كيف منعت الجغرافيا تشكيل الدولة والهُوية في سوريا؟

مَنْ نحن؟ هل سوريا المعاصرة دولة وطنية نهائية؟ أم جزء من كلٍّ أكبر؟ أم تجمع لهُويّات وجماعات مختلفة؟ لماذا بقيت مسألة الدولة والانتماء الوطني موضوعًا للانقسام والتناحر منذ الاستقلال حتى اليوم؟ وأخيرًا لماذا يحمل السوريون إجابات مختلفة عن تلك الأسئلة؟
فقد شهدت سوريا الكبرى كما كانت تُعرف من قبل سلسلة من التغيّرات المتعاقبة، حيث تحوّل الكيان الجغرافي الواحد والذي بلغت مساحته 338 كم² إلى أربعة كيانات جغرافية: سوريا الحالية، لبنان، شرق الأردن، وفلسطين بعد وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو ومؤتمر سان ريمو. وبموجب مراسيم الجنرال غورو تم فك أقضية بعلبك وراشيا وحاصبيا عن دمشق في 3 أغسطس 1920، ثم إعلان لبنان الكبير في 31 أغسطس 1920. وتم ترسيم الحدود مع تركيا في نفس العام مع التنازل عن مساحات تاريخية واسعة، ثم بدأ ترسيم حدود دمشق وأُعلنت دولة حلب ودولة العلويين في نوفمبر 1920، وأُعلنت دولة جبل الدروز في 4 مارس 1921، وتخلّت عن لواء إسكندرون لتركيا عام 1939.
لم يلقَ الكيان السوري الجديد أي اعتراف من قِبل السوريين، وكان كيانًا إشكاليًا، ونُظر إليه باعتباره غير مكتمل. وبقيت سوريا المعاصرة جزءًا من سوريا الكبرى: أقوام وجماعات وجيوش وغزوات وهجرات من كافة أرجاء العالم قَرّت في الرحم السوري خلال حقب تاريخية بالمعنى الاجتماعي والسياسي والعسكري والحضاري. كان من المفترض أن يتسامى التعدد الاجتماعي ثقافيًا وسياسيًا، مع عدم نفي الوشائج القبلية والعرقية والإثنية على قاعدة مجتمع وجماعة وطنية ودولة.
لماذا حدث عكس ذلك في سوريا؟ ولماذا اتجهت من المجتمع والجماعة الوطنية، أي الأمة، إلى الجماعة الدينية والطائفية والعرقية، أي الملل والنِحل، دون المرور بمرحلة الدولة؟ ما أثار مخاوف من افتقار الظاهرة السورية للمشتركات بين المكونات السورية، وصولًا إلى الانقسام الاجتماعي وانفجار الصراعات الداخلية والتغلغل الخارجي، وهو ما حدث منذ بداية الثورة السورية عام 2011، وبشكل أعنف بعد سقوط النظام عام 2024، حيث لم يعد بالإمكان النظر إلى سوريا بوصفها مجتمعًا ودولة وفق المعاني المعروفة، بل ما يُدعى المجتمع السوري ما هو إلا ملل ونِحل وطوائف وجماعات وقبائل وعشائر متقلبة المدارك والقيم والتفاعلات والتحالفات. وما يُدعى دولة ما هو إلا سلطة بالمعنى السلطاني ما قبل الدولة، وسلطات أمر واقع في مناطق مختلفة من سوريا محكومة بديناميات القوة والسيطرة. فكيف منعت الجغرافيا تشكيل الهوية في سوريا، مما منع تشكيل الدولة؟
سوريا الدولة المرفوضة:
تاريخيًا لم يكن لسوريا كيان مستقل بذاته. فمنذ القرن الثالث عشر كانت تابعة لإمبراطورية المماليك، ثم للإمبراطورية العثمانية. وحين دخلت القوات العربية دمشق بقيادة الأمير فيصل بن الحسين بعد انهيار الدولة العثمانية، لم تُعلن قيام الدولة بل أعلنت قيام الحكومة العربية الدستورية المستقلة التي تشمل البلاد السورية، أي سوريا الطبيعية أو ما سُمِّي ببلاد الشام (سوريا، الأردن، لبنان، فلسطين).
أخذ إطار الدولة السورية المعاصرة شكله النهائي تقريبًا ونشأت سوريا الصغرى من التقسيم الإنجليزي الفرنسي لسوريا الكبرى. منذ تلك اللحظة رفض السوريون هذا الكيان، ولم يُنظر إليه بوصفه دولة نهائية، بل كجزء من وطن أكبر.
ظهر ذلك في برنامج حزب الشعب الذي أسسه عبد الرحمن الشهبندر، وفي مشروع الدستور الذي وضعته الجمعية التأسيسية السورية عام 1928، وكذلك في مؤتمر الكتلة الوطنية في حمص 1932. ومع ثلاثينيات القرن الماضي، حين أدركت الكتلة الوطنية واقع التفوق العسكري الفرنسي، تقرر أن الطريق إلى الاستقلال يتطلب القبول بالحدود الحالية لسوريا والتخلي عن فكرة الأمة السورية. هذا ساهم في تشكيل التيار القومي العربي ممثلًا بعصبة العمل القومي ثم حزب البعث العربي، الذي رأى أن سوريا قطر في أمة أكبر هي الأمة العربية.
أما الحزب السوري القومي الاجتماعي فطرح القومية السورية، في حين تبنّى الشيوعيون الأممية، ورأت التيارات الإسلامية سوريا جزءًا من الأمة الإسلامية. وعلى الرغم من ذلك، جرى الاتفاق على تعريف الدولة باسم “الجمهورية العربية السورية”، وشاركت في الجمهورية العربية المتحدة مع مصر بين 1958 و1961، ثم تبنت الهوية العربية في دساتيرها حتى سقوط النظام عام 2024.
إشكالية الدولة السورية تعود إلى واقع معقد نشأت فيه، من صراع سياسي وإقليمي ودولي، وضغوط حدودية دائمة من تركيا والأردن والعراق وإسرائيل، إضافة إلى ضعف مؤسساتها وانقسام نخبها السياسية. كل ذلك أنتج ولاءات متناحرة، بعضها فوق وطني (قومي، أممي، إسلامي) وبعضها دون وطني (قبلي، طائفي). النتيجة كانت إعاقة قيام دولة وطنية سورية متماسكة.
في ظل هذا، برز الجيش بوصفه المؤسسة الوطنية الوحيدة، واعتبر نفسه ممثلًا لوحدة الأمة وحاميًا للأمن القومي، ما فتح الباب أمام الانقلابات العسكرية المتكررة وصولًا إلى حكم الأسد الأب ثم الابن منذ سبعينيات القرن الماضي حتى سقوطه. رفع النظام شعارات الوحدة والاشتراكية والاستقلال ومعاداة الاستعمار، لكنه في النهاية حافظ على سوريا كلاعب إقليمي لا أكثر، دون تحقيق دولة وطنية مستقرة.
اليوم، ومع تعدد الاحتلالات وانقسام السيطرة إلى سلطات أمر واقع، ومع الانقسامات الأيديولوجية والطائفية، تحولت سوريا إلى فسيفساء من “دويلات” صغيرة داخل جغرافيا واحدة.
الجغرافيا والهوية السورية:
لعبت الجغرافيا دورًا أساسيًا في تشكيل مصير بلاد الشام. هذه المنطقة التي كانت تُعد قلب العالم القديم وملتقى القارات الثلاث، جعلتها موقعًا لصراع الإمبراطوريات: الإخمينية، الإغريقية، الرومانية، الأموية، العباسية، العثمانية، ثم القوى الأوروبية الحديثة.
هذا التاريخ الطويل جعل سوريا مجتمعًا شديد التنوع والتعقيد، حيث تعايشت أكثر من 18 هوية إثنية ودينية وطائفية بشكل متداخل:
(-) الإثنيات: عرب، أكراد، تركمان، أرمن، سريان، آشوريون، شيشان، ألبان وغيرهم.
(-) الأديان: مسلمون، مسيحيون، إيزيديون، يهود (هاجر معظمهم إلى فلسطين).
(-) الطوائف: السنة، الشيعة (علويون، إسماعيليون، اثنا عشرية، موحدون)، والمسيحيون بأكثر من 14 مذهبًا.
(-) القبائل والعشائر: شمّر، طي، الموالي، بني خالد، الجبور، البكّارة وغيرها.
هذا التنوع كان يمكن أن يكون عنصر قوة، لكنه تحول إلى عامل هشاشة مع غياب الدولة المركزية المستقرة، وتحوّل سوريا إلى ساحة صراع إقليمي ودولي.
سوريا والبحث عن هوية:
(*) القومية العربية: تبنّى السوريون فكرة القومية العربية كإطار أيديولوجي، خاصة عبر حزب البعث. لكن هذه القومية كانت أكثر رومانسية من كونها مشروعًا سياسيًا عمليًا.
(*) الهوية السورية الطبيعية: أنطون سعادة طرح فكرة “سوريا الكبرى” (سوراقيا: سوريا + العراق). اعتمد على الجغرافيا أكثر من الدين أو الإثنية، لكن مشروعه لم يجد أرضية كافية للتنفيذ.
(*) الهوية الإسلامية: الإخوان المسلمون مثّلوا هذا التوجه، ورأوا في إعادة الخلافة الإسلامية حلًا لأزمة الهوية السورية. وكان السوريون من أوائل المتبنين لهذه الفكرة، بل من الأكثر تشددًا في ممارستها.
(*) الهوية الأممية: الحزب الشيوعي السوري-اللبناني طرح الهوية الأممية، تبنّى الماركسية اللينينية بشكل متشدد وارتبط بالاتحاد السوفيتي.
ختامًا، بعد سقوط نظام الأسد عام 2024، بدا أن سوريا قد تدخل مرحلة استقرار. لكن الأحداث اللاحقة في الساحل والسويداء والشرق السوري أكدت استمرار الانقسامات، مع مطالب بالانفصال والحكم الذاتي، بل وحتى دعوات للانضمام إلى إسرائيل.
الحرب التي بدت طائفية وأيديولوجية في جوهرها، كانت في الأصل انعكاسًا لمعضلة الجغرافيا السورية. ومع نهاية هذه المرحلة، قد يكون مستقبل سوريا نموذجًا آخر للتقسيم شبيهًا بما حدث في إدلب منذ 2012، حيث تغيّرت البنية الديموغرافية والثقافية بالقوة.
هكذا، تبقى سوريا مثالًا حيًّا على كيف منعت الجغرافيا تشكيل هوية وطنية جامعة، وبالتالي منعت قيام دولة وطنية مستقرة.