انقسام داخلي.. هل تهدد الأزمات موقف المعارضة التركية في الانتخابات المقبلة؟

تصاعدت التوترات بشكل كبير بالداخل التركي في الأيام الأخيرة، والذي تُوج بحجب السلطات التركية منصات وسائل التواصل الاجتماعي بإسطنبول لإعاقة دعوات الاحتجاج بعد إحاطة قوات الأمن بمقر حزب الشعب الجمهوري المعارض، تمهيدًا لتسليمه لرئيسه المُعين جورسل تكين. ويأتي ذلك في ظل تصاعد المواجهات بين قوت الشرطة والمعارضة التي ترفض ما يجري من اعتقالات وإقالات باعتبارها انتهاكًا صارخًا للقانون يساهم في إرساء الطابع القمعي على العلاقة بين السلطة والمعارضة التركية.
ويستعرض التحليل التالي الاشتباك القائم بصفوف حزب الشعب الجمهوري، نتيجة لعدم التوافق حول كيفية التعامل مع المواجهة القضائية بين جبهة كمال كليتشدار أوغلو والقيادة الحالية بزعامة أوزجور أوزال، إضافة إلى توضيح محاولات الإضعاف الممنهجة التي تهدف لتحجيم قوى الحزب من قبل النظام الحالي، وما يصاحب ذلك من تأثير على الاستحقاقات الانتخابية القادمة.
عوامل الإرباك
أفرزت القرارات القضائية الأخيرة توترات وانقسامات داخل حزب الشعب الجمهوري، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
(*) أزمة العزل: صدر قرار عزل رئيس فرع حزب الشعب الجمهوري أوزجور تشيليك في إسطنبول، يوم الثلاثاء 2 سبتمبر 2025، من قبل محكمة إسطنبول المدنية الابتدائية، نتيجة لوجود اتهامات تشير إلى وجود مخالفات إجرائية صاحبها تقديم رشاوى للمندوبين بهدف التأثير على أصواتهم. وأدى قرار العزل إلى إلغاء جميع النتائج المترتبة على مؤتمر 8 أكتوبر 2023 وما نتج عنها من تعيين هيئات حزبية بإسطنبول، لاسيما تعليق عضوية 196 مواطنًا شاركوا في المؤتمر السابق ذكره.
وفي محاولة لتهدئة الأوضاع مع الحفاظ على التماسك الداخلي للحزب، أكد رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزجور أوزال أنه لن يقبل بأي قرار من المحكمة يشير إلى عزل رئيس الحزب الحالي بإسطنبول، إضافة إلى رفضه القاطع تعيين أي شخص بدلًا منه كرئيس حالي للفرع، أو أي لجنة مؤقتة أخرى قد تحل محل أوزال ورفاقه. ومع خروج الحكم القضائي الذي أشار إلى عزل أوزجور تشيليك وتعيين جورسل تكين كرئيس لفرع الحزب بإسطنبول، أعلن أوزال إلغاء عضوية تكين بالحزب مع توضيح عدم أحقيته بالحصول على ذلك المنصب وتأكيد دعمه الكامل وغير المحدود لتشيليك.
(*) انقسام داخلي: يأتي بطلان الانتخابات في ظل انقسام حزب المعارضة الأول بتركيا بين أربع أجنحة وهم على الترتيب:جناح أوزجور أوزال، جناح كمال كليتشدار أوغلو، جناح أكرم إمام أوغلو، جناح منصور يافاش، مما يؤدي بدوره إلى تعميق الخلافات الداخلية بالحزب ولا سيما بين جناح أوزغور أوزيل (المحافظين)، وكليتشدار أوغلو (التقليديين). وظهرت بوادر تفاقم الخلاف بين جناح أوزال من جانب وجناح كليتشدار أوغلو من جانب آخر من خلال تراشق التصريحات الذي كان واضحًا طوال الفترة الأخيرة، لا سيما مع إشارة كمال كليتشدار أوغلو أنه لا يزال قادرًا على قيادة الحزب الذي ظل تحت زعامته لمدة 13 عامًا مع تأكيده عدم رفض المهمة إن وُكلت إليه في ظل اعتقاده بتعرضه للخيانة في انتخابات المؤتمر العام في 2023.
ومن جانب آخر، أشار أوزجور أوزال إلى أنه لن يستسلم باعتباره الرئيس الشرعي للحزب وأن كافة المحاولات القضائية التي تهدف للحد من سلطاته باطلة ولا صحة لها، إضافة لتأكيد داعميه على السعي نحو إكمال المسيرة واعتبار كمال كليتشدار أوغلو خائنًا للحزب ومبادئه إن لم يرفض العودة في حال صدور حكم قضائي يُقر ببطلان نتائج المؤتمر العام. علاوة على ذلك، اتجه جناح أوزجور أوزال لتقديم طلب للجنة العليا للانتخابات تحت توقيع أكثر من 900 مندوب لعقد مؤتمر عام اسثنائي في 21 سبتمبر بهدف حشد الدعم وتقويض فرص أي طرف في أن يحل محل أوزجور أوزال في حال أعلنت المحكمة بطلان انتخابات المؤتمر العادي الثامن والثلاثين للحزب 2023.
(*) عودة محتملة: تُثار التكهنات في الفترة الحالية حول احتمالية عودة كليتشدار أوغلو إلى رئاسة الحزب من جديد من خلال القضاء، والذي من المتوقع أن يُشعل التوترات الداخلية بالحزب في ظل تحقيق جناح أوزال انتصار حاسم في انتخابات 2023، إضافة إلى سعي المعارضة التركية إلى التخلي عن إرث الماضي والتوجه نحو الاستعانة برؤى جديدة تتوافق مع مساعيها وتطلعاتها المشتركة. وبالتالي، من المتوقع في حال عودة كليتشدار أوغلو من جديد، قد يواجه حزب المعارضة الأول بتركيا انقسام داخلي يصعب حلحلته بناء على تمسك كل طرف بما يعتبره حقًا مشروعًا له.
إضعاف ممنهج
يحاول الرئيس رجب طيب أردوغان الضغط على المعارضة التركية بهدف توجيه الكفة بالداخل التركي لصالحه في الانتخابات القادمة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
(&) تصاعد القمع: شهدت الدولة التركية خلال الولاية الثالثة للرئيس رجب طيب أردوغان، والتي بدأت منذ العام 2023 بعد الانتصار على مرشح المعارضة كمال كليتشدار أوغلو، حالة من تزايد الاحتقان السياسي بشكل واضح، استهدفت تحجيم المعارضة بشكل غير مسبوق من خلال سلسلة من الاعتقالات التي لا تعتمد على سند قانوني راسخ وإنما تحقيقات مطولة لا تستهدف إلا إطالة أمد مدة الاعتقال. وتصاعدت سلسلة الاعتقالات حتى وصلت إلى اعتقال أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، والمنافس الرئيسي للتحالف الحاكم في الانتخابات الرئاسية القادمة، إضافة إلى اعتقال حوالي 15 رئيس بلدية منتخب من حزب الشعب الجمهوري، مما نتج عنه تفجير أكبر موجة تظاهرات بالدولة التركية منذ عام 2013. علاوة على ذلك، تزايد بشكل كبير عدد الإقالات للزعماء السياسيين من المعارضة بدرجة كبيرة توصف أنها تحدث للمرة الأولى منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
(&) تسييس القضاء: من خلال رصد ردود أفعال المعارضة التركية في الفترة الأخيرة بعد سلسلة الاعتقالات التي نالت من رموز حزب المعارضة الأول بالدولة، لُوحظ وجود توجه عام يؤكد استخدام القضاء كأداة تستهدف ليس فقط تقييد المعارضة بالداخل التركي، وإنما أيضًا تفتيتها من خلال تعزيز الانقسامات الداخلية بهدف الدفع بها خطوات إلى الوراء لإبعادها من جديد عن ساحة التنافس المحتدم مع حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية. واستندت المعارضة إلى مبررين لتوضيح ذلك وهما على الترتيب: توجه السلطة الحالية نحو الاعتماد على القمع من خلال مختلف الوسائل بهدف تحجيم قوى المعارضة والذي كان واضحًا من خلال سلسلة الاعتقالات غير المسبوقة، وزيادة حدة التدخل القضائي من خلال المحاكم الابتدائية بدلًا من المحكمة الدستورية كأساس للحكم في هذا النوع من القضايا، والذي بدوره يزيد من مساحة التلاعب بالأحكام الصادرة.
(&) تشتيت المعارضة: في ظل ما يدور من أحداث بالداخل التركي، ليس من المُستبعد أن يواجه حزب الشعب الجمهوري أزمة ممتدة تضرب باستقراره ووحدته. ومن خلال النظر فيما يدور في الفترة الحالية يمكن إدراك احتمالية استمرار المعركة القضائية لفترة طويلة مما يزيد بدوره من فرص حزب العدالة والتنمية في أي انتخابات قادمة، أو احتمالية حدوث انقسام داخلي بالحزب وهو ما يؤدي أيضًا إلى زيادة نفوذ الحزب الحاكم بالداخل التركي بشكل كبير. وبالتالي، في ضوء انشغال حزب المعارضة الأول بتركيا بالمحافظة على وحدته من جانب، وحشد الدعم الشعبي من جانب آخر، تحاول إدارة الرئيس التركي خلق مزيد من الأزمات لحزب المعارضة مما يؤدي بدوره إلى إضعاف موقفه الانتخابي بشكل كبير في الانتخابات القادمة التي كان من المتوقع لها أن تكون مشتعلة في ظل التحديات المختلفة التي تواجه الدولة التركية.
توازنات 2028
يحاول الرئيس رجب طيب أردوغان وتحالف الشعب من جانب، وحزب الشعب الجمهوري ومن خلفه أحزاب المعارضة من جانب آخر استغلال كافة الأوراق المتاحة بهدف توجيه الأزمة لصالح أي منهما، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
(-) رهان المعارضة: توجهت المعارضة التركية بالمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة من خلال زعيمها أوزجور أوزال ، الذي أشار إلى ضرورة إجراء تلك الانتخابات في موعد لا يتجاوز شهر نوفمبر القادم. واستطاع حزب الشعب الجمهوري من خلال إقامة حملة جمع توقيعات تستهدف الحصول على تأييد 28 مليون مواطن تركي لإطلاق صراح جميع السجناء السياسيين مع السعي نحو إقامة انتخابات مبكرة، الحصول على توقيع حوالي ما يقارب 14 مليون توقيع حتى الآن. ويأتي ذلك في ظل تعرض المرشح الأول لحزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو للسجن الذي يُرى من قبل المعارضة على أنه محاولة بائسة تستهدف الإطاحة بجميع منافسي الرئيس رجب طيب أردوغان، والذي أكدت عليه قيادات حزب المعارضة الرئيسي وعلى رأسهم إمام أوغلو من خلال عدم ممانعة دعم شخص آخر للترشح بدلًا منه لرئاسة الجمهورية ضد أردوغان إن تطلب الأمر.
(-) حسابات أردوغان: في ظل ما يدور بالواقع التركي، نجد أن الرئيس رجب طيب أردوغان يسعى لإعادة هندسة الواقع السياسي بالداخل التركي من خلال الأوراق التي يمتلكها بالفترة الحالية، والتي من الممكن أن تساعده على الترشح من جديد في عام 2028 من خلال الاعتماد على تعديل الدستور الحالي. وعلى الرغم من التخبط الذي يواجه المعارضة، إلا أن أردوغان لا يزال غير قادر على إحكام السيطرة على جميع أوراق اللعبة بهدف تعديل الدستور من خلال خلق أغلبية اللازمة بالبرلمان التركي في ظل حيازته 318 مقعد بالبرلمان من أصل 360 مقعد يحتاجه.
ومن هنا يأتي الدور البارز للأكراد باعتبارهم داعم لأي قوى داخلية قد تساهم في تحسين أوضاعهم السياسية بالداخل التركي، ولا سيما بعد إعلان حزب العمال الكردستاني وقف الكفاح المسلح والتوجه نحو العمل السياسي. ويمكن النظر في أهمية الورقة الكردية لأردوغان -حال نجاح مسار السلام- من جانبين: الأول أن حزب المساواة والديموقراطية للشعوب يمكن أن يساهم من خلال تواجده بالبرلمان في دعم عملية تعديل الدستور، وما يصاحب ذلك من الموافقة على تعزيز صلاحيات رجب طيب أردوغان، ومنحه حق الترشح لولاية جديدة، والثاني هو الاعتماد على الأكراد لدعم رجب طيب أردوغان في أي استحقاق انتخابي قادم إن تطلب الأمر.
وختامًا، يمكن النظر في مستقبل المعارضة التركية بالانتخابات المقبلة في ضوء ما يفرضه الواقع الحالي عليها من انقسام داخلي، لا تزال غير قادرة على احتوائه حتى الآن، والذي يمكن أن يستمر لفترة أطول في ضوء امتلاك تحالف الشعب الحاكم الأدوات التي تمكنها من تعميق الانقسام الذي يستهدف إضعاف القوى المعارضة، إضافة إلى إتاحة فرصة أكبر له يمكن استغلالها لتوطيد نفوذه داخليًا من خلال استحداث دستور جديد يزيد من صلاحياته السياسية ويسمح له بالترشح من جديد في انتخابات الرئاسة 2028.