الشرعية والثقة السياسية والاقتصادية على الطريقة الصينية

يُعْرَفُ عن المفكر الألماني “ماكس فيبر”، عمله الرائد في تصنيف أشكال الشرعية إلى ثلاثة أنماط مختلفة، وهي:
(*) الشرعية المستندة على سلطة العادات والتقاليد: وتسمى أيضا بالشرعية التاريخية التقليدية، ويمارسها الأب الأكبر أو شيخ القبيلة مثلا، و”تستند هذه الهيمنة التقليدية على الإيمان المستمر بالطابع المقدس للتقاليد المحفورة في الذاكرة والعادة المرسخة في الإنسان على احترامها”.
(*) الشرعية القائمة على المزايا الشخصية: أو ما يسمى أيضا بالشرعية الكاريزمية، وفيها يدعي صاحب السلطة امتلاكه مزايا نادرة وبطولات متميزة تجعل منه زعيما ملهما. ويكون فيها الخاضعون يعتقدون في الفضائل البطولية أو الدينية أو الخطابية والاستثنائية لشخص ما ويظهرون تفانيا مطلقا يحركه حماس ودوافع عاطفية.
(*) المشروعية المؤسسية: القائمة على قواعد حكم عقلانية، وكفاءة إيجابية أساسها التزام السلطة والمجتمع بواجبات وحقوق محددة قانونيا، كما أنّ الهيمنة المرتبطة بهذه الشرعية تتسم بالطابع المؤسساتي القوي وكذلك بالبيروقراطية التي هي خاصية أساسية للسلطة السياسية المبنية على العقلانية (ويمكن وصفها اختصارا بالشرعية الدستورية).
لكن لو عرجنا على الصين المعاصرة منذ تأسيس الجمهورية الشعبية عام 1949، فمن وجهة نظرنا كمتابع للشأن الصيني فإن الشرعية هناك والتي هي مصدر رئيس من مصادر الثقة السياسية والاقتصادية، هي أكثر تعقيدا مما يذكره “ماكس فيبر” في تقسيمه الشهير المذكور أعلاه. فلو أوغلنا قليلا في تبين حال الشرعية في الصين المعاصرة ومصادرها، فإننا نجدها تجمع مزيجا بين المصادر الثلاثة التي جاء “فيبر” على ذكرها، كما أنها في الوقت ذاته تضيف مصدرا آخر لم يعرج عليه المفكر الألماني ألا وهو “شرعية الإنجازات”، أي اعتماد النظام السياسي على إنجازاته السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية لكسب الشرعية التي يصبو إليها، وكسب الثقة السياسية من لدن الشعب الذي يحكمه.
ففي الصين يمكن أن نجد نموذج الشرعية الكاريزمية المستندة إلى المزايا الشخصية للحاكم، وهو ما يبرز في شخص الزعيم “ماو تسي تونغ” الذي ورغم الجدل الذي أثارته خياراته التنموية والسياسية، إلا أنه كان في حياته رمزا للتضحية والكفاح من خلال المسيرة العظيمة للشيوعيين تجنبا لحصار وقمع السلطة الحاكمة آنذاك، وابتكاره لأسلوب حرب العصابات في الأرياف، ودوره في توحيد الصين مرة أخرى كأمة واحدة وكدولة مستقلة وذات سيادة بعد عقود من الضلال القاتمة لقرن الذل، وهو ما منحه كاريزما طاغية سحرت الملايين ليس داخل الصين لوحدها بل حتى خارجها من خلال صياغته ونشره لما عرف بالفكر الماوي أو الماوية. وقد استمر العنصر الكاريزمي في منح الشرعية ولو من الناحية المعنوية لحكام الصين حتى بعد وفاة ماو، مثل التقدير البالغ الذي حظي به دينغ شياو بينغ كمهندس للإصلاح الاقتصادي ومخطط لنهضة الصين المعاصرة، والذي تحتفل الصين بذكرى ميلاده وبترديد أقواله ونشر مآثره واسترجاعها. واليوم مع الرئيس شي جين بينغ الذي يحمل آمال الصينيين في تحويل بلدهم إلى قوة عظمى تتربع على عرض النظام الدولي أو تكون إحدى أقطابه على أقل تقدير. ويرتبط هذا البعد الكاريزمي أيضا بتقديس الصينيين لأولي الأمر ولكبار السن والمتعلمين وثقتهم في حكمتهم وقيادتهم، وهذا ما يرتبط بشكل أو بآخر بفئة الشرعية التقليدية عند “فيبر”.
قد يجادل الكثيرون أن الصين تفتقد للشرعية الدستورية أو المؤسساتية وفق النمط الغربي، ولكن الحزب الشيوعي يمتلك منظوره الخاص لهذا الأمر، فبحسب مبادئه فإن الصين لديها ديمقراطيتها الخاصة بها والتي تمارس داخل الحزب، وذلك من خلال انتخاب ممثلي الشعب في مختلف هياكله، بداية من ممثليه في أبسط قرية في الريف الصيني، وصولا إلى أعضاء اللجنة المركزية، وبعدها انتخاب رئيس البلاد من بين أعضاء تلك اللجنة، حتى وإن كان اختيار الرئيس يكون بالتزكية عادة كتعبير على نوع من الإجماع الذي يخدم الاستقرار ووحدة الصف والرأي. ويحتج الصينيون بأن الديمقراطية يمكن أن تمارس بأساليب متعددة، ولا يمكنها أن تكون وفقا للنمط الغربي فحسب، فلكل مجتمع أو نظام حاكم ظروفه وخلفياته وخصائصه التي تجعل الممارسة السياسية ضمنه تصطبغ بصبغة مميزة ومختلفة، فحتى في الصين يوجد برلمان والمتمثل في المجلس الوطني لنواب الشعب، كما أن انتقال السلطة فيها يتم بسلاسة منذ تولي دينغ شياو بينغ للحكم عام 1978 وإلى غاية يومنا هذا في عهد شي جين بينغ، بل وبشكل أكثر سلاسة وانسيابية حتى من نظم ديمقراطية عديدة، فعقب الفوضى التي عمت بعد اقتحام أنصار ترامب لمبنى الكابيتول لتعطيل المصادقة الرسمية على فوز جو بايدن، وجدت الصين في ذلك فرصة لانتقاد الديمقراطية الغربية عموما والأمريكية على وجه الخصوص، وأكدت بأن الصور التي شاهدها العالم في أمريكا ذلك اليوم، قد لا تحدث حتى في النظم التي يصفها الغرب بالمتخلفة والمستبدة.
وفي سياق متصل، يركز الحزب الشيوعي في الصين على عامل الإنجازات للحصول على مزيد من الشرعية والثقة السياسية لدى المواطن الصيني، باعتباره واضع أسس المسيرة التي قادت إلى توحيد الصين وإخراجها من قرن الذل، واستعادة أراض صينية كانت مسلوبة من الوطن الأم مثل هونغ كونغ وماكاو، وسعيه الحثيث لاستعادة تايوان واستكمال الوحدة المنشودة، ونجاحه في جعل الصين عضوا دائما في مجلس الأمن، وقوة عسكرية ضمن الثلاثة الأوائل عالميا، ودولة ذات نفوذ متزايد عالميا وإقليميا وفي مختلف المؤسسات الدولية.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن نجاح الحزب الشيوعي في انتشال مئات ملايين الصينيين من براثن الفقر في وقت قياسي، وتحسينه الكبير لمستوى معيشتهم، وجعل البلاد ثاني أكبر قوة اقتصادية عالميا كانت كلها إنجازات كفيلة برفع منسوب الثقة في الحزب كقائد للصين نحو مزيد من التقدم، وقد أكدت إحدى الدراسات أن الصينيين يمتلكون حاليا النسبة الأكبر من الثقة والفخر ببلادهم من بين مختلف دول العالم. وذلك بفضل كم الإنجازات المحققة والتحسن الملموس عمليا في واقع وحياتهم.
هكذا إذا، تمكن النظام الصيني من الحفاظ على بقائه بقيادة الحزب الشيوعي، بل وكسب نسبة كبيرة من الثقة السياسية والاقتصادية بفضل سياساته المختلفة التي عززت مكانة البلاد في مختلف المجالات، وذلك رغم كل الانتقادات والاتهامات الغربية الموجهة له بدعوى القمع والاستبداد بحسب مزاعمهم، غير أن مثل ذلك التوصيف لم يعد اليوم مستساغا حتى لدى الكثير من المفكرين والمختصين وصناع القرار الغربيين أنفسهم، لأن الصين أضحت نموذجا يحتذى من حيث الاستقرار والتقدم الاقتصادي وتصاعد القوة عالميا، مما جعل النظام الصيني يصنف رغم كل جهود الغرب لتشويهه ضمن أكثر النظم نجاحا وإنجازا.
وتمكن الحزب الشيوعي الصيني بفضل نجاح سياساته الاقتصادية، من اكتساب شرعية وثقة تفوق حتى ما لدى نظم تتبع أسلوب الديمقراطية الغربية، مما يؤكد أن سبيل التقدم والاستقرار لا يرتبط بالضرورة بنمط حكم سياسي معين، بقدر ما يكون رهنا بمدى وجود قادة مخلصين ويتميزون بكفاءة التخطيط والتسيير، ورسم المسار الذي ينبغي على الجميع اتباعه والنضال من أجل تغيير الواقع الاقتصادي المزري، وهذا ما يفسر تمكن الصين من أن تنتقل في ظرف وجيز جدا، من موطن المجاعة والفقر إلى أمة التقدم الاقتصادي والطموحات الاستراتيجية العالمية. وهذا ما يفند فكرة المرجعية الأحادية الغربية أي جعل قيم الغرب لوحدها مصدرا للتحديث والتقدم والاستقرار السياسي، فأمة وحضارة متفردة مثل الصين أضحت اليوم تؤسس لمرجعية مختلفة وجديدة في الحكم، يمكنها أن تكون في العديد من جوانبها مرتكزات لدول كثيرة لتصويب سياساتها وتعديل توجهاتها ولا سيما دول ما يعرف بالجنوب العالمي التي تربطها بالصين علاقات تاريخية وطيدة (مع أخذ الخصوصيات وتباينات سياق التطور الثقافي والتاريخي والاجتماعي لكل دولة أو منطقة بعين الاعتبار)، بل أن حالة الفوضى والهشاشة التي يشهدها النظام الدولي والعولمة الغربية والاقتصاد الرأسمالي، يمكنها أن تجد في النموذج الصيني منقذا من الأزمة التي يتخبط فيها، بالاعتماد على قيم الانسجام والتعاون والسلمية التي تطبع المنظور الصيني العالمي الجديد للنظام الدولي ومستقبل البشرية.