توماس فريدمان والكابوس الصيني.. شيء من الإعجاب وكثير من التوجس

إنه صاحب إحدى أغرب النصائح لأبنائه وأبناء جميع الأمريكيين والغربيين “أدرسوا يا أبنائي بجد لأن هنالك أطفال في مثل سنكم في الصين والهند يريدون أخذ وظائفكم مستقبلا”، جاءت هذه النصيحة في سياق الحديث عن صعود الصين المتنامي ونقاط التفوق التي باتت تحصدها بسرعة وكفاءة أمام الغرب ككل والولايات المتحدة الأمريكية بالخصوص، أوردها توماس فريدمان حينما عقد مقارنة بين نصائح والديه له في الستينيات ونصائحه لأبنائه في مطلع الألفينيات، وانتقال الحال من كون أطفال الصين والهند في السابق نموذجا للأفواه الجائعة التي كان أقصى طموحها الحصول على ما يسد رمقها ويضمن استمرارها، حين قال: “كان والديا يقولان لي: توماس أكمل طعامك فهنالك أطفال في الصين والهند لا يجدون ما يأكلونه”، لتنقلب الأحوال ويصبح حديثه لأطفاله عن أطفال الصين والهند مقترنا بالتحذير من سلب وظائفهم مستقبلا من طرف من كانوا إلى وقت قريب رمزا للجوع والفاقة، بعد أن سجل البلدان ولا سيما الصين قفزة هائلة في مجال التعليم والابتكار وتخريج أفضل الكفاءات الدولية في مجالات التكنولوجيا والهندسة وغيرهما.

منذ أن برزت الصين كقوة صاعدة مع نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، لم تعد هاجسا لصناع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب فحسب، بل كذلك للصحافي والكاتب الأمريكي اليهودي توماس فريدمان، صاحب العمود الأسبوعي الشهير في صحيفة نيويورك تايمز، والذي طالما حفل بمقالات عن التطورات التي تشهدها الصين وخطورتها على الريادة الأمريكية، وانعكاسات ذلك على المجتمع الأمريكي وخاصة الشباب منهم، في ظل نهضة عملاقة يشهدها الخريجون الصينيون في مختلف ميادين العلوم والهندسة والتكنولوجيا على وجه الخصوص، وهو ما عبر عنه فريدمان أحسن تعبير في قصة أوردها الباحث السنغافوري “كيشور محبوباني” في كتابه “نصف العالم الآسيوي الجديد: التحول الجارف للقوة العالمية نحو الشرق”، ذلك أن “فريدمان” حضر حفل تخرج بمعهد “رينسيلير بوليتيكنيك” الذي يعد أحد أعظم معاهد الهندسة والعلوم الأمريكية، وهو الحفل الذي أكد بحسبه حقيقة هيمنة الآسيويين وخاصة الصينيين منهم على الدراسات العليا في تلك المعاهد، حيث صُدم عندما كانت تتلى أسماء الطلبة الحاصلين على درجة الدكتوراه في الهندسة وعلوم الحاسب والتكنولوجيا الحيوية والفيزياء والهندسة، وقال: “ظننت أن كل دفعة الدكتوراه في الفيزياء من الصينيين (بسبب كثرة الطلبة الصينيين المتخرجين في الدفعة)، حتى سمعت أخيرا اسما أمريكيا “بول شين مورو” فأنقذ يومي”، وهي القصة التي جعلتني أنظر إلى فريدمان عند قراءتها بشيء من الشفقة والسخرية في ذات الوقت.

ويبدو أن الهاجس التوماسي من الصين لا يتوقف بل هو يزداد مع مرور الوقت وكلما حققت الصين إنجازات أكبر، فمقاله الأسبوعي الذي كتبه على صفحات نيويورك تايمز في ديسمبر 2024، كان مثيرا للجدل وخلف أصداء عالمية واسعة، وأكد من جديد ذلك الهوس من طرف فريدمان بما تحققه الصين من قفزات غير مسبوقة. فقد جاء في مقاله أن الصين التي كانت لا تتجاوز حصتها من الإنتاج الصناعي العالمي 6% عام 2000، يتوقع أن تبلغ حصتها من ذلك 45% بحلول عام 2030، وهي نسبة تتفوق على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الذين كانوا قبل ذلك يتفوقون على الصين في هذا المجال بمراحل وأشواط. بينما شهدت صناعة السيارات الصينية تقدما رهيبا وغير متوقع حتى من طرف أرباب هذه الصناعة في الولايات المتحدة والغرب، وهنا أستحضر سخرية “إيلون ماسك” وضحكاته الهستيرية، حين سئل عن مدى تخوفه من منافسة السيارات الكهربائية التي تنتجها شركة BYD الصينية، للسيارات التي تنتجها شركته الكبيرة تيسلا، وها هي اليوم الشركة الصينية تنافس نظيراتها في أمريكا والدول الأوروبية بشراسة، بل وتبزها وتتفوق عليها وتضطرها لفرض رسوم عالية عليها للحد من قدرتها التنافسية في الأسواق الأمريكية والأوروبية.

ويستشهد توماس فريدمان في مقاله بدراسة الاقتصادي الكبير “نوح سميث”، الذي أذكى بشكل أكبر مخاوف فريدمان، حين أكد أنه عبر التاريخ المعاصر لم تتمكن إلا قوتين اقتصاديتين من تحقيق مثل تلك الهيمنة الصناعية، وهما كل من المملكة المتحدة في أوج عصر ثورتها الصناعية، وبعدها الولايات المتحدة الأمريكية عقب الحرب العالمية الثانية، وهو ما يبشر بحقبة تاريخية غير مسبوقة تعجز فيها ربما دول العالم مجتمعة عن مجاراة وتيرة وكثافة الإنتاج والتقدم الصينيين. تحدث هذه القفزة الصينية العظيمة إلى الأمام في مجال التصنيع عالي التقنية لكل شيء كما يقول توماس فريدمان “في الوقت الذي كنا فيه نائمين”.

ويبدي فريدمان تشاؤمه حتى من سياسات “ترامب” تجاه هذا التفوق الصيني الذي يبدو التنبؤ بمساره ومآلاته ضبابيا حتى لدى قمة دائرة صنع القرار في البيت الأبيض ومن والأهم من خبراء ومحللين، ففريدمان يرى في عودة ترامب للمكتب البيضاوي وتشدده المبالغ فيه تجاه الصين والتلويح بسياسات حمائية قاسية ورسوم جمركية عالية، زيادة للأمور تعقيدا وكآبة بدلا من توفير أفق للتعامل السليم مع مثل هذا التطور الاقتصادي الصيني. بل أن فريدمان يؤكد أن ترامب بسياساته تلك إنما يحفز الصينيين على العمل والمواجهة والصمود، أكثر مما ينجح في إرهابهم وتخويفهم وثنيهم عن مسيرتهم المظفرة إلى حد الآن، واسمحوا لي بأن أقتبس مباشرة من مقال توماس حين قال: “إذا لم يخبر أحد دونالد ترامب، فسأفعل أنا، إن لقبه على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية اليوم هو ” تشوان جيانجو” – بمعنى “ترامب باني الأمّة (الصينية)” بسبب الطريقة التي أشعل بها هجومه المتواصل على الصين والتعريفات الجمركية، خلال فترة ولايته الأولى كرئيس، النار تحت بيجين لمضاعفة جهودها لتحقيق التفوّق العالمي في السيارات الكهربائية والروبوتات والمواد النادرة، وأن تصبح مستقلة عن أسواق وأدوات أميركا قدر الإمكان”.

وهذا ما يعكس خيبة أمل فريدمان في قدرة بلاده على فهم حقيقة تفوق وتقدم الصين فما بالك باحتوائها أو مجاراتها في ذلك، فسياسات ترامب في عهدته الأولى وفي عهدته الجديدة تنم عن جهل كبير بسياقات وخلفيات وخصائص نهضة الصين وميزات الأمة الصينية ثقافيا وحضاريا وهوياتيا، ففي هذه الأيام من شهر أبريل / نيسان ومع دخول رسوم ترامب الجمركية ضد الصين حيز التنفيذ، لم تستلم بيجين أو تبدي ذعرا وهرولة نحو استرضاء رجل واشنطن المتبجح والمغرور، الذي يعتقد أن حكم قوة مثل الولايات المتحدة والتعامل مع قوة مثل الصين، هو كتحكمه في مجريات برنامج وعرض تلفزيوني كان فيه هو الآمر الناهي، أين يطرد من يشاء ويستبقي من يبتغي. فحلبة السياسة ليست كبث تلفزيوني أو عرض سينمائي مخطط له ومتحكم فيه بسيناريو محكم لا محيد عنه، بل هو عالم معقد ومتشابك وغير متوقع وتتداخل فيه ما يسميها “جيمس روزنو” بالأحداث الشاذة أو غير المتوقعة التي تفاجئ صانع القرار وتربكه. ففي حين كان ينتظر ترامب من بيجين تسليما ومسارعة للتفاوض، ردت عليه بحزمة تعريفات تبلغ 125% وهذا ليس بالرقم الاعتباطي بل هو يتجاوز نسبة رسوم ترامب المقدرة بـ 124% بـ 1%، وفي هذا دلالة نفسية وسياسية عميقة قوامها “إن زدتم زدنا ولا نبالي”. وهو ما خلف آثارا وخيمة من حيث هبوط الأسهم في الأسواق الكبرى الآسيوية والأوروبية والأمريكية، مع إبداء الصين لمرونة من حيث قبولها بأي حوار ولكن وفقا لمبدأ الندية لا غير، وكما صرح المتحدث باسم الخارجية الصينية “منفتحون على التفاوض في إطار من الندية، ولكننا لا نخشى المواجهة”.

ومن باب الإنصاف، فقد كان توماس فريدمان عميقا في رؤيته وتحليله لمواقف الصين المنتظرة من أي مبادرة ترامبية لرفع الرسوم على السلع الصينية، فقبل الرفع الحالي بعدة أشهر جاء في مقاله الأسبوعي التالي: “إنّ الخبراء الصينيين الذين تحدّثت معهم خلال رحلتي قبل أسبوعين يرغبون في تجنّب هذه المعركة (التعريفات الجمركية). فما زال الصينيون بحاجة إلى السوق الأميركية لصادراتهم. ولكنهم لن يكونوا ضعفاء، وسوف تكون بيجين وواشنطن في وضع أفضل كثيراً إذا ما توصّلتا إلى صفقة تفرض زيادة تدريجية في التعريفات الجمركية الأميركية، في حين يقوم كلّ منا بما كان يتعيّن علينا أن نفعله منذ فترة طويلة؛ يتعيّن عليك الذهاب إلى الصين لرؤيتها لقد فات الكثير من الناس في واشنطن النمو المذهل في التصنيع في البلاد”.

إن ما يدركه فريدمان ويغفل عنه ترامب، هو أن الصين أمة معروفة تاريخيا بقبولها للتحديات وبقدرتها على رفعها ومواجهتها، بدءا من حروب طويلة عبر تاريخها لتوحيد البلاد والعباد، مرورا بحملات الغزو المختلفة المغولية منها أولا ثم الأوروبية والغربية فيما عرف بقرن الذل، وبعدها اليابانية قبيل الحرب العالمية الثانية، وصولا إلى نجاحها في تخطي حقبة “ماو” المرعبة من ناحية اقتصادية وتنموية، والتي شهدت فيها البلاد نكسات مدمرة بسبب تداعيات سياسات مثل القفزة الكبرى إلى الأمام والثورة الثقافية، وخرجت الصين من كل ذلك منتصرة رغم الآلام وحجم الدمار ومخلفاته النفسية والمجتمعية، وهذا ليس غريبا على أمة تعرف الأزمة بأنها محنة في جوهرها فرصة، وإذا استغلينا كل فرصة كامنة في رحم ما نواجهه من أزمات فسنخرج في كل مرة أقوى وأصلب أمام كل أزمة نواجهها. فهل سيعي البيزنسمان ترامب ذلك أم أن الصين من ستعلمه هذا الدرس وبتكلفة غالية؟.

د. عبدالقادر دندن

خبير مشارك-أستاذ العلاقات الدولية وباحث في الشؤون الآسوية – جامعة عنابة - الجزائر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى