المواقف الصينية من التطورات العالمية.. تحليل لمخرجات الندوة الدولية لوانغ يي

 لا أخفي إعجابي الشديد بوزير الخارجية الصيني وانغ يي، الذي حظي بثقة الرئيس شي جين بينغ مرة أخرى رغم أنه تم الاستغناء عنه من قبل ولكن لمدة قصيرة جدا، ثم استنجد به الرئيس الصيني مجددا لأنه الأقدر على إدارة دفة سياسة الصين الخارجية في خضم أمواج التحديات والعقبات الكبيرة التي تواجهها، ومن خلال تتبعي لمختلف تصريحاته ونشاطاته وأعماله في تسيير شؤون البيت الدبلوماسي الصيني، يمكنني أن أصنفه من بين الدبلوماسيين العالميين البارزين الممتازين بالحنكة والرزانة وقوة الشخصية وحضور البديهة، واستحضر هنا موقفه عندما سألته صحفية كندية عن إحدى قضايا حقوق الإنسان المعتادة لدى الغربيين كل ما تعلق الأمر بالصين، ورغم أنه ضليع في اللغة الإنجليزية إلا أنه تحول للحديث باللغة الصينية، وطلب من مترجمته أن تترجم للصحفية كلامه بكل حدة، وكان رده على سؤالها مفحما وكفيلا بجعل الصمت يخيم على القاعة التي احتضنت ذلك المؤتمر الصحفي في كندا.

في الندوة الصحفية التي انعقدت في 7 مارس 2025 بالعاصمة بيجين، على هامش الدورة الثالثة للمؤتمر الوطني الشعبي الرابع عشر، وبحضور عدد كبير من ممثلي وسائل الإعلام الصينية والدولية، تطرق السيد وانغ يي، إلى موقف الصين من مختلف القضايا والإشكاليات المطروحة على الساحة الصينية والآسيوية والعالمية، وكعادته كان السيد وانغ دقيقا في إجاباته وردوده، التي كانت ملمة بمختلف جوانب وأبعاد وخلفيات القضايا التي تمحورت حولها أسئلة الإعلاميين الحاضرين للندوة، ولم تخل إجاباته وردوده من عمق تحليلي مشهور به السيد وانغ، مع حضور لافت لاستشهاده بأمثلة وأشعار صينية قديمة، وهو ما يدل على تمسكه بالخلفية الثقافية الصينية في تحليله لمختلف المسائل الدولية، ويعبر عن كون السياسة الخارجية الصينية ذات جذور ثقافية وحضارية عريقة، وليست مجرد ردود أفعال أو انفعالات آنية تفتقد للعمق الثقافي والمعرفي الضارب بجذوره في حضارة الصين العريقة.

 استهل السيد وانغ الندوة، بإبراز الدور الذي يلعبه الرئيس شي جين بينغ الذي يتربع على قمة الدبلوماسية الصينية عموما ويرسم توجهاتها ويضع خطوطها الكبرى والعريضة، والتي ما تزال تجعل من المبادئ الصينية الخمس الكبرى للتعايش السلمي والتي احتفلت بالذكرى السبعين لميلادها دليلا ومرشدا لها في سياستها الخارجية، واستضافتها لعدد من الرؤساء والمسؤولين، وتنظيمها لقمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي، ومنتدى التعاون العربي الصيني، بمقابل زيارة الرئيس تشي لمناطق عدة من العالم، وزيادة الثقة التي تحظى بها مختلف مبادرات الصين العالمية التي تبنتها سابقا، والاستعداد لسنة دبلوماسية جديدة حافلة بالنشاطات والأهداف.

 رغم أن السيد وانغ تطرق في الندوة لمواقف الصين من مستجدات وتطورات الأحداث الدولية الراهنة، وقدم تقييما شاملا لإنجازات الدبلوماسية الصينية خلال العام 2024 وما ينتظرها من تحديات خلال العام 2025، إلا أن الندوة عموما كانت تأكيدا على الدور الريادي للصين كفاعل دولي مؤثر بقيادة الرئيس شي جين بينغ، وعلى قيم ومبادئ سياسة الصين الخارجية الثابتة في التعاطي مع مختلف القضايا بعقلانية وهدوء وتواضع وبرؤية متكاملة وواضحة وذات بعد إنساني وعالمي وسلمي، إذ من الممكن أن نستشف من مجمل إجاباته حرصه على إبراز دور الصين كقوة دولية مسؤولة، تؤمن بأن بأنه في ظل عالم مضطرب ومتغير فإن خيارات الدول والرئيسية منها على الخصوص، هي ما سيحدد مسار زمننا هذا ومستقبل عالمنا، ولذلك عملت الصين دائما وخصوصا خلال العام 2024 على جلب مزيد من الاستقرار لهذا العالم المضطرب الذي يحتاج إلى ذلك وبشدة، عبر بناء صين قوية لا تسمح لأي كان بالمساس بوحدتها وتماسك شعبها، والتأكيد على التنمية السلمية كوسيلة هامة لتحقيق الازدهار والسلام عالميا، وتوسيع شراكات الصين مع مختلف الأطراف الدولية، والعمل على حل النزاعات بطرق سلمية وذلك وفقا لمبدأ “لا أحد يربح في النزاع، ولكن الجميع رابحون في السلام” بحسب وانغ، ونشر قيم التحديث الصيني كأداة كفيلة بتحقيق هدف الصين كقوة بناء بإمكانها المساهمة في تحقيق التنمية العالمية المشتركة. ومنح الأمم المتحدة التي تحتفل بعيد ميلادها الثمانين وتعتبرها الصين من أهم وأكثر قرارات المجتمع الدولي حكمة، دورا أكبر في مواجهة التحديات الكبيرة التي يواجهها العالم.

وفي هذا الإطار لطالما أكدت الصين ورئيسها شي جين بينغ على مبدأ عملها العالمي والإنساني، وهو ما تجلى في تبنيها لمفهوم بناء مستقبل أو مصير مشترك للبشرية، والتعامل مع هذا العالم على أنه بيتنا الموحد والمشترك، في ظل الدعوة الصينية إلى عالم وعلاقات دولية قائمة على الانسجام والتعاون وليس الصراع والفوضى، وكما يقول وانغ: “على عكس ما هو سائد في الغرب من أنه لا صداقة دائمة بل مصلحة دائمة، فإننا في الصين نؤمن بأن الأصدقاء ينبغي أن يكونوا دائمين وأن يكون السعي للمصالح مشتركا”، وجميعها قيم مستمدة من الحضارة الصينية العريقة وكالتزام من طرف الصين الشيوعية بواجب مراعاة مصالح وخير الجميع، ويدخل في هذا السياق سعي الصين لجعل الاستفادة من ثمرات التطور التكنولوجي متاحة للجميع، وعملها على ضع أسس مبادرة عالمية جديدة تسمى بـ “المبادرة العالمية لحسن استغلال الذكاء الاصطناعي”، وفي ذلك دليل على مواكبة سياسة الصين الخارجية لمختلف التطورات الدولية، من خلال تبنيها في وقت سابق لمبادرات عالمية حققت صدى وقبولا واسعين، مثل مبادرة الأمن العالمي ومبادرة التنمية العالمية ومبادرة الحضارة العالمية ومشروع الحزام والطريق.

 وفيما يخص القضايا الوطنية الحيوية للصين، كانت تايوان حاضرة في الندوة وبقوة، حيث يستمر التمسك الصيني بها كجزء من الوطن الأم، وبحقها في الدفاع عن وحدتها وبكل ما من شأنه أن يمس بمبدأ دولة واحدة بنظامين المعترف به عالميا على نطاق واسع بحسب وانغ، الذي شدد أيضا على أن تعاون الصين مع دول مجموعة الآسيان قد كلل بكون العام 2024 كان عام سلام وهدوء واستقرار في بحر الصين الجنوبي، مع مرور آمن وسلس للملاحة البحرية فيه، ولكن هذا لا يمنع بحسب وانغ تمسك الصين بالدفاع عن حدودها البحرية وحقوقها في الملاحة هناك، ولا سيما امام استمرار ما أسماه بلعبة الظل التي تمارسها الفليبين التي تنفذ بحسبه تعليمات وأجندة مفروضة عليها من طرف قوى خارجية.

 وعلى صعيد علاقات الصين مع القوى الكبرى، وكما كان متوقعا كانت العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية حاضرة وبقوة لا سيما بعد عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض مجددا، وقد انتقد وانغ بشدة شعار “أمريكا أولا” الذي يرفعه ترامب، لأن تبني مثل هذا الشعار من طرف 190 دولة في العالم، سوف يعيد العالم بحسبه إلى الوراء بدلا من التقدم به إلى الأمام ويكرس قانون الغاب بدلا من القواعد والمعايير الدولية، منتقدا في ذات الوقت التناقضات في خطاب الرئيس الأمريكي الذي يكيل الاتهامات للصين من جهة في قضايا العجز التجاري ويفرض عليها رسوما جمركية ويتهمها بالمسؤولية وراء انتشار مخدر الفنتانيل في بلاده، وبين تعبيره عن استعداده لبناء علاقات جيدة مع بيجين، وهو ما اعتبره وانغ مساسا بمبدأ الاحترام المتبادل بين الدول، وأجاب وانغ بحزم بأنه: “لا يمكن لأي دولة أن تتبجح بقدرتها على قمع الصين من جهة، ورغبتها في إقامة علاقات جيدة معها في ذات الوقت”. بينما وعلى الطرف الآخر، تقف روسيا التي تجمعها بالصين بحسب وانغ علاقات قوية وتاريخية، وأن سعي ترامب للتقارب مع موسكو لا يمكنه أن يؤثر على علاقات البلدين، لأن علاقات روسيا والصين راسخة ولا تتأثر بتدخل أي طرف ثالث، مثلما أنها ليست موجهة ضد أي طرف ثالث، فعلاقات البلدين كما لخص ذلك وانغ وببراعته المعهودة هي: “ثابت في عالم مضطرب، وليست متغيرا في عالم الألعاب الجيوسياسية”.

 مما يلفت النظر كذلك في هذه الندوة، هو أن وزير الخارجية الصيني وعلى نهج مختلف المسؤولين الصينين، ورغم النتائج الباهرة التي حققتها بلادهم على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والمجتمعية، ما يزال التعريف السائد للصين بالنسبة لهم هو كونها دولة نامية تنتمي لعالم الجنوب، وفي عبارة عاطفية قوية صرح وانغ أنه “مهما تغير العالم فسيظل قلب الصين مع عالم الجنوب، وجذورها ضاربة هناك بعمق”، وهذا ما تجسد في تعزيزها لعلاقاتها بحسب وانغ مع الأفارقة عبر منتدى التعاون الصيني الإفريقي، ومع العرب عبر منتدى التعاون العربي الصيني، ومع جيرانها الإقليميين في مجموعة الآسيان ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومع دول أخرى كجنوب إفريقيا والهند والبرازيل في مجموعة البريكس، وهذا ما جعل مختلف الدراسات واستطلاعات الرأي توضح أن الصورة الإيجابية للصين لدى دول الجنوب العالمي آخذة في الارتفاع والترسخ أكثر من أي مكان آخر في العالم.

ولأن نهج الصين السلمي من مقومات سياستها الخارجية ومبادئها التي طالما دافع عنها الخطاب الصيني الرسمي منه وغير الرسمي، قدم وانغ منظور الصين للتعامل مع أهم الصراعات العالمية الراهنة، مثل حرب أوكرانيا التي اعتبرها مأساة كان من الممكن تفاديها، لو تم التمسك بمبدأ الصين الخاص بسلام مشترك وشامل وعادل ومتبادل وليس على حساب أمن أي طرف، وأن مفتاح حل الأزمة هو معالجة جذورها العميقة لأنها ليست وليدة لحظة استراتيجية مفاجئة، وهنا يبرز توظيفه الجميل للمثل الصيني القائل: “ليلة واحدة باردة، ليست كفيلة بتجميد ثلاث أقدام من الجليد”. وفيما يخص القضية الفلسطينية، كرر وانغ الموقف الصيني الداعم لحلق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، ورفضه بشكل قاطع وصريح لدعوات تهجير الفلسطينيين من غزة أو أي بقعة من فلسطين، فغزة بحسبه تنتمي للشعب الفلسطيني وجزأ لا يتجزأ من تراب فلسطين.

 بمثل هذه المواقف والتوجهات الدبلوماسية الواضحة التي عكستها الردود القوية والشاملة والتي تحمل في طياتها كثيرا من الحكمة والهدوء الصينيين المعهودين لوزير الخارجية وانغ يي، كسبت السياسة الخارجية الصينية سمعتها كدبلوماسية متزنة وعالمية وسلمية ومنفتحة، تضرب بجذورها في القيم الثقافية والحضارية والفلسفية الكونفوشيوسية الصينية، مع قدرة كبيرة على مواكبة التطورات العالمية وجعل الصين جزءا من المنظومة الدولية الرامية إلى التعامل الأمثل مع التحديات والاضطرابات والتغيرات التي يعيشها عالم اليوم، باعتبارها قوة مسؤولة وذات امتدادات متشعبة في علاقاتها مع القوى الكبرى والجيران الإقليميين ودول الجنوب العالمي، وفاعل مؤثر في مختلف المؤسسات والمحافل الدولية، مع قدرتها العالية على صياغة وابتكار سرديات جديدة تلائم التحديات والتطورات الحاصلة، وتحويل تلك السرديات فيما بعد إلى مشاريع عملية وميدانية ملموسة.

د. عبدالقادر دندن

خبير مشارك-أستاذ العلاقات الدولية وباحث في الشؤون الآسوية – جامعة عنابة - الجزائر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى