انعكاسات “معركة أم درمان” على مسار الحرب في السودان

محمد صلاح الدين-باحث مساعد في الشأن الإفريقي

تمكن الجيش السوداني من السيطرة مجددًا على مقر الإذاعة بأم درمان في 12 مارس الجاري بعد أحد عشر شهرًا من القتال في العاصمة الخرطوم، فيما عدت أحد التحولات المهمة في مسار الحرب، وتمثل السيطرة على مبنى الإذاعة وبعض أحياء أم درمان نقطة تحول كبيرة في مسار الحرب مستقبلًا فقد تمكن الجيش من تحقيق أول نصر عسكري كبير بعد فقدان السيطرة على ولايات جنوب وغرب ووسط وشرق دارفور والجزيرة، الأمر الذي أدى إلى استعادة الجيش لثقته مجددا في قواته.

وتكمن أهمية السيطرة على أم درمان في أنها تمثل مدخلًا مهمًا للعاصمة من الناحية الشمالية الغربية بجانب ضمها للسلاح الطبي وقاعدة كرري وسلاح المهندسين مما يجعلها تمثل عمقًا استراتيجيًا للبلاد، لذا فإن الطرف الذي يحكم قبضته عليها سيكون له القدرة في حسم الحرب وفرض إرادته وهو ما ظهر في تصريحات رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان بأن معركة الكرامة مستمرة حتى يتم هزيمة ميليشيا “الدعم السريع” ومعاونيها على حد تعبيره، وأضاف أن الجيش لن يترك السلاح إلا بعد القضاء على المتمردين، مطالبًا “الدعم” بالخروج من الجزيرة والخرطوم.

وبالتزامن مع تلك التطورات الميدانية تبلور مشهد الاصطفافات مجددًا، حيث اصطفت بعض القوى السياسية الداعمة للجيش في مواجهة البعض الآخر الذي يطالب بوقف الحرب وإنهاء الأزمة بالتفاوض بين الجيش و”الدعم السريع” ما أدى إلى حدوث مبارزة سياسية يحاول كل طرف فيها استقطاب الدعم للاستمرار في موقفه سواء التفاوض أو استمرار الحرب.

مؤشرات جديدة:

شهدت الأزمة السودانية مجموعة من التطورات السياسية والميدانية المحورية، التي من شأنها تؤثر على مسار الحرب التي خلفت واحدة من أسوأ أزمات النزوح وسوء التغذية في العالم، وو مايمكن استعراضه كالتالي:

(*) السيطرة على أم درمان: بعد دخوله المدينة واستعادة بعض أحيائها في فبراير الماضي، تعتبر سيطرة الجيش على مبنى الإذاعة نقطة فارقة في مسار الحرب كما أنها قد تكون بداية النهاية للحرب التي دامت ١١ شهرًا، إذ عززت من إمكانية السيطرة على العاصمة الخرطوم بأكملها، لذا فإن الجيش استغل هذا النصر في تعزيز موقفه التفاوضي بل والرغبة في استكمال الحرب والقضاء على الميليشيا خاصة بعد حصار “الدعم السريع” في مناطق محددة في العاصمة، وجاءت زيارة البرهان إلى أم درمان عقب السيطرة على مبنى الإذاعة لتحمل في طياتها معنى يوحي بأن البرهان وسط شعبه وجيشه وأنه عازم على قيادة الشعب للنصر دون الذهاب لتسوية مع زعيم الميليشيا محمد حمدان دقلو “حميدتي” والتي من شأنها ان تعيده إلى المشهد العسكري والأمني السابق، ويؤكد الفريق البرهان – خاصة بعد تحرير مبنى الإذاعة – على أنه لا حديث عن تسوية وأن “معركة الكرامة” مستمرة حتى يتم القضاء على الميليشيا والتي نهبت وقتلت.

(*) عودة الاصطفافات: وفي ظل تلك التطورات المهمة ظهر مشهد اخر وهو عودة الاصطفافات السياسية التي صاحبت مسار الأزمة التي سبقت 25 أكتوبر 2021 وحتى اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، فجاءت بعض القوى السياسية التي خلفت مجموعة المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير وبعض القوى السياسية والمجتمعية الداعمة للاتفاق الإطاري وقد انتظمت في (تنسيقية القوى المدنية “تقدم”) وتطالب بالوقف الفوري للحرب والعودة لمسار المفاوضات بشأن الحل السياسي وتسليم السلطة للمدنيين، واتهمت تلك القوى بانحيازها للدعم السريع بعد تصريحات ياسر عرمان  زعيم  “الحركة الشعبية – التيار الثوري الديمقراطي” والتي تعد احد الفصائل الرئيسية للحركة والتغيير بان حميدتي كان داعما ومؤيدا للاتفاق الإطاري كما أنه كان متحمسا لجيش سوداني موحد حيث جاءت الاتهامات بأنها  إشارة إلى الدعم غير الصريح لقوات الدعم السريع فيما نفت الحركة اي انحياز للدعم السريع وانها جاءت بهدف المساهمة في وقف الحرب في حين جاءت قوى أخرى من رحم الكتلة الديمقراطية ممثلة في تنسيقية القوى الوطنية لترفض أي تسوية قبل إنهاء الحرب عسكريًا بالتوافق مع توجهات الجيش.

واتسمت مواقف الحرية والتغيير بالتصادم مع  حزب المؤتمر الوطني والذي حكم السودان في عهد البشير قبل أن يتم الإطاحة به في ٢٠١٩ وتبلور دوره بعد الحرب وسط أزمة اقتصادية طاحنة، وبرزت المخاوف من عودة نظام البشير بعد تدشين التيار الإسلامي العريض في إشارة لعودتهم مجددًا إلى الحياة السياسية.

وعلى الرغم من ذلك فلا يزال دور الجماعات الإسلامية في عهد البشير عالقًا في الأذهان لذا فإن عودتهم للحياة السياسية قد لا تحظى بشعبية كبيرة، ويرى بعض المحللين بأن الإسلاميين في السودان يلعبون دورًا مهمًا في معادلة الأزمة الراهنة حيث يحشدون المدنيين للمشاركة في الحرب، بل إنهم احيانا يهاجمون الفريق البرهان نفسه للدفع بمواصلة الحرب.

ولعل منبر جدة كان أحد المحاولات لوقف الحرب، إلا أن غياب الإرادة السياسية بوقف الحرب والتعنت في تنفيذ بنود حماية المدنيين واستمرار تواجد عناصر الميليشيا في منازلهم، أفشل المشروع، وتتهم قوى “تقدم” الإسلاميين بإفشال أي جهود للتسوية لتورطهم في استمرار الحرب والتصدي لاي محاولات للتسوية لذا فإن الحرب هي اخر استثمار للاسلاميين لتحقيق هدفهم بالعودة للحياة السياسية، وكل ذلك ساهم في احتقان المشهد السياسي السوداني.

وفي ظل تحولات المشهد السياسي في ضوء الحرب ظهرت  تنسيقية القوى الديموقراطية المدنية “تقدم” والتي تشكلت  بأديس أبابا في أكتوبر ٢٠٢٣ برئاسة عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السابق من قوى الحرية والتغيير السابق الإشارة إليها ولجان مقاومة ومنظمات مجتمع مدني وظهرت الحركة بصفتها أحد الداعمين لوقف الحرب والتوصل لحل سلمي ونتيجة لذلك قامت “تقدم” بعقد إعلان أديس أبابا مع “الدعم السريع” في 2 يناير 2024، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة، إلا أن موقعيه أكدوا على أن الاعلان جاء بغرض إنهاء الحرب وفتح الطريق أمام الحل السلمي

وكرد فعل على ظهور “تقدم” جاءت تنسيقية القوى الوطنية والتي عقدت مؤتمرها التأسيسي في مارس الجاري ببورتسودان بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار واتفقت بمقتضاه على دعمها للقوات المسلحة في حربها ضد “الدعم السريع” بجانب دورها في توحيد كافة مكونات الشعب السوداني، ويتسم موقف التنسيقية بالدعم الكبير للجيش، حيث أعلنت التنسيقية اعتزامها توقيع إعلان سياسي مع الجيش بهدف إنهاء الحرب وتكوين حكومة انتقالية ويضم ذلك التحالف حركات مسلحة موقعة على اتفاق سلام جوبا وقوي مدنية ومؤسسات مجتمع مدني والجبهة الوطنية وفصائل من الجبهة الثورية والمجلس الأعلى لنظارات البجا وتنسيقية شرق السودان وحزب البعث وغيرها، ويوحي ذلك بأن للجيش أيضًا حلفاء داعمين لمسار الحسم العسكري ورفض التفاوض لا سيما بعد تقدم الجيش في أم درمان، فكما أن هناك قوى تريد التفاوض على إنهاء الحرب وتسليم السلطة للمدننين، فإن هناك قوى أخرى ترفض ذلك وتسعى لملء الفراغ الحكومي في الوقت الراهن تحت قيادة الجيش، لذا فإن حالة الاستقطاب الحاد تلك ستؤثر على المشهد السياسي السوداني في المستقبل وعلى مسار المفاوضات أيضًا.

ارتدادات محتملة

يمكن القول بالأخير إن مستقبل المفاوضات ملبد بالغيوم في ظل التنافس بين القوى السياسية بالداخل من ناحية والتطورات الميدانية بين الجيش و”الدعم السريع” من ناحية أخرى خاصة بعد معركة تحرير مبنى الإذاعة ويمكن وضع سيناريوهين للمرحلة المقبلة كالتالي:

(&) السيناريو الأول؛ استمرار الحرب: هناك عدة مؤشرات تدل على ذلك ومنها تأكيد الفريق أول عبد الفتاح البرهان الدائم على حسم الحرب عسكريًا إذ يؤكد على أنه لا اتفاق مع أي جهة خانت الشعب السوداني وبعد سيطرة الجيش على مبنى الإذاعة في أم درمان جاءت تصريحات البرهان أشد من سابقاتها، إذ شدد على مواصلة حصار ميليشيا “الدعم السريع” في باقي المناطق التي يسيطرون عليها وكذلك مواصلة “معركة الكرامة” حتى القضاء على الميليشيا ومن يعاونها، بجانب رفض القوى التي تظهر دعمها للجيش أي تسويات والإصرار على حسم الحرب عسكريًا مما يعقد المشهد ويصعب من عملية التفاوض مستقبلًا ويعمق من حدة الأزمات الإنسانية سواء زيادة معدلات النزوح القسري أو زيادة معدلات الإصابة والوفاة بجانب تعميق عدة أزمات موجودة بالفعل مثل نقص الغذاء وانتشار الأوبئة.

(&) السيناريو الثاني؛ التفاوض وإنهاء الأزمة: وهو سيناريو قد يكون أقل ترجيحًا عن سابقه لكنه من الممكن أن يتم التفاوض بين الطرفين حال تنفيذ ميليشيا “الدعم السريع” لمطالب الجيش بالانسحاب من الأماكن السكنية التي سيطروا عليها ووقف القتال ، وطبقًا لتصريحات البرهان فإن التفاوض يمكن أن يتم حال تنفيذ تلك البنود واحترام المبادئ التي تم الاتفاق عليها في منبر جدة والتي لم تلتزم بها قوات حميدتي، كما أن التفاوض بين الطرفين قد يتم حال تمكن القوى الدولية وقوى الداخل السوداني من إقناع الطرفين بالجلوس على طاولة المفاوضات خاصة وأن هناك عدة مبادرات دولية ووطنية تسعى لحل الازمة مثل مبادرة تنسيقية “تقدم” والتي تسعى لجمع الطرفين على طاولة التفاوض بما قد ينعكس إيجابيًا على مسار الحرب وعودة السلم والأمن في السودان.

وإجمالًا؛ يمكن القول إنه لا حل للأزمة السودانية دون وجود إرادة سياسية بين الطرفين، فعلى الرغم من وجود عدة مبادرات إفريقية وعربية ودولية إلا أنها باءت بالفشل وفيما يتعلق بمبادرات القوي السياسية السودانية فإن اتخاذ موقف حاسم فيها سواء بالفشل أو النجاح يعد أمرًا يصعب الحكم فيه بسبب غياب الإرادة الحقيقية للطرفين مع انحياز القوى السياسية لأحد الأطراف دون الآخر، وهو ما يزيد من تعقيد المشهد.

وما يعيق نجاح المفاوضات بين البرهان وحميدتي هو اختلاف الدوافع والأهداف أيضًا للقوى السياسية خاصة بعد تقدم الجيش في أم درمان وبشكل كبير قد يسهم ذلك الحدث في رفض الذهاب لأي تسويات بين الجيش و”الدعم السريع” والاستمرار في الحرب لتحرير باقي العاصمة قبل الدخول في مفاوضات أو استكمال مسيرة الحرب وهو ما جاء على لسان البرهان نفسه في عدة تصريحات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى