مستوى محتمل.. ارتدادات حرب غزة على نشاط الذئاب المنفردة
كشف النصف الثاني من نوفمبر الماضي عن تواتر حوادث العنف في أوروبا وأمريكا التي ترتكبها عناصر الذئاب المنفردة، وهو ما اعتبره مراقبون كرد فعل عن الانتهاكات التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة منذ الـ 7 من أكتوبر الماضي.
فخلال الـ 50 يومًا الأخيرة، قتل أربعة أشخاص وإصابة آخر في حادث طعن في نيويورك الأحد ٣ ديسمبر ٢٠٢٣، كما قتل في ذات اليوم شخص وأصيب اثنان آخران في حادث طعن وسط باريس، حادث طعن في أيرلندا بتاريخ ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٣ أسفر عن إصابة خمسة أشخاص، طعن امرأة يهودية في فرنسا بتاريخ ٥ نوفمبر ٢٠٢٣، مقتل اثنين وإصابة ثالث بعد إطلاق النار على المارة في بروكسل بتاريخ ١٦ أكتوبر ٢٠٢٣، قتل مدرس وإصابة آخرين في هجوم بسكين في فرنسا بتاريخ ١٣ أكتوبر ٢٠٢٣.
تأسيسا على ما سبق، وفي ظل احتمالات تزايد معدل ضربات الذئاب المنفردة في أوروبا وأمريكا، – يبقى السؤال، وهو: ما محفزات تصدر عمليات “الذئاب المنفردة” على السطح في الواقع الأوروبي في هذا التوقيت؟، وما احتمالات استمرار تلك العمليات وتصاعدها خلال الفترة المقبلة من عدمه؟، وما معوقات تقويض تلك الظاهرة في أوروبا؟
محفزات قصوى:
في الأول تجدر الإشارة إلى أن تصاعدت أعمال العنف من قبل متطرفين من الجانبين الإسلامي واليهودي، جاء نتيجة إعلاء خطاب الكراهية والتحريض ضد الآخر سواء من قبل إعلام الجماعات المتطرفة على اختلاف توجهاتها، أو من قبل إعلام الجانب الصهيوني، وهو ما قد يؤدي كنتيجة منطقية إلى زيادة عمليات “الذئاب المنفردة” داخل أوروبا في الفترة الحالية والقادمة، نظراً لصعوبة التوقع الأمني والسيطرة علي هذا النوع من العمليات، تلك العمليات تقع بفعل متطرفين في الغالب لا ينتمون بشكل تنظيمي إلى أي من الجماعات الإرهابية، وتلقوا الفكر المتطرف من خلال الفضاء السيبراني الذي لا يزال مشحون بزخم الترويج للأفكار المتطرفة.
وبالتالي، من المرجح أن توجه بل تبرر بعض الشخصيات سواء اليسارية أو القومية لارتكاب عمليات عنف من هذا النوع، في حالة استمرار شراسة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وعليه، قد نشهد حالة تشبه حالة الجهاد في أفغانستان وما صُنع حولها من مادة دعائية وإعلامية محفزة على العنف في مناطق عدة من العالم ـبعد انتهاء الحرب ضد الروس سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، ونفس الأجواء عقب الجهاد الشيشاني في التسعينات، مما صنع حالة من تمجيد العنف و مفاهيم الجهاد العالمي وخلطه بحق الدول في التخلص من الاستعمار.
لقد انعكست أجواء تعظيم أدبيات الجهاديين والمتطرفين المعتمدين لدى الجماعات الإرهابية المختلفة بشكل مباشر عبر إعلام تلك الجماعات على معدل تفاعل المتابعين لتلك المحتوى على “السوشيال ميديا”، على إثر أعمال الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني، بحيث ترتب على تلك الأجواء المشحونة بواقع التأثر بمشاهد استشهاد أطفال فلسطين استغلال تلك المشاعر من قبل إعلام الجماعات المتطرفة، ارتفع نتيجة لذلك معدل المشاهدات والمشاركة الإيجابية من قبل قطاع من الشباب المتأثر عاطفيا بأحداث فلسطين، فصنعت الجماعات المتطرفة وعناصرها من خلال توظيف الأحداث الجارية أتباع جدد وأحيت الأفكار المتطرفة، من خلال خلط مفاهيم الدفاع عن قضية عادلة بمفاهيم التطرف والعنف، التي تسعى الجماعات الإرهابية إلى الترويج لها بين قطاع جماهيري أوسع،يصبح قادر على تنفيذ أهداف تلك الجماعات.
لقد سجلت المادة الإعلامية للجماعات المتطرفة، أعلى معدلات عرض تقارير وأناشيد من أدبيات وتاريخ الجماعات المتطرفة التي تحرض ضد الغرب بوجه عام منذ عملية “طوفان الأقصى”، باعتبار الغرب يمثل الكفر الذي يحارب الإسلام وفق تلك الأدبيات، يبث إعلام جماعة الإخوان المسلمين من خلال قنواته الفضائية والقنوات والصفحات الإلكترونية على مدار الساعة، بشكل حصري مادة إعلامية تمجد في بطولات حركة “حماس” من واقع الإعلام العسكري للحركة ممزوجة بالترويج لأدبيات الجماعة عن الجهاد والموت وسيادة المسلمين للعالم “الأستاذية”، بحيث يصعب تحديد الخط الفاصل بين أعمال المقاومة والعمليات الإرهابية و المفاهيم المرتبطة بها.
بناء علي ما تقدم، ساهمت الأحداث الجارية في الشرق الأوسط على الترويج لخطاب الكراهية والعنف على أعلى مستوياته عبر الإعلام الفضائي فضلاً عن الإعلام الإلكتروني لتلك الجماعات الرسمي وغير الرسمي، التأكيد على نفس المفاهيم المتطرفة من قبل أشخاص يدعون كذباً أنهم لا ينتمون لجماعة الإخوان يبث مباشرة على مدار اليوم، هؤلاء الأشخاص عناصر في الجماعة يرددون أدبياتها ويخدمون نفس أهداف الجماعة للترويج للعنف، ويبشرون أتباعهم والمتأثرين بالزخم والأجواء المشحونة بانتهاء الغرب الكافر قريباً.
من جانب آخر؛ استغل تنظيم داعش بدوره تواتر حوادث العنف بواسطة “الذئاب المنفردة” في أوروبا للإعلان عن وجودة، حيث تبنى التنظيم وأعلن عن مسئوليته عن بعض هذه الحوادث، واستغل التنظيم ومتطرفين منتمين له فكريا أحداث فلسطين لتدوير أفكار التنظيم حول الجهاد العالمي ضد الغرب الكافر، وأُعيد الترويج علي صفحات لمتطرفين بعض رسائل قديمة للتنظيم منها: “أيها الجنود الأمريكيون نحن قادمون، انتبهوا لأنفسكم.. ، لن نرحمكم أيها الكفار، داعش هنا بالفعل، إننا على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بكم، إننا نعرف كل شيء عنكم وعن زوجاتكم وأطفالكم..لا اله إلا الله لا قانون إلا الشريعة”، علي الرغم من أن تنظيم داعش لم يكن له دور مطلقاً في أحداث “طوفان الأقصى” وما تبعها، لكن التنظيم نجح كعادته في توظيف الأحداث للإعلان عن نفسه، والرسالة المذكورة تم إعادة تدويرها من صفحات مجهولة، لاستغلال الزخم العاطفي بين المسلمين على وقع أحداث فلسطين، للتحريض ضد الغرب بوجه عام.
نتاج ما سبق؛ تصاعد معدل عمليات العنف الإسلامي وتواتره من قبل “الذئاب المنفردة” في الغرب في الشهريين السابقين، بعد أن تراجعت تلك العمليات بنسب ٨٥٪ منذ مطلع ٢٠٢١، كنتيجة لإتاحة المادة الدعائية للمحتوى المتطرف عبر المواقع والصفحات الإلكترونية، حيث تجيد الجماعات المتطرفة الإفلات من آليات حجم المحتوى المتطرف، وربط الأحداث في فلسطين على مدار الساعة بما تروج له تلك الجماعات من فكر متطرف، وعرض معلومات تمثل سبق عن عناصر “حماس”، لصناعة صورة ذهنية طوباوية لدي المتلقي، وإيهام المتابع بصدق المحتوى بالكلية وإخلاص الشخص مقدم المحتوى، بالتالي يصبح المتلقي مادة خصبة ومهيئا لاستقبال كل ما يقدمه المتطرف، وهو ما يتضح من زيادة معدل المتفاعلين بشكل إيجابي مع تلك الصفحات أضعاف ما كان عليه قبل أحداث فلسطين.
على الجانب الأخر؛ ساهم الخطاب الإعلامي الصهيوني إلي تأجيج مشاعر البعض من اليهود ومناصريهم من المتطرفين، بصناعة صورة ذهنية بأن عملية “طوفان الأقصى” تهدف إلى الخلاص من اليهود في أنحاء العالم، واستخدام روايات دينية أصولية توظف في سياق تمجيد الفكر الصهيوني وادعاء حقه في أرض فلسطين، مما أدى بدوره إلى تصدر المتطرفين من اليهود حول العالم إلى الواجهة، وطفت على السطح من جديد حالة “الإسلاموفوبيا” في بعض الأوساط الغربية خاصة تجاه المهاجرين، مما سيؤدي كنتيجة منطقية إلى زيادة حوادث العنف من اليمين المتطرف المعادي بالأساس للمهاجرين خاصة من المسلمين، بالتالي تدين القضية من الجانبيين ترتب عليه بالفعل زيادة حوادث الطعن والهجوم العنيف من “الذئاب المنفردة” في الأيام الأخيرة ،ويتوقع استمرار هذا التصعيد في الأيام القادمة.
معوقات المجابهة:
ثمة معوقات قانونية وواقعية تحيل دون القدرة على القضاء بشكل نهائي على ظاهرة “الذئاب المنفردة”، فضلاً عن أن السيطرة عليها في الفترة الحالية يشوبه صعوبات جوهرية، فحوادث العنف التي تقع بواسطة شخص ينتمي فكريا للمنظومة المتطرفة، لا يحتاج إلي تمويل أو تدريب متخصص يمكنه من القيام بتلك الحوادث، يكفي فقط أدوات بدائية تمكنه من القيام بالمهمة وفي أغلب الأحوال لا يحتاج غير سكين، أما فيما يتعلق بتلقي الأفكار المتطرفة فالفضاء السيبراني يضج بالمحتوى المتطرف الذى عجزت آليات حجب المحتوى المتطرف التي وضعت من قبل الاتحاد الأوربي عن تقويضه، تلك الآليات غير قادرة من جانب على تميز المحتوى المتطرف من المحتوى المجابهة للتطرف، من جانب آخر عناصر الجماعات المتطرفة من مقدمي المحتوى لديهم خبرة في التعامل مع تلك الآليات، بحيث يستطيع العنصر تمرير الفكر المتطرف دون التعرض لحجب المحتوى.
في ذات السياق؛ قوانين الدول الأوربية الخاصة بمكافحة الإرهاب غير رادعة، بحيث أغلب الأشخاص الذين قاموا بحوادث الإرهاب “الذئاب المنفردة” في الأيام الأخيرة من المفرج عنهم قريباً في قضايا إرهاب سابقة داخل أوروبا، بالإضافة إلى أن قوانين الاتحاد الأوربي وأمريكا تسمح للعناصر المتطرفة بالعمل في المجالات الاقتصادية المختلفة لسهولة إجراءات والتسهيلات التي توفرها من خلال شركات “الأوفشور”، التي تساعد مؤسسيها من الإفلات من الرقابة المالية.
بناءً عليه؛ تمكنت الكيانات المتطرفة من تكوين ثروات تمثل مصادر تمويل تغرى البعض للانتماء إليها، فضلاً عن السماح بالسيطرة على أموال التبرعات لجمعيات ومؤسسات ومساجد في الدول الأوربية، وإن كان الذئب الجهادى غير منتمي تنظيمياً إلى أحد تلك الجماعات، إلا إنه يتكون لديه شعور بالقوة والفخر لانتمائه فكرياً لجماعات ذات حظوة وقوة اقتصادية، خاصة كونه غالباً شخص فاقد للشعور بالقيمة قبل انتمائه الفكري لتلك التنظيمات، فيحاول تعويض تلك المشاعر السلبية من خلال الانتماء للمناخ الجهادي الذي يوفره له الاتصال الالكتروني، كما أسهم إتاحة الحصول على السلاح في أمريكا ارتفاع معدل عمليات “الذئاب المنفردة” من الجانبين الإسلامي واليميني المتطرفان.
عدم قدرة برلمانات أغلب دول الاتحاد الأوربي تصنيف جماعة الإخوان كتنظيم إرهابي رغم المحاولات الكثيرة التي قام بها بعض أعضاء تلك البرلمانات في السنوات الفائتة، ترتب على ذلك عدم اعتبار أي محتوى خاص بأدبيات جماعة الإخوانـ وهو المحتوى الأول الأكثر انتشاراً وتأثيراً على السوشيال ميدياـ محتوى متطرف يوجب حجبه، رغم أن نفس الدول المذكورة تصنف أفرع لجماعة الإخوان وحلفائها كيانات إرهابية رغم انتمائهم جميعاً لنفس النبع الفكري ما يفضح ازدواجية المعايير الأوروبية، مما أسهم بشكل عميق وسريع لوصول هذا المحتوى إلى قطاعات من الشباب، تعاملت مع الجماعة في أوقات سابقة كأشخاص دعويين، فبعد أحداث فلسطين أصبحت هذه القاعدة الجماهيرية تستقبل المحتوى الجهادي للجماعة ببساطة وتقبل وتعظيم دون تمييز.
ارتدادات لصالح الفواعل دون الدول:
أسهمت العوامل السابق الإشارة إليها بالإضافة إلى تسبب توجه النشاط والقوة العسكري الأمريكية إلى مساندة إسرائيل، مما نتج عنه نشاط مضاد للبؤر الإرهابية في مناطق مختلفة في أفريقيا وأسيا كباكستان ومناطق أفريقيا، تمثل آخره في إعلان تنظيم داعش منذ ساعات مسئوليته عن تفجير قداس كاثوليكي جنوبي الفلبين، ازدياد نشاط الجماعات المتطرفة في جمع التبرعات قسرياً تحت عنوان مساعدة فلسطين، مما سيسهم في نشاط الجماعات المتطرفة وقوتها التمويلية في الفترات القادمة، فقد أجبرت جماعة الحوثي في اليمن النساء اليمنيات علي التبرع بالذهب لمساعدة فلسطين، دخلت تلك الأموال خزانة الحوثي، كما فتحت جماعة الإخوان باب التبرعات في عدة دول وجمعت أموال بمعزل عن أي نوع من الرقابة، والجماعة لديها تاريخ طويل موثق لسرقة أموال التبرعات.
من مجمل ما سبق؛ الأجواء الإعلامية والدعائية الملغمة بأناشيد الجهاد التي أُعدت في أوقات الجهاد الأفغاني والشيشاني، واستدعاء فقه الجهاد والحديث عن رموز الإرهابيين عبر التاريخ، باعتبارهم رموز للجهاد العالمي، وشحن المشاعر بقصص من سير الصحابة عن الفتوحات، وربط تلك المواد الدعائية والدعوية للجهاد العالمي بأحداث فلسطين، بالإضافة إلى تعمد الخلط والتدليس وفساد في القياس بين المفاهيم، سيسفر عنه إنتاج قوافل من الإرهابيين الجدد المستعدين للقيام بأعمال إرهابية في صفوف أحد الجماعات المنتشرة في بؤر إرهابية مختلفة من العالم، بالإضافة إلى صناعة أعداد من “الذئاب المنفردة” حول العالم يصعب السيطرة عليهم في ظل نفس المحفزات والمعطيات.