تعاون استراتيجي.. دوافع زيارة وزيرة خارجية كوريا الشمالية إلى بكين؟

علي السعدني- باحث مساعد
تُعتبر منطقة المحيطين من أكثر الساحات حساسية في السياسة العالمية، حيث تلعب المصالح بين القوي الكبرى دورها في الملفات الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية. وكانت كوريا الشمالية في قلب معادلة متشابكة؛ حيث فرضت نفسها دومًا على أجندات القوى الإقليمية والدولية، خاصة مع تحولها من تهديد كامن إلى قوة طامحة للحفاظ على الوضع الراهن في شبه الجزيرة الكورية عبر وسائل تعزيز القوة والردع وإبداء الجاهزية في مواجهة انخراط أمريكي متزايد. وجاءت زيارة تشوي هوي وزيرة خارجية كوريا الشمالية إلى بكين خلال الفترة من 27 إلى 30 سبتمبر 2025، لتعزيز التعاون الاستراتيجي مع الحكومة الصينية، وأثارت هذه الخطوة الهامة تساؤلات متعددة حول أهدافها ودلالاتها، خاصة مع الأشهر القليلة الماضية، حيث شُهد توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين كوريا الشمالية وروسيا.
في ضوء ما سبق، يتناول التحليل التالي ملفات الزيارة والرسائل التي حملتها وزيرة خارجية كوريا الشمالية إلى بكين، وانعكاسات ذلك على مستقبل الشراكة والتعاون بين الجانبين في ظل بيئة إقليمية ودولية مضطربة.
دلالات استراتيجية
تحمل زيارة تشوي هوي وزيرة خارجية كوريا الشمالية إلى بكين أهمية استراتيجية تتجاوز الطابع البروتوكولي؛ إذ تؤكد على متانة العلاقات بين بيونغ يانغ وبكين في ظل تصاعد وتفاقم الأوضاع الدولية. كما أنها تعكس رغبة الطرفين في إعادة تشكيل التوازنات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وبناءًا على ذلك فإن الرسالة الواضحة من الجانبين إلى واشنطن أن التعاون بين القوى المناهضة للهيمنة الـأمريكية آخذ في التوسع1، ومن خلال تلك الزيارة تسعى كوريا الشمالية لتعزيز التعاون مع الصين لكسر طوق العزلة الدبلوماسية. واتفق الوزيران بشكل كامل على أهم القضايا.
تأتي الزيارة في سياق إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية في مواجهة الحضور الأمريكي، كما أن بكين تسعى إلى تقديم الدعم السياسي والاقتصادي والدبلوماسي لبيونج يانج. وعلى الجانب الآخر تسعى كوريا الشمالية إلى كسر عزلتها الدولية وتأكيد حضورها ضمن الدول الآسيوية في معادلة جيوسياسية من خلال العلاقات مع الصين، ويمكن توضيح ذلك خلال النقاط الآتية:
(&) تحالف استراتيجي: إن تنامي العلاقات بين كوريا الشمالية والصين، ينطوي على ارتباط راسخ لأكثر من سبعين عامًا، كما أن بكين تُعد الحليف الأقرب إلى بيونج يانج، وبالتالي تعزز الزيارة من التنسيق والتعاون بين البلدين، لاسيما مع وجود معاهدة للتعاون والمساعدة المتبادلة، وبجانب ذلك يجمع البلدان حدود مشتركة يبلغ طولها نحو 1.146 كيلو متر، ولذلك فإن التواصل الجغرافي والسياسي بينهم يكرّس تعاونًا عسكريًا وأمنيًا وثيقًا.
في حين أن الصين تحتل مركز الصدارة باعتبارها أكبر شريك تجاري لكوريا الشمالية رغم القيود الدولية التي تفرض على الأخيرة، فإن بيونج يانج تمتلك أهمية استراتيجية تُمثل لبكين في مواجهة الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة، كما أن أي انهيار لنظام كوريا الشمالية سوف يؤدي إلى موجات كبيرة من اللاجيئن عبر الحدود المشتركة2.
(&) تعاون اقتصادي وسياسي: ترتبط الزيارة بتعاون وثيق بين الدولتين، حيث تواجهان عقوبات اقتصادية متفاوتة تتراوح بين العزلة شبه التامة في حالة كوريا الشمالية، والعراقيل الاقتصادية لدي بكين من قبل الإدارة الأمريكية؛ وهو ما دفع البلدين للتقارب الاقتصادي لمواجهة والتصدي للضغوطات الغربية3. أما سياسيًا فإن ذلك يُظهر صورة تعاونية بين البلدين بدت واضحة خلال العرض الصيني العسكري في 3 سبتمبر 2025، واجتماع كل من قادة روسيا والصين وكوريا الشمالية، في رسالة مفادها أنهم يرفضون “الهيمنة الأحادية”، وفي ضوء تُمثل زيارة تشوي تحولًا مهمًا في العلاقات الثنائية، للتنسيق حول القضايا الدولية وبناءًا على ذلك سوف يُظهر دعم وتوحيد الخطاب السياسي قبيل قمة APEC، وتبادل الدعم في مواجهة الغرب4.
(&) كوريا كفاعل إقليمي بارز: تُعتبر كوريا الشمالية من أهم الفواعل في منطقة المحيطين، لذلك تعطي تلك الزيارة إلي بكين موقعًا بارزًا لبيونج يانج ورسالة من الحكومة الصينية أن كوريا الشمالية فاعل إقليمي مؤثر على الرغم من عزلتها. ولا تزال بيونج يانج تمتلك تأثيرًا على الساحة الدولية، من خلال خطابها السياسي الحاد، والتحالفات الاستراتيجية التي تبرمها مع دول الجوار وقدراتها النووية، وهو ما يعزز من أهمية تلك الزيارة بتوقيتها بالغ الحساسية؛ قبيل قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في 31 أكتوبر 2025، لتؤكد أن كوريا الشمالية ليست طرفًا هامشيًا، لكنها شريك استراتيجي لبكين5.
توزان استراتيجي
تُبرز زيارة تشوي هوي إلى بكين أن محاولة بيونج يانج تنبع من أهمية الارتباط بمصالح مشتركة مع بكين وموسكو، كما أن سعي كوريا الشمالية للتقارب مع الصين يهدف لإعادة رسم علاقاتها مع دول الجوار، وتنسيق التوازنات في علاقاتها الخارجية بين موسكو وبكين؛ ففيما أشار مسئول رفيع المستوي من وزارة الدفاع الكورية “أن الشراكة بين بيونج يانج وموسكو شاملة وهادفة”6، تأتي زيارة بكين لتعكس إدراك الجانب الكوري لأهمية الحفاظ على علاقات مستقرة مع بكين باعتباره ضرورة جيوسياسية واقتصادية هامة لا غنى عنها، وأن تطوير العلاقات مع روسيا لا يأتي على حساب العلاقات التاريخية مع الصين، ولكن يخدم المصالح المشتركة في التصدي للهيمنة الغربية7.
وتأتي الزيارة قبل قمة منتدي التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ “APEC” المقرر أقامتها في كوريا الجنوبية في خطوة استباقية دبلوماسيًا قد تعزز من دور بكين دبلوماسيًا في الوساطة مع الجانب الأمريكي لتخفيف العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية8. وتعطي التحركات الدبلوماسية قبيل قمة APEC، مؤشرات واضحة على سعي القوى الإقليمية والدولية لإعادة تشكيل علاقاتها في منطقة المحيطين، ومن خلالها يُرتقب أن يزور ترامب كوريا الجنوبية وذلك يعكس رغبة واشنطن في استعادة الحضور الأمريكي. ورغم أولوية تعزيز نفقات الحلفاء على تواجد القوات الأمريكية والخلافات التجارية، سوف تُركز واشنطن خلال القمة على التعاون الاقتصادي والدفاعي، وإعادة بناء الثقة مع الحلفاء الإقليميين وتقديم بدائل من أجل التصدي للنفوذ الصيني والروسي. وقد تشهد القمة لقاءًا مرتقب بين الرئيسين الصيني والأمريكي لتحريك ملف المفاوضات بين واشنطن وبيونج يانج.
ومع إعلان بيونج يانج تمسكها بسلاحها النووي، قد تبدي الولايات المتحدة رغبة في فتح مباحثات جديدة بين الكوريتين حول الوضع في شبه الجزيرة الكورية. وعلى الجانب الآخر تسعى بكين إلى تثبيت محور التصدي لـ”الهيمنة الغربية”، من خلال استضافة الحكومة الصينية لقادة من روسيا وكوريا الشمالية والهند، حيث تظهر القدرة على بناء تحالفات متعددة الأطراف.
وعلى ما سبق فإن تثبيت حضور كوريا الشمالية كفاعل مستقل لا يُمكن تهميشه تظهر تحركًا دبلوماسيًا على محورين؛ التنسيق الشامل مع بكين، والانفتاح المشروط على واشنطن، من خلال أي لقاء محتمل بين ترامب وكيم يعكس مساعي بيونج يانج لتقديم نفسها كطرف لا يُمكن تجاوزه في أي ترتيبات إقليمية مقبلة9.
في التقدير النهائي، تؤشر المعطيات السياسية والدبلوماسية على أن زيارة تشوي إلي بكين هي خطوة استراتيجية متعددة الأبعاد، نظرًا لما تسعى إليه بيونج يانج من تثبت موقعها كفاعل إقليمي لا يُمكن تهميشه، وبجانب ذلك إعادة تشكيل علاقاتها الثنائية مع الصين في مواجهات التحولات الجيوسياسية المتسارعة. كما أن الزيارة تثبت حضور الملف الكوري في قمة APEC، عبر تنسيق المواقف وتوحيد الخطاب السياسي تجاه القضايا الدولية، وتعكس على الجانب الآخر حرص كوريا الشمالية على موازنة علاقاتها مع بكين وموسكو، لتتمكن من توظيف التصدي للهمينة الغربية ولحلفاء واشنطن في المنطقة.