هل تُعيد ألمانيا انتخاب هتلر؟

بعد أقل من ثلاث سنوات في السلطة، انهار ما سُمى بائتلاف إشارات المرور الذي يضم الحزب الديمقراطى الاجتماعى من يسار الوسط بزعامة أولاف شولتز، وحزب الخضر المدافع عن البيئة، والديمقراطيين الأحرار المؤيدين للأعمال التجارية، فبعد أشهر من المفاوضات حول كيفية سد فجوة تبلغ عشرة مليارات يورو من الميزانية الفيدرالية للعام الحالى، أقال المستشار شولتز وزير ماليته وزعيم الديمقراطين الأحرار كريستيان ليندنر بشكل غير رسمي، فقد فضل الشركاء التقدميين في الائتلاف تحمل المزيد من الديون لتعزيز الإنفاق على البنية الأساسية والدفاع والمساعدات المقدمة لكييف في حربها ضد روسيا، حيث ألمانيا هي ثانى أكبر مساهم في المساعدات العسكرية لأوكرانيا بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وعارض الحزب الديمقراطيين الأحرار المحافظ ماليًا أي اقتراض جديد، على الرغم من انخفاض نسبة الدين إلى الناتج المحلى الإجمالى لألمانيا، ودفع بدلًا من ذلك إلى خفض الضرائب والإنفاق مما يقلل من برامج الحماية الاجتماعية ويزيد من سوء حالة ألمانيا ويحد بشكل كبير من الدعم المقدم لكييف، وزاد الحد الدستورى الصارم الذي لا يُسمح للحكومة بتجاوزه إلا في ظروف استثنائية من حدة الموقف، فقد طلب شولتز من وزير ماليته تعليق كبح جماح الديون متعللًا بأن للحرب في أوكرانيا تأثيرًا استثنائيًا، ورفض ليندنر التزحزح عن موقفه وانهار تحالف إشارات المرور بعد إقالة وزير المالية وانسحاب وزراء حزب الديمقراطيين الأحرار.

واتفق الحزب الديمقراطي الاجتماعي بزعامة شولنز مع فريدريش ميرز الذي خلف أنجيلا ميركل في زعامة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ المعارض على إجراء تصويت على الثقة مما أدى إلى حل البرلمان بعد خسارة التصويت في السادس عشر من ديسمبر الماضى، وقرار الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير بإجراء انتخابات مبكرة في الثالث والعشرين من فبراير الحالي، في الوقت الذي يتصدر تحالف يمين الوسط المعارض المكون من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي استطلاعات الرأي الوطنية بنسبة 34%، ومن أحزاب ائتلاف إشارات المرور يحصل الحزب الديمقراطي الاجتماعي بزعامة شولتز على 16% وحزب الخضر على 11%، ولم يتجاوز حزب الديمقراطيين الأحرار بقيادة ليندنر عتبة 5% المطلوبة لدخول البرلمان، وكانت كبرى المفاجئات حصول حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف الذي يؤمن بتاريخ النازية ومبادئ أدولف هتلر على 22% من دعم الألمان، فيما يشبّهه كثير من الألمان بالنازيين الجدد.

فما هي جذور الأزمة السياسية التي تعانى منها ألمانيا؟ وهل من الممكن أن تنتخب ألمانيا النازيين الجدد كما انتخبت مؤسس النازية أودلف هتلر من قبل؟

جذور الأزمة السياسية في ألمانيا

بعد دخول البرلمان الفيدرالي للمرة الأولى منذ خمسينيات القرن العشرين في عام 2017، بدا أن حزب البديل من أجل ألمانيا المتطرف قد توقفت شعبيته عند 10% من أصوات الناخبين وليس أكثر من ذلك، ووفقًا لآخر استطلاعات الرأي حصل الحزب على تأييد 22% من أصوات الألمان، مما جعل منه ثاني أكبر كتلة شعبية في ألمانيا، وحقق أداءًا جيدًا ومفاجئًا في الانتخابات الإقليمية الأخيرة، ويخشى الألمان بشكل متزايد من أداء الحزب في الانتخابات المبكرة القادمة.

ومنذ ذلك الصعود يسعى الخبراء إلى تفسير صعود حزب يميني متطرف في بلاد حكمها أدولف هتلر ذات يوم، وعَمِلت منذ ذلك اليوم عقب الحرب العالمية الثانية على إغلاق المجال أمام تلك الأنواع من التشكيلات السياسية.

يُرجع بعض الخبراء جذور الأزمة السياسية التي تعاني منها ألمانيا حاليًا للقواعد السياسية التي ترسخت في ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، فقد انتهت جمهورية فايمار التي تُمثل أول تجربة ديمقراطية في ألمانيا باستيلاء النازيين على السلطة.

وفي ظل ذلك الفشل وخوفًا من زحف الشيوعية عَمِل الساسة الألمان مع الحلفاء الغربيين على صياغة نظام جديد يتجنب الفوضى التي شهدتها جمهورية فايمار، فقد فرضوا حدودًا مصطنعة على الخطاب السياسى خلال الفترة بين 1945 و1949، تلك الفترة التي احتلت فيها قوى الحلفاء الأربع ألمانيا، ومنحوا الامتيازات لأحزاب الوسط مع حظر ومضايقة الذين ينتمون إلى التيارات السياسية المتطرفة، وأسقط الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي يمثل أقدم كتلة سياسية في ألمانيا الأيديولوجية الماركسية من برنامجه عام 1959 متحركًا نحو الوسط ملتزمًا بمسار الليبرالية في الحرب الباردة.

وصمم التكنوقراطيون الاقتصاديون وحافظوا على اقتصاد السوق الاجتماعي الشهير في البلاد، وظلت السياسة في ألمانيا الغربية على مسارها لعقود من الزمن إلى الحد الذي لم يفز سوى ثلاثة أحزاب فقط بمقاعد في البرلمان الفيدرالي خلال الفترة من 1961 وحتى 1983، وكان الناخبون يميلون إلى الاستمرارية بين الإدارات، حيث فاز حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بأكبر عدد من الأصوات في جميع الانتخابات بين عامى 1949 وعام 1990 باستثناء مرة واحدة خلال تلك الفترة، وأعيد انتخاب المحافظ كونراد أديناور عام 1957 بأغلبية ساحقة.

وفي نفس الوقت حظرت الحكومة الأحزاب التي اعتبرتها خارج التيار الرئيسي مثل الحزب الشيوعي، وعندما تولى هيلموت كول منصب المستشار عام 1982 لم يُقْدم على الإصلاحات النيوليبرالية التي أقدم عليها معاصروه في بريطانيا مارجرت تاتشر والولايات المتحدة رونالد ريجان، فقد عزز التزام ألمانيا الغربية بالإجماع من الاستقرار واستمرارية السياسة ولكنه في الوقت نفسه حد من التطور السياسى، فعلى مدى عقود من الزمان بعد الحرب العالمية الثانية تحدث الخبراء عن الصمت الذي أحاط بالهولوكست وجرائم النازية الأخرى، وأن المجتمع الألماني يعاني من فيروس اللاإنسانية ومتلازمة القتل، على حد وصف عالم الاجتماع الشهير رالف داريندورف الناجي من معسكرات الاعتقال.

واستمرت المجموعات المهمشة في مواجهة الاضطهاد حيث أُدين أكثر من خمسين ألف رجل مثّلي الجنس في أول عشرين عامًا بعد الحرب بموجب قانون يعود إلى العصر النازي، ولم يلغ البرلمان الألماني قانون الإجهاد الذي يعود إلى النازي سوى عام 2023، وظلت الرغبة في صياغة إجماع بعد الحرب يشمل ملايين النازيين السابقين سببًا في تجاهل أي حساب منهجى للماضي الفاشي، بل بالسماح باستمرار الأضرار المنهجية، وبفضل الحماية الأمنية الأمريكية والثقة في القدرة على تجاوز الماضي الفاشي ودعم دولة الرفاهية بقوة، ظل الإجماع في ألمانيا الغربية بعد الحرب راسخًا لعقود، وتوصل الساسة وقوات الاحتلال إلى صفقة الحياة المريحة مقابل الشغور السياسي.

وبعد التاسع من نوفمبر عام 1989 وسقوط جدار برلين تحركت حكومة هيلموت كول لاستيعاب ما كان يُعرف ذات يوم بألمانيا الشرقية، وسرعان ما ذهبت نشوة إعادة الوحدة بين الألمانيتين، حيث فقد الكثير من الألمان الشرقيين وظائفهم، وتذمر الغربيون مما طُلب منهم للمساعدة في بناء الدولة الجديدة، وفرضت حكومة يسار الوسط بقيادة جيرهارد شرودر حزمة من الإصلاحات النيوليبرالية  في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مما أدى إلى خفض شبكة الأمان الاجتماعى بالبلاد، وأشار العديد من المفكرين إلى أن تلك التشريعات النيوليبرالية التي تم سنْها في كثير من الدول الكبرى عملت في كثير من الأحيان على إفراغ المجال السياسى من خلال تطبيق عقلانية السوق على عملية صنع القرار السياسى، مما خلق مساحات لأحزاب مثل البديل من أجل ألمانيا.

وحاول العديد من الخبراء تفسير صعود اليمين عمومًا بطبيعة السياسة الألمانية خلال الستة عشر عامًا التي قضتها المستشارة أنجيلا ميركل في منصبها والتي اتسمت بالاستقرار، وكان الاعتدال والإجماع شعارها، وكانت السيدة ميركل مثل أسلافها من المستشاريين الألمان نادرًا ما تأخذ قرارات متسرعة، كما تسعى دائمًا إلى إقناع الأحزاب الأخرى بالانضمام إلى سياساتها، وهو ما أتاح لحزب البديل من أجل ألمانيا فرصة من خلال رسم مسار وسطي، حيث جعلت ميركل الأحزاب السياسية الرئيسية تبدو متشابهة إلى حد كبير، وكانت سنواتها في السلطة واحة من الاستقرار ولكنها أيضًا فترة من الملل والركود.

ومع استمرار الأحزاب الرئيسية في اتباع الخطوط الحمراء ووجوهها لنفس الوضع الراهن فسوف تستمر تلك الأحزاب في التنازل طوعًا عن الأرض لصالح البديل الحقيقي في السياسة الألمانية بغض النظر عن يمينيته وتطرفه.

هل من الممكن أن تنتخب  ألمانيا النازيون الجدد كما إنتخبت مؤسس النازية أودلف هتلر ؟

إن الناخبين الألمان يواجهون مشاكل مختلفة تمام الاختلاف عن المشاكل التي واجهوها قبل قرن من الزمان، لقد أصبح شعار التصويت لليمين يشبه إلى حد كبير عام 1933 شعارًا مفضلًا لليساريين الألمان، ويظهر ذلك على ملصقات الانتخابات ولافتات الاحتجاج وحتى القمصان والجوارب، في استحضار العام الذي تولى فيه أدولف هتلر منصب المستشار الألماني، باعتبار ذلك سلاحًا قويًا ضد حزب البديل من أجل ألمانيا المناهض للهجرة.

ولكن من الممكن أن تأتي تلك الاستراتيجية بنتائج عكسية، حيث وصْف المعارضين السياسيين بالنازيين هو الطريقة النهائية لإخبارهم بأن اختيارهم خاطئ من الناحية الأخلاقية، أنها ليست استراتيجية مضمونة النتائج في ألمانيا، فمن الممكن أن تؤدي إلى مشاعر الذنب والعار والصدمة الجماعية، فالرسالة هي صوتوا لحزب البديل من أجل ألمانيا وسوف تكونون مسؤلين عن تكرار أحلك فترات التاريخ الألماني.

لاشك أن هناك تشابه بين ألمانيا الحالية وأوائل ثلاثينيات القرن العشرين من حيث التدهور الاقتصادى والانقسام السياسي والشعور بأن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار، وشكلت تلك العوامل تهديدات وجودية للجمهورية بين الحربين. لكن هناك مكونات رئيسية غذت التطرف في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين ولم تعد موجودة اليوم وهي ازدراء الديمقراطية والانتقام الشديد والتسامح مع العنف.

فعندما انتهت الحرب العالمية الأولى ألغيت الملكية في ألمانيا وحل محلها أحد أنقى أشكال الديمقراطية في التاريخ الحديث، ومع ذلك كان هذا النظام وليد الهزيمة، ومُبتلى بعدم الاستقرار منذ البداية، واعتبره كثيرون نظامًا خاسرًا، وسرعان ما توافد الكثير من الناخبين على الأحزاب التي أرادت تغيير ذلك النظام بشئ آخر، وكانت الملكية والاشتراكية والشيوعية والديكتاتوريات اليمينية كلها مطروحة على ورقة الانتخاب.

أما اليوم فتشير استطلاعات الرأي إلى أن الألمان يعتقدون أن الديمقراطية هي أفضل أشكال الحكم، حتى ناخبى حزب البديل من أجل ألمانيا حتى مع عدم رضاهم عن الطريقة التي تعمل بها الديمقراطية حاليًا، والذي يزداد مع الاتجاه لليمين السياسي، لكن ذلك أمر مختلف تمامًا عن الاستياء من الديمقراطية نفسها وازدرائها، كما تغيب اليوم النزعة الانتقامية الشديدة التي اُبتلى بها الساسة الألمان قبل قرن من الزمان، فالمعاناة الهائلة التي تحملها الألمان أثناء الحرب والطبيعة الانتقامية لمعاهدة فرساي التي تسببت بتقليص مساحة ألمانيا وثرواتها وسكانها بل واحترامها لذاتها عام 1919، وكانت الجاذبية النفسية للانتقام والاستعادة هائلة، وشعر الألمان بالهلع تجاه الطريقة التي بدا فيها الساسة الألمان يقبلون الوضع الراهن الجديد الناتج عن معاهدة فرساي، وذلك بغض النظر عن كونهم لا يملكون الكثير من الخيارات في ذلك الوقت.

أما اليوم لم يعد هناك من يطالب بجدية باستعادة أجزاء من بولندا وفرنسا سوى القليل جدًا ولا يصوتون على هذا الأساس، أما العامل الأكثر زعزعة للاستقرار في السياسة الألمانية في عشرينيات القرن العشرين والذي لم يكن هتلر يصل إلى السلطة بدونه فهو وحشية المجتمع التي كانت أُولى نتائج الحرب العالمية الأولى، حيث استخدم الملايين من الرجال السلاح للقتل والجرح وعاد أولئك الذين نجوا من أهوال تلك الحرب وقد تغيّروا، وكان السلاح متاح والإحجام عن استخدامه يتضاءل.

أما الأحزاب فكانت تملك أجنحة شبه عسكرية، حتى الديمقراطيين الاجتماعيين كان لديهم الرايه السوداء العفنة الذهبية، وقد بلغ عدد أعضائها ثلاثة ملايين بحلول عام 1932، وعقب الأربع سنوات الأولى في الجمهورية الجديدة وصل عدد الاغتيالات السياسية ما يقرب من 376 اغتيالًا، ارتكبت معظمها ميليشيات شبّه عسكرية من اليمين، وكان بين الضحايا وزير الخارجية والتر راثيناو ووزير المالية ماتياس أيرزبرجر، وسمحت هذه الأجواء لهتلر بتكوين جيش من أكثر من أربعة ملايين جندى من قوات العاصفة، والذين أصبحوا عنصرًا حاسمًا في صعوده إلى السلطة، من خلال ترهيب وإقصاء المعارضين السياسيين، ولم يحقق النازيون الأغلبية في البرلمان واعتمدوا على العنف في تمرير قانون التمكين سئ الذكر والسيرة عام 1933 الذي وجه ضربة قاضية للديمقراطية.

وعلى الرغم من تأييد حزب البديل من أجل ألمانيا لهذا التاريخ، واستخدام  شعارات تلك الفترة مثل “كل شئ من أجل ألمانيا” وشعار “أليس من أجل ألمانيا”، ولكنها شعارات جوفاء، فحزب البديل لايملك جيش من البلطجية ولا يعمل في مناخ اجتماعي يقبل بذلك.

ختامًا؛ من غير المرجح أن يُنهي تصويت الثالث والعشرين من فبراير الاضطرابات السياسية في ألمانيا، فالحاجز المصمم لحماية الديمقراطية الألمانية من خلال إبقاء اليمين المتطرف تحت السيطرة، لا يعمل على استبعاد حزب البديل من أجل ألمانيا فقط، بل يحصُر الحياة السياسية الألمانية في طرقٍ ضيقة، فحزب البديل من أجل ألمانيا بفعل جدار الحماية لا يملك شركاء للاتفاف معهم، بل لا يملك طريقًا واقعيًا للوصول إلى السلطة باستثناء الأغلبية المطلقة بالطبع.

ومع ذلك فإن جدار الحماية هذا يُعقد أيضًا عملية بناء التحالفات بين الأحزاب الألمانية، فقد استبعد فريدريش ميرز زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي التعاون مع حزب البديل من أجل ألمانيا، وبالرغم من ذلك فقد تعاون معه لتمرير اقتراح يحد من الهجرة، ولكنه عاد واعتذر عن ذلك بعد الهجوم عليه من باقي الأحزاب السياسية واتهامه بخرق جدار الحماية في الحياة السياسية الألمانية، ووعد بإجراء مناقشات مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم وحزب الخضر، وهدد الحزب البافاري من أجل ألمانيا اليميني المتطرف في ولاية بافاريا برفض أية ائتلاف مع حزب الخضر، كما يرفض حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحى التعاون مع حزب اليسار في حالة عودته إلى البرلمان، كذلك رفض حزب الحركة الاشتراكية الألمانية كشريك محتمل، ويتردد صدى هذا الموقف لدى المستشار الألماني أولاف شولتز الذي رفض التحالف مع حزب الخضر بسبب موقفه من روسيا معلنًا أن التحالف معهم لن ينجح على الإطلاق، ومن غير المرجح أن يحيى الحزب الاشتراكي الديمقراطى ائتلافه المتوتر مع الليبراليين. ففي البرلمان اتهم شولتز الحزب بالتخريب معلناً أنه يفتقر إلى اللياقة والنضج.

وتعهد الليبراليون رسميًا بعدم الحكم إلى جانب الخضر، وفي ظل تلك الخطوط الحمراء وجدران الحماية في كل الاتجاهات، فإنه من الأرجح أن يشمل ائتلاف الحكم القادم الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكى الديمقراطي، أو التحالف بين الحزب الديمقراطي المسيحي وحزب الخضر، وكلا السيناريوهين يتطلب أن يتخلى ميرز عن التقدمية الميركلية لأنه في السيناريوهين سوف يضطر إلى تقاسم السلطة مع شركاء أكثر ميلًا إلى اليسار، ومن الممكن أن يكون التحالف القادم المكون من حزبين أكثر استقرارًا من حكومة إشارات المرور المكونة من ثلاثة أحزاب، ومع ذلك لن يُحدث الائتلاف الجديد في برلين تغيرًا ملموسًا في الحياة السياسية الألمانية سوى زيادة صعود اليمين، وبالفعل أعلن حزب البديل من أجل ألمانيا أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي خصمه السياسى الرئيسي. كما يبدو واثقًا من أنه سوف يستفيد من عدم الرضا عن أى شخص يحكم بعد ذلك، وقد صرح عضو البرلمان الأوروبي المتطرف ماكسيميليان أن خيبة الأمل سوف تأتي عندما يبدأ المحافظون في الحكم مع الخضر في 2025، وأن أربع سنوات أخرى من الدعاية أنه لا بديل، قد تؤدي فقط إلى تعزيز قوة حزب البديل من أجل ألمانيا، وأن الأزمة السياسية الحالية قد تكون مقدمة لخطر أعظم في الأشهر والسنوات القادمة، وتتمتع الائتلافات الكبرى في ألمانيا بشعبية بين الناخبين لسجلها الحافل في تحقيق الاعتدال والاستقرار.

على النقيض من ذلك تشكل الائتلافات الثلاثية ملاذًا استثنائيًا غير مستقر وغير عملي للأحزاب لتشكيل حكومة أغلبية، وهو التحدي الذي يتسارع مع استمرار نمو شعبية حزب البديل من أجل ألمانيا وحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي المناهض للمؤسسة.

أيًا كان شكل الحكومة المقبلة سوف تضطر إلى التعامل مع التحديات الكبرى التي فشلت الإدارة الحالية في مواجهتها، حيث تواجه ألمانيا أزمة بنيوية عميقة بما في ذلك انخفاض الإنتاجية والاستثمار بشكل مزمن، مع ارتفاع تكاليف الطاقة والعمالة والتركيبة السكانية غير الملائمة والنمو الهش المعتمد على التصدير، مع قاعدة صارمة فيما يتعلق بسقف الديون، وتبقى التحديات الجيوسياسية  الأهم التي تواجه برلين التي تتعلق باختبار روسيا لعزم الناتو وتحدى الصين للنظام العالمي الذي يقوده الغرب مع الشكوك المتزايدة في التزامات واشنطن تجاه أوروبا خاصة مع عودة الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض.

د. حسام البقيعي

رئيس وحدة دراسات العالم، الباحث حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى