مغذيات الاتهام: لماذا هدد ترامب الحكومة النيجيرية؟

تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة ونيجيريا بشكل حاد وسريع، بعد انفجار التوترات إثر اتهام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحلفائه من اليمين السياسي والديني للسلطات النيجيرية بالتقاعس عن وقف ما وصفوه بـ الإبادة الجماعية للمسيحيين، وهددت إدارة ترامب بالتدخل عسكريًا لوقف تلك الإبادة المزعومة. وقد أدى ذلك إلى هبوط العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوياتها منذ سبعينيات القرن الماضي، حين كان الخلاف يدور حول كيفية إنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

خلال عدة أشهر، بدأت وسائل إعلام أمريكية يمينية، ثم البيت الأبيض نفسه، باتهام الحكومة النيجيرية بالتسامح مع ما وصفوه بالإبادة الجماعية للمسيحيين. وتصاعدت الاتهامات عندما أعلن ترامب أن وزارة الخارجية الأمريكية—وبموجب قانون الحريات الدينية الدولية—تدرج نيجيريا ضمن الدول المثيرة للقلق بشكل خاص، تمهيدًا لمزيد من الضغط الدبلوماسي ثم فرض العقوبات، ملوّحًا بأن واشنطن ستقطع جميع المساعدات عن نيجيريا.

وبعد هذا التصريح بيوم واحد فقط، وفي الأول من هذا الشهر، أمر البنتاجون بالاستعداد لـ “عملية سريعة ووحشية” في حال فشلت الحكومة النيجيرية في منع الإسلاميين من قتل المسيحيين. وأيد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو هذا التوجه فورًا، فيما أعلن وزير الحرب الأمريكي بيت هيجسيث أن وزارته تستعد للتحرك “فإمّا أن تحمي الحكومة النيجيرية المسيحيين أو سنقتل نحن الإرهابيين الإسلاميين الذين يرتكبون هذه الفظائع”. وبعد يومين فقط، كرر ترامب اتهاماته بأن المسيحيين يُقتلون بأعداد كبيرة للغاية في نيجيريا، ملمحًا إلى أن التحرك العسكري الأمريكي قد يتخذ عدة أشكال، من ضربات جوية إلى توغلات برية.

هنا تبرز عدة أسئلة: ما حقيقة “إبادة المسيحيين” في نيجيريا؟ ومن يقف وراء سياسة ترامب العدوانية تجاهها؟ وما حقيقة ما يجري فعلاً في البلاد؟ وما أسباب هذا النهج السياسي المتشدد؟

قراءة واقعية:

ليست هذه المرة الأولى التي تدرج فيها نيجيريا ضمن قائمة الدول المثيرة للقلق. فقد صُنفت عام 2020 في فترة رئاسة محمد بخاري، لكن إدارة جو بايدن أزالتها من القائمة في نوفمبر 2021 بعد تأكيد وزير الخارجية أنطوني بلينكن أن إدراج نيجيريا سابقًا لم يستند إلى معايير صحيحة.

وتفنّد الخرائط الميدانية لنشاط الجماعات الإرهابية في نيجيريا مزاعم ترامب؛ إذ لا تتجاوز نسبة المسيحيين في شمال نيجيريا 4% فقط، وهي المنطقة التي يقول ترامب إنها تشهد “إبادة” بحقهم. وتشير التقديرات إلى أن المسلمين—الذين يشكلون 95% من سكان شمال نيجيريا—هم الضحايا الأكبر للهجمات الإرهابية. فالجماعات المسلحة، وعلى رأسها بوكو حرام وتنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا، تنشط أساسًا في ولايات بورنو، ويوبي، وأداماوا، مع امتدادات لولايات شمالية أخرى.

وتؤكد الدراسات الميدانية أن تلك الجماعات لا تميز بين ضحاياها، وأن المسلمين يتعرضون لاستهداف خاص بسبب رفضهم أيديولوجيات الإرهاب وتعاونهم مع الدولة. كما تشير البيانات إلى أن ضحايا اشتباكات الرعاة والمزارعين—التي أودت بحياة 19 ألف شخص منذ 1999—لا علاقة لها بالدين، بل بالصراع على الأرض والمياه في ظل التصحر الذي يطال 43% من أراضي نيجيريا.

كما توجد شبكات قطاع طرق تتركز هجماتها في “الحزام الأوسط” حيث يشكل المسيحيون غالبية السكان، مما يُظهر أن الضحايا يرتبطون بالجغرافيا لا بالدين.

وقد أكد مستشار ترامب للشؤون العربية والأفريقية، مسعد بولس، بعد لقائه الرئيس النيجيري تينوبو، عدم صحة ادعاءات الإبادة الجماعية للمسيحيين. وهو الموقف نفسه الذي أكده قساوسة بارزون في شمال نيجيريا، قبل أن يتراجع البعض تحت ضغوط سياسية ومحلية.

وتغفل سردية ترامب حقيقة أساسية: أن الدولة النيجيرية لا تميز دينيًا، وأن دستورها يضمن حرية الاعتقاد، وأن مؤسساتها الأمنية تضم قادة مسلمين ومسيحيين، وأن هناك مستوى عالٍ من التعايش الاجتماعي، حتى أن زوجة الرئيس النيجيري المسلم تينوبو هي أسقفة في إحدى كبرى الكنائس الخمسينية.

مغذيات الاتهام:

عبّر السفير الأمريكي السابق ديفيد شين عن استغرابه الشديد من تصريحات ترامب قائلاً: “لا فكرة لدي من أين يأتي بهذه الأفكار، أو من يقترحها عليه”. بينما يرى كاميرون هدسون، خبير الشؤون الأفريقية في مركز الدراسات الدولية، أن سياسة ترامب تجاه نيجيريا مدفوعة بحركة MAGA ومرتبطة باسترضاء قاعدته الإنجيلية المحافظة أكثر من ارتباطها بمكافحة الإرهاب.

فقد حصل ترامب في ثلاث دورات انتخابية على أغلبية كبيرة من أصوات الإنجيليين الأمريكيين، الذين يتمتعون بنفوذ كبير داخل البيت الأبيض. وتملك الكنائس النيجيرية—باعتبارها الأكبر عددًا في العالم الجنوبي—تأثيرًا كبيرًا على هذا التيار المحافظ.

كما لعبت منظمات دينية يمينية دورًا رئيسيًا في ترويج رواية “اضطهاد المسيحيين”، مثل منظمة الأبواب المفتوحة، ومنظمة الإغاثة المسيحية العالمية. كما ساهم الانفصاليون البيافريون في تضخيم هذه الرواية لتحقيق مكاسب سياسية.

أسباب مفسرة:

يرى الكاتبان فولا فاجبولي وفَيِي فاوينهمي في مقال لهما بصحيفة التليجراف أن ما يحدث في نيجيريا ليس صراعًا دينيًا، بل هو انعكاس لانهيار مؤسسات الدولة وتراجع الحكم الرشيد وغياب العدالة لعقود طويلة، مما خلق بيئة من انعدام الثقة والعنف المتبادل.

فالأزمات العميقة التي تمر بها نيجيريا—من العنف العرقي، إلى قطاع الطرق، إلى فشل الشرطة—هي أعراض دولة تتفكك وليس اضطهادًا دينيًا لمكوّن بعينه. ترجع السياسة العدائية لترامب لعدة أسباب، منها:

1. انضمام نيجيريا لمجموعة “بريكس” رسميًا في يناير 2025، وسعيها نحو سياسة خارجية متعددة الأقطاب.

2. موقف نيجيريا الداعم تاريخيًا للقضية الفلسطينية ورفضها الضغوط الإسرائيلية والأمريكية.

3. رفض نيجيريا استقبال مهاجرين وسجناء مرحَّلين رغم الضغوط الأمريكية.

4. الخلافات الثقافية والسياسية مثل مواقف الأديب وولي سوينكا المناهضة لترامب.

خاتمة، إن مزاعم “إبادة المسيحيين” في نيجيريا تمثل سردية انتقائية تتجاهل الصورة الحقيقية للأوضاع، وتغذي مخاوف من تسييس الدين واستخدامه لتبرير تدخلات خارجية. ويهدد ذلك بتصاعد النفور الأفريقي من السياسات الأمريكية، ويعزز توجه دول القارة نحو قوى عالمية بديلة مثل الصين وروسيا، التي تُقدّم نفسها على أنها أقل إصدارًا للأحكام وأكثر احترامًا للسيادة الإفريقية.

د. حسام البقيعي

رئيس وحدة دراسات العالم، الباحث حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى