قمة السعودية- الصين.. ورؤية 2030

عبد السلام فاروق- كاتب وباحث مصري

 جاءت قمة السعودية الصين بزيارة الرئيس الصينى شي جين بينج للمملكة كرد لزيارة سابقة قام بها الملك سلمان بن عبد العزيز عاهل الحرمين الشريفين للصين منذ نحو خمس سنوات مضت، وزيارة أخرى قام بها ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان للصين منذ ثلاث سنوات..والزيارة الأخيرة تأتى فى إطار سياسات جديدة تتخذها المملكة لتوسيع مجالات رؤيتها الاستراتيجية لتحقيق رخاء شعبها من خلال فكرة تعدد المحافظ المالية والخروج من بوتقة البترودولار الضيقة إلى رحاب أوسع باستثمارات مالية لا تعتمد فى الأساس على النفط بل على مجالات اقتصادية متعددة كالصناعة والسياحة والزراعة والتقنيات من باب حسن استغلال الموارد البشرية والطبيعية المتاحة للمملكة وهى موارد جمة.

 ما الذى حدث فى قمة السعودية الصين ؟ وما هى رؤية المملكة الاسترتيجية 2030؟ وما الرابط بينهما؟

ما بين القمة والرؤية

رؤية السعودية 2030 هى رؤية شاملة لشتى جوانب التنمية وتتضمن بالضرورة مشروعات كبري بعضها تم والبعض الآخر فى إطار التنفيذ .. أنت تتحدث هنا عن استثمارات بمليارات الدولارات ستغير وجه المملكة ووجهتها..  مشروعات فى مجال الطاقة والسياحة والتطوير الحضارى والتنمية الثقافية والإسكان والرعاية الصحية بل والزراعة والتحول الحضرى والتشجير .. مشروعات طموحة تسلب اللب من روعتها حتى وهى فى طور التأسيس.

 تشتمل الرؤية على 11 برنامجاً تنفيذياً تطبقها الحكومة بمشاركة القطاع الخاص ولها محاور ثلاثة رئيسية أولها ازدهار الاقتصاد لتوسيع نطاق الأعمال والاعتماد بشكل أكبر على السعوديين فى تحقيق نهضة المملكة وجذب الاستثمارات الخارجية. لهذا فإن الاتجاه للصين فى هذا التوقيت يمثل جزءاً رئيسياً من خطوات تحقيق الرؤية الاقتصادية المعتمدة على جذب الموارد ورؤوس الأموال من الخارج ولا أفضل من الصين كأيدى عاملة ماهرة وخبرات فنية عظيمة وسوق استهلاكية لا تنتهى.

  المحور الثانى من محاور الرؤية الشاملة يرتكز على قيام مجتمع حيوي متفاعل ينعم بحياة آمنة مزدهرة فى وسط تعليمى وتثقيفى وصحى بأعلى معايير الجودة العالمية به نظم للتكافل الاجتماعى ويتجه على الدوام لتحقيق رفاهية وسعادة ليس فقط للمواطن السعودى بل للزائر والمستثمر السعودى على حد سواء. ثم المحور الثالث الذى يستهدف دوام التطوير من خلال شعار وطن طموح لاستكشاف مزيد من الفرص المتاحة لتحقيق أهداف المملكة فى المستقبل.

 وإذا بحثنا فى الاتفاقيات التى تضمنتها قمة السعودية الصين سوف نجدها لن تخرج عن إطار رؤية السعودية المعلنة منذ نحو ست سنوات وكانت الصين هى الدولة الأولى التى اتجهت لها السعودية لتساعدها فى تحقيق تلك الرؤية بما تملكه الصين من قدرات جبارة وخبرات هائلة فى شتى المجالات الاقتصادية .

  وعلى الناحية الأخرى سنكتشف من خلال البيان الختامى للقمة السعودية الصينية أن الصين قد تكون هى المستفيد الأكبر من هذه الاتفاقية ، ليس فقط لأنها وضعت قدماً فى منطقة الشرق الأوسط برعاية وريادة سعودية، ولا لأنها وجدت حليفاً ذى قوة اقتصادية راسخة، وإنما الأهم من وجهة النظر الصينية أن القمة تمثل خطوة كبيرة فى سبيل اكتمال الحلم الصينى المتمثل فى مشروعها الأثير الحزام والطريق. الصين رحبت بانضمام المؤسسات السعودية لاستثمارات المشروع الصينى الضخم، وتعهدت بتعزيز موقع المملكة كمركز إقليمى للشركات الصينية وسلاسل الإمداد من أجل تحقيق استثمار مشترك يصل الشرق الأوسط بأوروبا وإفريقيا مروراً بمصر .. وهنا يأتى دور مصر فى استكمال منظومة التنمية بل وباقى الدول الثلاثين المشاركة فى القمة العربية الصينية. نحن نتحدث إذن عن شراكة واسعة ذات حجم هائل أضخم مما قد نتصور . هذه قمة استثنائية لها ما بعدها.

دعونا نتخيل المملكة عام 2030:

العمل بالمملكة يجرى كما هو واضح على قدم وساق.. وربما تحققت رؤيتها قبل الموعد .. فكيف ستغدو بلاد الحرمين بعد أقل من عشر سنوات من الآن كما نتمناها ، وكما هو مخطط لها ..

  أول ما لفت نظرى فى تلك الرؤية مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، لاحظ معى حجم الطموح فى هذا التعبير الموجز.. لا السعودية ولا منطقة الخليج الخضراء بل شرق أوسط أخضر، تلك مبادرة بحجم منطقة بأسرها، الخير يراد له أن يعم الجميع ويشمل السعودية وسائر الدول العربية الشقيقة حولها.. وربما كانت الأقدار تسير مع الأحلام السعودية لتيسير تحقيق هذا الحلم الأخضر ، فرأينا كيف أن الماء تفجر من تحت الأرض ينابيع وأنهاراً خلال أسابيع وشهور مضت ، وكيف انهال الوابل الحافل ببشائر الخير على شتى بقاع المملكة وإن جرف فى طريقه بعضا مما يمكن تعويضه. تخيل معى كيف ستتحول المملكة فى غضون سنوات من هذا السعى وهذا المدد الربانى من صحراء صفراء قاحلة إلى مروج وحدائق وغابات تجرى من تحتها الأنهار كأجمل بقاع أوروبا وأفضل.

  مشروعات الطاقة والتقنيات حظيت فى رؤية المملكة للسنوات القادمة بنصيب الأسد. وبعضها مرتبط بتوفير كميات من المياه الصالحة للزراعة والتشجير كمشروع تحلية المياه باستخدام الطاقة الشمسية، وهو مرتبط بدوره بمصنع إنتاج الألواح والخلايا الشمسية المزمع إنشاؤه، بل وبالمفاعل النووى للأبحاث المقرر إنشاؤه والذى سيضع المملكة فى مستوى الدول الصناعية خاصة وهناك مدن صناعية ستقام كمدينة الملك سلمان للطاقة وبرنامج الجينوم السعودى وبرنامج صنع فى السعودية لتشجيع الصناعات المختلفة لا فى مجال البتروكيماويات فقط بل وفى غيرها. لقد اشتملت اتفاقات القمة السعودية الصينية على مشروعات لتوطين مشروعات الطاقة والذكاء الاصطناعى والتقنيات إلى جانب مشروعات الطاقة الكهروضوئية وطاقة الرياح وتطوير سلاسل الإمداد الخاصة بمشروعات البترول والبتروكيماويات.

  إذا أضفت لكل هذه المشروعات السياحية والعمرانية والصناعية والزراعية والثقافية طريقاً صينياً شرقياً هو طريق الحرير  يصل السعودية بآسيا كلها ، وطريقاً غربياً ربما يتم تدعيمه من خلال جسر الملك سلمان يصل السعودية بمصر وإفريقيا ثم أوروبا .. فأنت أمام نقلة نوعية كبري لا فى السعودية وحدها بل فى المنطقة بأسرها. وعلينا أن نكون على قدر الحدث وندعمه بما يستطاع .

ماذا بعد القمة؟

تغيرت اللهجة التى تتحدث بها الخارجية الأمريكية مع منطقتنا بعد هذا الحدث، وسمعنا لهجة أقل صلفاً وأكثر تزلفاً ونعومة. ما يعنى أن المصلحة العربية الغربية تحققت من خلال تلك القمة بطريقة غير مباشرة!

البيان الختامى للقمة أشار بشكل واضح للشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين فى شتى المجالات وهو ما يتجاوز مجرد التعاون الاقتصادى إلى آفاق أشمل وأكثر اتساعاً..هناك حديث عن تبادل ثقافى وسياحى وعن تدعيم سلاسل الإمداد بالأسطول التجارى الصينى الضخم والخدمات اللوجستية والبنى التحتية والتعدين وتحولات القطاع المالى والمصرفى والبورصة. وحديث آخر عن الجمع والمواءمة بين رؤية 2030 لتطوير المملكة وبين مشروع الصين الحزام والطريق ليسيرا معاً بهارمونية وانسجام .. أكثر من هذا ما تم توقيعه من مذكرات تفاهم بين الجانبين الصينى والسعودى للتعاون فى مجالات خدمية واجتماعية كتعليم اللغة الصينية والقضاء والإذاعة والتليفزيون والتغطية الإخبارية والإدارة الضريبية ومكافحة الفساد والاقتصاد الرقمى. ما يؤكد أنك أمام حدث هائل له ما بعده ويجب استغلاله وحماية مكتسباته..

كان من بين أهم ما اشتمل عليه بيان الختام تأكيد الجانبين الصينى والسعودى على مواصلة دعم المصالح الجوهرية لبعضهما بثبات، ودعم كل جانب الجانب الآخر في الحفاظ على سيادته وسلامة أراضيه، وبذل جهود مشتركة في الدفاع عن مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وغيره من قواعد القانون الدولي والمبادئ الأساسية للعلاقات الدولية. وأكد الجانب السعودي مجددًا على الالتزام بمبدأ الصين الواحدة.. وفى نفس الإطار أكد الجانب الصينى دعمه للمملكة في الحفاظ على أمنها واستقرارها، وأكد معارضته بحزم أي تصرفات من شأنها التدخل في الشئون الداخلية للمملكة العربية السعودية، ورفض أي هجمات تستهدف المدنيين والمنشآت المدنية والأراضي والمصالح السعودية. مكتسبات الاقتصاد لابد لها إذن من إجراءات حماية ودفاع وردع..

إن العالم اليوم يمر بمنعطفات حادة نراها بأعيننا ونلمس آثارها، وعلينا أن نستشف ما تتجه إليه البوصلة السياسية والاقتصادية فى المستقبل حتى يتسنى لنا كعرب أن نفهم سياقات الأحداث ونواكب المستجدات التى تهرول بنا وقد تتركنا فى ذيل الركب إلا لو انتبهنا لمواضع أقدامنا وسارعنا للسير فى المقدمة حتى ولو توارت مؤقتا خلف الضباب!

abdelsalamfarouk@yahoo.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى