من المهم أن نفكر.. الأهم كيف نفكر؟

د. على الدين هلال

كتب أرسطو أن الإنسان حيوان ناطق، ولم يقصد بالنُطق، مُجرد القُدرة على التواصُل من خلال اللغة ولكن ملكة العقل والتفكير التى يملكها بدرجة تعلو على جميع المخلوقات الأُخرى. فالتفكيرُ هو صِفة للإنسان، وكان أداته على مر العصور للحفاظ على حياته، واستغلال موارد البيئة المُحيطة به لتحقيق التقدم.

يختلفُ أساتذة الفلسفة والتربية حول تعريف معنى التفكير. ويُمكن بصفة عامة التمييز بين اتجاهين، الأول يركز على التفكير باعتباره عملية عقلية هدفها فرز المعلومات والأفكار التى يُدركها الإنسان من خلال حواسه ويصنفها ويُقيم العلاقات المنطقية والسببية والوظيفية بينها. والثانى يُركز على النشاط المُستقل للعقل سواء باستحضار معلومات وأفكار وصور من الذاكرة، أو بإبداع وابتكار أفكار جديدة فى أحد مجالات المعرفة الإنسانية والاجتماعية. وبالطبع، فإن تفكير أى إنسان لا يحدثُ فى فراغ ولكن فى سياق اجتماعى وتاريخى يتأثر به، كما أن عقل أى إنسان يتأثر أيضًا بسماته النفسية والوجدانية وما يرتبط به من مشاعر وأحاسيس.

ويختلف الباحثون أيضًا حول أنواع التفكير، فيتحدثون عن أنماط غير مُحبذة مثل التفكير الماضوى الذى يجعل أحداث التاريخ قيدًا على فهم الحاضر والمُستقبل، والتفكير غير المنطقى الذى يُفسر الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بعوامل وأسباب لا يُمكن دراستها علميًا، والتفكير العاطفى الذى تتحكم به جموح العواطف والغرائز. وفى المُقابل، يتحدثون عن أنماط مرغوبة أو مُحبذة تدور جميعها حول منهج التفكير العلمى. ومن أشكاله: التفكير المنطقى، والتفكير الرياضى، والتفكير الإبداعى أو الابتكارى، والتفكير النقدى. لذلك، فإنه ليس من المهم فقط التشجيع على التفكير، وإنما أيضًا أن يكون التفكير بمنهج نقدى وإبداعى.

كانت هذه السُطور ضرورية كمُقدمة للحديث عن كتاب مُهم بعنوان «أسئلة المنهج الناقد» ألفه د. مجدى يوسف وصدر عام 2016. والمؤلف هو أستاذ للأدب والفلسفة، اشتغل بالتدريس فى عدد من الجامعات المصرية والألمانية، ومهموم بقضية المنهج وأنماط التفكير السائدة فى أوساط المثقفين والمفكرين. ويدعو المؤلف إلى تبنى المنهج النقدى فى تحليل الظواهر الاجتماعية والأعمال الأدبية. ويعتبر أن الاستقلال الفكرى وعدم الانقياد أو الامتثال لمعطيات ثقافة أُخرى هو مسألة ضرورية ولازمة. فيُحذر المؤلف من انبهار المثقفين العرب الشديد بالحضارة الأوروبية الغربية أو اعتبارها المعيار الذى يتم وفقًا له تقييم مدى التقدم الذى تحرزه الشعوب والثقافات الأُخرى.

ويُبرر هذا الموقف بضرورة النظر إلى هذه الحضارة من منظور تاريخى، فقد مرت بمرحلة صعود فى القرون السابقة، ولكنها ليست كذلك اليوم بل إنها تُواجه تحديات التراجُع ورُبما الأفول. ويُضيف أنه عندما انتقلت الأفكار التى ظهرت فى أوروبا فى القرن التاسع عشر مثلًا إلى بلاد وثقافات أُخرى، اكتسبت معانى جديدة وذلك وفقًا لنظرية التلقى. وتشير هذه النظرية إلى أنه عندما يتلقى أبناء ثقافة ما أفكارًا قادمة من الخارج فإنهم يستقبلونها فى إطار منظومتهم الثقافية والفكرية. ويؤكد المؤلف أنه من الضرورى الانتباه إلى الاختلاف الموضوعى بين السياق الاجتماعى للإنتاج الفكرى أو الأدبى، والسياقات الاجتماعية لمُستقبليه وهو ما سماه سياق الاستقبال الاجتماعى.

وفى هذا الإطار، ركز المؤلف على الخصوصية الوطنية أو القومية للشعوب والثقافات وضرورة تنشيط أفكارها فى تفاعُلها مع الأفكار الوافدة وهو ما يعتبره أحد إنجازات ثورة 1919 فى مجالات الدراما والرواية والمسرح والقصص المصرية. وإلى جانب ما تقدم، يشمل الكتاب كثيرا من الأفكار الجديرة بالتأمل، منها أن الفلسفة هى أصل كل العلوم الاجتماعية والإنسانية، وأن العلوم الإنسانية والإبداعات الأدبية هى ظواهر مُجتمعية، لأنها نُصور حياة الناس وعلاقاتهم ومشاكلهم ومثلهم العُليا فى فترة تاريخية مُحددة. وتطبيقًا لذلك، يرى المؤلف أنه لا يُمكنُ دراسة الأدب العالمى الآن دون ربطه بالسياق الاقتصادى والمُجتمعى وتحديدًا علاقات السوق وقانون القيمة، وأن مظاهر الثقافة الراهنة من كتب وصُحف ووسائل إعلام هى سلع سوقية فى المقام الأول. ويقصد بذلك، أنها أصبحت سلعًا يتم الترويج لها فى السوق، وتتحدد مكانتها بقدر انتشارها وتوزيعها.

التفكير النقدى ليس تفكيرًا أُحاديًا أو ذا اتجاه واحد بل إنه يتضمن عمليات عقلية مُعقدة، والأخذ به فى حالة هذا الكتاب لم يؤدِ بمؤلفه إلى رفض مُنتجات الحضارة الغربية أو قبولها كلية، كما لم يدفعه إلى تبنى كُل ما ورد فى التُراث العربى بمُختلف تجلياته أو قطع الصلة به تمامًا. بل تبنى موقف ضرورة الاستفادة من الأفكار الحديثة من منظور تفاعُلها مع الخصوصية الوطنية.وكتب أن على مفكرى العالم الثالث العمل معا لاستعادة الوعى بأهمية تنوع الثقافات الاجتماعية واحترام خصوصية كُل منها فى بلادهم، على ألا يكون ذلك فى صورة دفاعية انعزالية يتوسلون بها لعودة مستحيلة لتراث ماض…وإنما فى مواجهة حية مع الحاجات الثقافية الراهنة للمجتمع، وفى علاقة تفاعلية تقوم على أساس من الندية الكاملة مع سائر الثقافات الاجتماعية فى العالم.

هذه الموضوعات ليست مسائل بعيدة عن الواقع، أو أنها تهم المثقفين وحسب، بل هى مرتبطة أشد الارتباط بما يحدث فى بلادنا اليوم. فالفكر والثقافة والأدب جُزء حيوى من الحوار الوطنى، وركن أصيل من مفهوم الجمهورية الجديدة التى نتطلع إليها. وإنسان القرن الحادى والعشرين الذى يتعامل مع مبتكرات التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعى ويعيش فى عالم السُرعة والتغيير عليه أن يكون مسلحًا بالتفكير النقدى. ويجب أن نعمل على غرس بذور هذا التفكير لدى الأطفال فى المراحل الأولى من الدراسة، وذلك بتنمية روح التساؤل والفضول لديهم وليس قيم الانصياع والتماثل، وأن نُشيع قيم هذا التفكير فى مُختلف مؤسساتنا الاجتماعية.

نقلا عن الأهرام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى