدبلوماسية لمعالجة القضايا الخلافية وحلحلة الأزمات العربية والإقليمية الحالية التي تشهد تعقيدًا مستمرًا في ظل التحولات الجيوسياسية التي يمر بها النظام الدولي.