جون ميرشايمر وعبثية حرب كان من الممكن تفاديها

لم تكن الأجواء طبيعية في آخر يوم من شهر فبراير 2025 داخل أسوار البيت الأبيض، وكيف لا وقد كانت إحدى قاعاته شاهدة على ما سيكون أعنف وأشهر مشادة كلامية علنية على مر التاريخ بين رئيس أمريكي وضيف أجنبي، وعندما يكون الرئيس الأمريكي هو دونالد ترامب فليس من المستغرب أن يصاحب الجدل والإثارة مختلف مخرجاته، وهو الذي كان مدعومًا بنائبه جي دي فانس الذي لا يقل عن رئيسه جرأة وحتى وقاحة في بعض الأحيان، في مواجهة غير متكافئة مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي أجزم أنه لم يتوقع وهو خريج عالم التمثيل والكوميديا أن يجد نفسه في خضم دراما سياسية واقعية لا يحسد عليها بذلك الشكل، ورغم الإقرار بعدم توقعي أن يكون زيلينسكي بكل ذلك العناد والجرأة والاستبسال في ردوده على موجة الهجوم الكاسح وحتى الساخر من ترامب ونائبه وحتى أحد الإعلاميين الذي انتقد زيه العسكري، وقد حاول قدر الإمكان أن يحافظ على جلده ورباطة جأشه ويتحكم في تعابير وجهه المرهق، إلا أن الموقف كان بالنسبة له فعلًا مهينًا ومحرجًا وقويًا، وهو المشتت ما بين حليف لا غنى عنه، وما بين مصالح بلده الموضوعة على كف عفريت، وما بين كرامته الشخصية وكرئيس لدولة في مواجهة محتدمة مع الدب الروسي.
الكثيرون يجدون في ذلك الموقف انقلابًا أمريكيًا على زيلينسكي في حربه على الروس بعد ثلاث سنوات من الود والدعم غير المشروط تقريبًا في عهد الرئيس السابق جو بايدن، فترامب هو المنظور المعاكس تمامًا لسلفه، وكل ما كان يراه بايدن مناسبًا وجيدًا يجده ترامب سيئًا وغير ملائم، بل وتصرفات تنم عن الغباء وافتقاد الحكمة في التعامل مع خلفيات ومسار وتداعيات الصراع الروسي الأوكراني. فيبدو بل وأضحى مؤكدًا أن ترامب من أنصار الطرح القائل بأن كل ما حدث من قتال منذ 24 فبراير 2022 على الساحة الأوكرانية، كان عبثيًا وغير ذا جدوى وكان من الممكن تفاديه وتجنبه لو كانت الإدارة الأمريكية السابقة أكثر تبصرًا وذات حسابات أكثر عقلانية وفاعلية، ولو أنها استمعت للأصوات التي كانت تحذر من الانزلاق نحو مستنقع حرب كلفت واشنطن أكثر من 350 مليار دولار كدعم لكييف، وكلفت حلفاءها الأوروبيين ما يفوق 100 مليار دولار، وفرض عقوبات قاسية على موسكو كانت الدول الأوروبية في حد ذاتها متضررة منها، ولا سيما ما تعلق بأمنها الطاقوي والحرمان من إمدادات الغاز والنفط الروسية الوفيرة والقريبة جغرافيًا من أسواق الطاقة الأوروبية.
ولعل أبرز صوت في نظرنا دعا وبكل قوة إلى حسن التعامل مع الجانب الروسي، وضرورة أخذ مخاوفه ومصالحه الأمنية والاستراتيجية بعين الاعتبار هو المنظر الأمريكي الشهير “جون ميرشايمر”، الذي يحسب على تيار الواقعيين الجدد وله إسهاماته الفكرية الكبيرة في مجال التنظير في العلاقات الدولية، وفي تحليل أبعاد وخلفيات وتداعيات أهم الأحداث والتطورات الاستراتيجية في العالم. وهو الذي حذر في إحدى محاضراته عام 2016 وبعد سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، من أن القرم مجرد بداية فقط وأن روسيا لن تتوقف عند ذلك الحد إن لم يغادرها ذلك الشعور بعدم الاطمئنان تجاه التحركات الأمريكية والأوروبية على حدودها الحساسة والهشة مع أوكرانيا، في سعي حثيث من أمريكا وحلفائها لتمهيد الطريق أمام عضوية كييف في حلف الناتو، وهو ما يعتبره الفكر الاستراتيجي الروسي خطًا أحمر لا يسكت عنه وغير قابل حتى لمجرد النقاش، وأرجع ميرشايمر في عديد المناسبات أصل المشكلة إلى ما أسماه بغلطة أو كارثة بوخارست، قاصدًا ذلك الاجتماع لحلف شمال الأطلسي في العاصمة الرومانية بوخارست عام 2008، والذي تمت الإشارة فيه إلى إمكانية تمتع دول أوروبية معينة بعضوية حلف الناتو وعلى رأسها أوكرانيا، وهي النقطة التي أفاضت كأس الصبر الروسي بحسب ميرشايمر، وجعلت بوتين يستشعر حقيقة التهديد الذي يتربص ببلاده وبعقيدتها الأمنية القائمة على حماية حدودها الغربية من أي تواجد عسكري للناتو، وعدم السماح بأي اختراق غربي وأمريكي لمنطقة المصالح والنفوذ الحيويين التقليدين لروسيا، وشبه ميرشايمر رد الفعل الروسي بأي رد فعل يمكن أن يصدر عن الولايات المتحدة الأمريكية لو أن قوة ما تجرأت على التسلل لمجال نفوذها التقليدي في غرب الكرة الأرضية (لعل أزمة الصواريخ الكوبية خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي خير مثال على ذلك).
لا يأتي تفهم ميرشايمر للمخاوف الأمنية والاستراتيجية الروسية من تعاطف بأي شكل من الأشكال مع روسيا، بقدر ما ينبع من نظرة ثاقبة من منظر ومحلل بارع للأوضاع الدولية، وعارف حتى بالخبايا النفسية التي تعتري صناع القرار في أي دولة تواجه تهديدًا وجوديًا لها أو مساسًا بمجال نفوذها الاستراتيجي غير القابل للتفاوض أو التنازل، كما يعكس ذلك أيضًا حرصًا شديدًا من ميرشايمر على مصالح ومستقبل القوة الأمريكية التي ليس في صالحها استفزاز الدب الروسي في معقله، لأن ذلك أشبه بحشر حيوان شرس جريح في الزاوية، فلا يكون أمامه حينها إلا أن يوظف كل مقومات قوته وإمكاناته للدفاع عن وجوده ومصالحه وأراضيه ومجال نفوذه، مع تخوفه كذلك مما قد ينجم عن توجه موسكو للخيار العسكري ضد أوكرانيا من تداعيات خطيرة على الأمن الأوروبي وحتى الأمن والاستقرار في العالم ككل، وواشنطن لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تبقى بعيدة عن صراع عسكري في تلك النقطة الساخنة من العالم، وهو ما يخشاه ميرشايمر لما فيه من استفزاز لروسيا من جهة قد يدفعها لاتخاذ قرارات عسكرية غير مسبوقة، وما ينجر عنه من ضرورة تقديم دعم عسكري ومادي مكلف من طرف أمريكا لأوكرانيا، والأسوأ ربما بالنسبة لميرشايمر هو أن اشتعال الجبهة الأوكرانية سيشغل واشنطن عن الجبهة الأهم بالنسبة لها مستقبلًا وهي جبهة الهندوباسيفيك؛ حيث تتمركز الصين بكل ثقلها، مع ما يحيط بتلك المنطقة من مؤشرات صراع خطيرة في تايوان وبحري الصين الشرقي والجنوبي وغيرها، وهو ما يفسح المجال للصين لتعبث بالتوازنات الاستراتيجية هناك بأقل إزعاج ممكن من واشنطن، واستفادة بكين من أي حرب في أوكرانيا ما دامت أمريكا ستضع ثقلها هناك لمساندة كييف، مما سيترتب عنه استنزاف لأمريكا من جهة وحلفائها الأوروبيين وفي حلف الناتو من جهة ثانية، وحتى روسيا من جهة ثالثة التي تدفع ثمنًا غاليًا لانخراطها هناك في حرب مدمرة، وكل ذلك في صالح الصين التي تقف متفرجة من بعيد على حرب لا تعنيها بشكل مباشر، وحتى وإن كانت حليفًا لروسيا فهي مستفيدة بشكل أو بآخر باستنزاف نسبي للقوة الروسية حتى تكون هي العنصر المتفوق في العلاقات بين الجانبين.
لقد اقترح جون ميرشايمر مرارًا وقبل اندلاع الحرب في موقف أصفه بالحكيم والعقلاني، أن تراعي الولايات المتحدة الأمريكية المخاوف الروسية، وأن تعمل مع موسكو على حل سلمي وتفاوضي يضمن أمن منطقة الهيمنة الروسية التي لا يمكن أن تقبل روسيا بأي حال المساس بها، وأن يتوقف زحف حلف الناتو تجاه الأراضي الروسية، وأن يكون ضم أوكرانيا للحلف من المحرمات التي لا محيد عنها، وأن يتم إعلان أوكرانيا كمنطقة عازلة ومحايدة مع ضمان أمنها وأخذ تعهدات وضمانات من روسيا بعدم المساس بأمن كييف وأراضيها. إنه طرح مقبول جدًا وعقلاني وهو أفضل ما كان متوفرًا في سلة الحسابات الاستراتيجية حينها من خيارات، ولكن يبدو أن صوت ميرشايمر لم يبلغ مداه مسامع القادة في أمريكا وأوروبا الذين دفعوا بأوكرانيا ورئيسها زيلينسكي إلى أتون حرب غير محسوبة العواقب، ويبدو الآن أيضًا أن الولايات المتحدة غير مستعدة للذهاب أبعد من ذلك في مواجهة مع روسيا قد تفضي إلى حرب عالمية ثالثة بحسب ترامب، هذا الأخير وبمنطق رجل الأعمال كعادته يبحث عن صفقة لإنهاء الحرب ولو على حساب أوكرانيا، ما دام ذلك يضمن نهاية الحرب من ناحية، وعلاقات مستقرة مع روسيا من ناحية أخرى، واسترداد ما دفعته أمريكا لصالح أوكرانيا خلال سنوات الحرب الماضية في عهد بايدن من ناحية ثالثة، وصفقة المعادن النادرة هي الكفيلة بذلك بحسب ترامب. ولعل تلك المشادة الكلامية الحادة مع زيلينسكي في البيت الأبيض، التي لم يراع فيها الضيف أصول الضيافة ولا أعراف الدبلوماسية وذلك ديدنه غالبًا، قد أعطت مؤشرًا على أن الدور الذي مُنح للرئيس الأوكراني في هذا الصراع من طرف حلفائه كبطل مغوار وأسد أوروبا في مواجهة الدب الروسي قد انتهى، وأوكرانيا هي الخاسر الأكبر في ذلك، بعد سنوات من تدمير البنية التحتية، وآلاف الضحايا المدنيين والعسكريين، وملايين اللاجئين، واقتصاد معطل، وأراض مسلوبة من طرف الروس، ومستقبل غامض ومجهول، رسمت معالمه الضبابية حرب نصفها بالعبثية وكان من الممكن تفاديها لو كان ما يجول في فكر أمريكا وحلفائها حينها، مشابهًا أو قريبًا على الأقل مما كان يختزنه ميرشايمر من بعد نظر لم يجد من يقدره حينها ويستمع إليه، والآن الجميع يدفع الثمن.