مسيرة استثنائية وتكريم مستحق

د. أحمد يوسف أحمد

ذهبت منشرح الصدر لتلبية الدعوة الكريمة التى وجهها لى الأستاذ الجليل والأخ والصديق العزيز الدكتور أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية لحضور حفل تكريم سلفه الدكتور مصطفى الفقى، وكيف لا والمُكَرم زميل وصديق عزيز ترجع علاقتى به لأولى سنوات دراستى الجامعية فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فيما كان هو طالباً بالسنة الرابعة يعرفه الجميع كرئيس لاتحاد الطلاب يملأ الدنيا حركة ونشاطاً، غير أن السبب المباشر فى اقتراب طالب بالسنة الأولى مع زميل فى السنة النهائية كان الخطوات الأولى لتأسيس منظمة الشباب التى جمعتنى به فى مراحل التدريب السياسى الأولى، وكان من حظى أن جمعتنا مجموعة دراسية واحدة فى معسكر حلوان، وكانت هذه المصادفة مناسبة لمعرفة المزيد من جوانب شخصيته المتفردة التى كان أول ما عرفته منها هو قدرته الخطابية التى لا تُبارى، غير أن تزاملنا فى معسكر حلوان كشف المزيد من جوانب الإبهار فى شخصيته وأهمها ثقافته العميقة وجرأته فى طرح أفكاره وقدرته على الإقناع فى حواراته ناهيك بخفة ظله اللافتة، وكلها صفات لازمته طيلة مسيرته الحافلة ووقفت خلف البصمات الواضحة التى تركها فى كل موقع شغله وكل دور اضطلع به، وما أدراك ما هذه المواقع وهذه الأدوار!

من الطبيعى أن يتقلب الإنسان بين مواقع مختلفة فى نفس المجال، لكن ذهنى لم يسعفنى بحالة مشابهة لمسيرة الدكتور الفقى الذى اضطلع بأدوار فى مهنته الدبلوماسية الأصلية وأخرى لصيقة برأس الدولة وثالثة فى المجال الحزبى والتشريعى ورابعة فى المجال الأكاديمى وصولاً إلى مجال الثقافة الرفيعة، وفى كل موقع شغله ودور اضطلع به ترك بصمته القوية الواضحة، ولعل الموقع الذى شغله فى ختام حياته المهنية الدبلوماسية خير شاهد على ذلك سفيراً لمصر فى النمسا وسفيراً غير مقيم فى ثلاث دول أخرى، وممثلاً لمصر فى عدد من المنظمات الدولية، وكان الأداء استثنائياً كالعادة فحصل من هذا البلد العريق على أرفع الأوسمة، وليس أدل على تفوقه المهنى من أنه كان مدخله إلى واحد من أكثر المواقع حساسية وهو سكرتير الرئيس مبارك للمعلومات (١٩٨٥-١٩٩٢)، وهو فى تقديرى أكثر موقع كشف عن قدراته وجوهر شخصيته، ليس للأهمية البالغة والحساسية الفائقة لهكذا موقع، وإنما للنهج الذى اتبعه فى عمله هذا، فمن المتوقع فى هذه الحالات أن يركز شاغل الموقع على إرضاء الرئيس فحسب، لكن صاحبنا قام بمهمته على خير وجه كقناة توصيل موضوعية وأمينة فى الاتجاهين بين الحاكم ومجتمعه وقواه السياسية وكذلك للتطورات الدولية، وقصة إصراره على إيقاظ مبارك عندما وقع غزو الكويت رغم معارضة البعض باتت معروفة، وقد يكون هذا التميز هو ما جعله يحوز على ثقة الرئيس وتقديره حتى أصر على كتابة التقرير السنوى عنه بنفسه وفقاً لشهادة الوزير محمد العرابى، ومن اللافت أن الدكتور مصطفى لم يحصل بأدائه الرفيع فى هذا الموقع على تقدير الرئيس وثقته فحسب وإنما على محبة من تعامل معهم فى هذا السياق وقدروا له احترامه لهم وصدقه فى نقل وجهات نظرهم، وهى محبة بدت غامرة واستمرت بعد أن غادر هذا الموقع الحساس.

ومن المعتاد أن يكون زوال المنصب الرفيع علامة على خفوت الأضواء وتراجع العطاء لمن كان فيه، ولا أعرف استثاءً لهذه الظاهرة سوى حالتين هما الأستاذ هيكل والدكتور الفقى، فكما كان خروج الأول من رئاسة تحرير الأهرام بداية لمزيد من العطاء والتألق حدث الأمر نفسه لصاحبنا، ولم يتوقف الأمر عند أدائه الرفيع فى آخر مهامه الدبلوماسية فى النمسا، وإنما امتد لاحقاً إلى دوره فى المؤسسة التشريعية التى شغل رئاسة لجنة الشئون العربية بها، وسطر لنفسه موقفاً اتسق مع مبادئه حين اعتذر عن عدم زيارة إسرائيل بصفته هذه، وامتد نشاطه لاحقاً لتولى مسئولية أكاديمية رفيعة برئاسة الجامعة البريطانية (٢٠٠٥-٢٠٠٨)، وليواصل عطاءه الأكاديمى الذى بدأ قبل ذلك بسنوات فى كليته وفى الجامعة الأمريكية، وإن يكن هذه المرة كقيادة لهذه الجامعة الوليدة وليس كمجرد أستاذ بها، ثم جاء مسك الختام بتولى مسئولية مكتبة الإسكندرية التى أحسبها الأقرب إلى قلبه بحكم ثقافته الموسوعية، وقد حقق فى هذا الموقع تحديداً إنجازات محددة على صعيد تطوير العمل بها ودعم قدراتها المالية وتعزيز علاقاتها الدولية.

بدأ حفل التكريم مهيباً بدخول الدكتور مصطفى بصحبة الدكتور أحمد زايد إلى القاعة الكبرى بالمكتبة بحضور الآلاف فاستقبله الحاضرون بالتصفيق الحار وقوفاً لدقائق، ثم ألقى الدكتور زايد كلمة ضافية أشار فيها بحق إلى أن عطاءه للمكتبة لم يكن سوى جزء من مسيرة حياة حافلة بالإنجاز والإخلاص والشهامة وحب الوطن، وكان لافتاً حرص جميع مؤسسات الدولة فى الإسكندرية على تكريمه بدءًا من محافظها ومروراً برئاسة جامعتها وقيادة المنطقة الشمالية وانتهاءً بنقابة العاملين بالمكتبة، بل لقد اتخذ التقييم طابعاً عربياً بتكريم أكاديمية النقل البحرى التابعة للجامعة العربية له، ثم عُرِض فيلم وثائقى مُعَزز بشهادات واقعية عن مسيرته أعدته المكتبة، وبعد ذلك تحدث الدكتور الفقى عن تجربته فى المكتبة حديثاً ممتعاً امتزج فيه النقد الذاتى بالدروس المستفادة والطموحات المستقبلية بطلاقته وخفة ظله المعهودتين، ثم ألقى أضواءً كاشفة بالغة الأهمية على قضيتين محوريتين هما سد النهضة وتحولات المجتمع المصرى، واختُتم الاحتفال بكلمات رائعة من الدكتور عصام شرف والدكتور على الدين هلال والأستاذ محمد سلماوى، ثم الاحتفال بافتتاح المكتبة المُهداة من الدكتور مصطفى الفقى. غادرت المكتبة مبتهجاً وأنا على يقين بأننا وإن كنا قد طوينا صفحة ناصعة أخرى من كتاب عطاء مصطفى الفقى فإننا بالتأكيد على وشك أن نشهد صفحة جديدة سوف تكون هى الأروع فى عمره المديد بإذن الله.

نقلا عن جريدة الأهرام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى