د. بلال بدوي يكتب.. السيسي في أكتوبر ٢٠٢٥: إعادة تعريف القوة بين السلاح والدبلوماسية

في شهر أكتوبر، بدا المشهد المصري وكأنه يستعيد روحه القديمة، ممزوجة بنبض جديد يعبّر عن حضور قوي في السياسة والدبلوماسية، وعن قائد يقرأ التاريخ بعين الحاضر. كان الرئيس عبد الفتاح السيسي هذا الشهر في حركة دائمة، يتنقّل بين القمم واللقاءات والفعاليات، يصوغ بكلماته وصمته رسائل متعددة الاتجاهات، تجمع بين هيبة الدولة المصرية ورهافة إدراكها لمعادلات الواقع الدولي المتبدل.
بدأت التحركات من مدينة السلام شرم الشيخ، حيث احتضنت القمة التي وُصفت بأنها “قمة العبور إلى السلام”. هناك جلس السيسي إلى جوار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعدد من القادة العرب والأجانب، ليؤكد من جديد أن مصر ليست مجرد وسيط تقليدي، بل هي صانعة للسلام وعرّابة للاستقرار في منطقة تتقاذفها الأزمات. تحدث بلهجة الواثق من موقعه، قائلاً إن السلام لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى بالعقل والعدل والإرادة السياسية. كان المشهد بأكمله يذكّر بلحظات عبور أخرى عرفها التاريخ المصري، حين امتزج الإقدام بالحكمة، والجرأة بالحساب الدقيق للمصلحة الوطنية.
وفي منتصف الشهر، انتقل الرئيس من ساحة الدبلوماسية الدولية إلى قلب الذاكرة الوطنية، في الندوة التثقيفية للقوات المسلحة بمناسبة الذكرى الثانية والخمسين لنصر أكتوبر. كانت القاعة مزيجاً من الحنين والفخر، فالأبطال القدامى يجلسون بزيّهم العسكري القديم، والجيل الجديد من الضباط يستمعون إلى دروس لا تُدرّس في الكتب. قال السيسي في كلمته: “أكتوبر هذا العام له طعم مختلف، لأنه يأتي ومصر تحقق انتصاراً من نوعٍ آخر، انتصار الدبلوماسية والعقل، بعد أن نجحنا في وقف الحرب في غزة ومنع امتدادها.” كانت الجملة كأنها جسر بين زمنين: زمن العبور بالسلاح، وزمن العبور بالسياسة.
لم تكن تلك الكلمات مجرد احتفال بالماضي، بل كانت إعادة تعريف للبطولة في زمن جديد. فالبطولة لم تعد فقط أن تعبر قناة أو تحطم خطاً دفاعياً، بل أن تمنع حرباً قبل أن تندلع، وأن تحمي شعباً قبل أن يصرخ من الألم. بدا واضحاً أن الرئيس يريد أن يرسخ في الوعي الجمعي فكرة “العبور المستمر” — عبور من التهديد إلى الأمان، من الانقسام إلى التوافق، من الحرب إلى التنمية.
وبين شرم الشيخ والقاهرة، تعددت اللقاءات واتسعت الدوائر. استقبل الرئيس مبعوثين من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وقادة عرباً وأجانب، وتحدث عبر الهاتف مع زعماء أوروبيين حول ملفات الأمن الإقليمي والإغاثة في غزة، مؤكداً أن مصر لن تسمح بانزلاق المنطقة إلى فوضى جديدة. كانت الدبلوماسية المصرية تتحرك بإيقاع محسوب، لا اندفاع فيه ولا تباطؤ، بينما بدا السيسي حريصاً على أن تبقى مصر في موقع الفاعل لا المفعول به، في زمن تتغير فيه موازين القوى بسرعة مذهلة.
وفي نهاية الشهر، كانت القاهرة تحتفل بما يشبه النصر الهادئ. فالتهدئة التي سعت إليها مصر في غزة أثمرت واقعاً جديداً، والمشهد الدولي بدأ يعيد الاعتراف بالدور المصري كصوتٍ عاقل في محيطٍ مضطرب. الإعلام المحلي والدولي تحدّث عن “دبلوماسية أكتوبر”، وعن قائدٍ جمع في شهر واحد بين رمزية التاريخ وفاعلية الحاضر. لم تكن التحركات مجرد أحداث بروتوكولية، بل حلقات في سردية متكاملة تقول إن مصر — برؤية قيادتها — تعيد رسم خريطتها السياسية من موقع الندية والاحترام.
هكذا كان أكتوبر هذا العام مختلفاً في كل تفاصيله. ليس فقط لأنه حمل ذكرى نصر خالد، بل لأنه أعاد تذكير المصريين بأن روح أكتوبر لا تزال حية، وأن من عبر بالسلاح بالأمس، يعبر اليوم بالعقل والإرادة. كانت تحركات الرئيس السيسي في هذا الشهر تجسيداً لمعادلة مصر الجديدة: صلابة في الموقف، ومرونة في الوسيلة، وإيمان عميق بأن السلام لا يصنعه الضعفاء، بل الأقوياء الذين يعرفون متى يلوّحون باليد، ومتى يمدّونها للسلام.