مسارات مُحتملة: هل تعيد عملية السلام تشكيل النظام السياسي في تركيا؟

سماء جمال-باحثة بوحدة دراسات العالم

يستخدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سياسة العصا والجزرة لتحييد القضايا الداخلية ومواجهة التحديات التي تواجه حزب العدالة والتنمية وتحالف الشعب الحاكم في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، فبينما تنخرط الدولة التركية في عملية سلام لتسوية القضية الكردية تحت شعار “تركيا خالية من الإرهاب”، يواجه التحالف حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي في البلاد على خلفية اتهامات بالفساد، لترتفع حصيلة الموقوفين منذ أكتوبر الماضي حتى الآن إلى قرابة 500 فرد بينهم ما يقارب 220 قيد الاعتقال أو الإقامة الجبرية وعدد من رؤساء البلديات يأتي أبرزهم رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو الذي قيُد سراحه في مارس الماضي[1]، بتهم تتنوع ما بين الفساد ودعم الإرهاب.

وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي تداعيات عملية السلام على المشهد السياسي التركي.

إعادة ترتيب الداخل

قبيل عملية السلام كان حزب العدالة والتنمية في أضعف حالاته بعد هيمنة دامت عشرين عامًا، وبدأ التشكيك في مدى التزام الحزب بالممارسة الديموقراطية لترتفع الاتهامات بتسيس القضاء لضمان هيمنته على مقاليد الحكم. ظهر هذا جليًا بعد عمليات التحقيق والاعتقال المتتالية لرؤساء بلديات حزب الشعب الجمهوري وأعضائه.

تأتي الحملة على حزب الشعب الجمهوري إثر نتائج انتخابات البلدية 2024 والتي أظهرت مدى تنّامي شعبية الحزب المعارض وأحزاب قومية أخرى، على حساب أصوات الحزب الحاكم، حيثٌ أظهرت الإحصائيات تمدد الشعب الجمهوري في 35 مدينة من أصل 81 بنسبة 37.76% من إجمالي الأصوات، بينما فاز حزب العدالة والتنمية في 24 مدينة بنسبة 35.4%، وتظهر الإحصائيات مدى شعبية حزب الشعب الجمهوري باعتباره الحزب الوحيد القادر على منافسة نظيره حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية والتي من المقرر انعقادها في عام 2028.

ظهر حضور حزب الشعب الجمهوري ما بين انتخابات 2019 : 2024 في أكبر وأهم المدن التركية كإسطنبول وأنقرة وإزمير وبورصة وأضنة وأنطاليا، مما بثّ مشاعر القلق حيال مستقبل الحزب الحاكم في تلك الأماكن خاصة في ظل ما تمثله تلك المناطق من ثقل استثماري وعقاري، حالت خسارته بينه وبين شبكة ناخبيه إثر ضعف القدرة على إعادة توزيع الموارد وبروز الانشقاقات داخل صفوفهم[2]، حيث تُمثل إسطنبول منفردة حوالي 40% من إجمالي الناتج المحلي ويقطنها أكثر من 16 مليون نسمة و20% من الموظفين. لكن هذه الإنجازات الاقتصادية بدأت في فقدان استدامتها بعد عام 2020، ما أدى إلى انهيار قاعدة الناخبين التي قام عليها الائتلاف الحاكم في تلك المناطق.

شهدت احتجاجات المعارضة الأخيرة على الانسحاب الكردي وعدم التدخل لدعم المعارضة في مسار الاحتجاجات المشتعلة، فضلًا عن انتقادات حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب  DEM لحزب الشعب الجمهوري بسبب دعاوي الفساد، ودعا ناخبي “الشعب الجمهوري” لدعم الحزب الكردي كبديل نزيه يبعد اسمه عن قضايا الفساد. وقد مهدت عملية السلام بين طرفي الائتلاف الحاكم والحزب الكردي، لإفشال التفاهم بين أحزاب المعارضة بعد أن شهدت الانتخابات السابقة تحول الناخبين الكرد في غرب تركيا من دعم حزب الديموقراطية والمساوة لدعم حزب الشعب الجمهوري [3].

على الجانب الآخر، وبالتصعيد في وجه المعارضة تزامنًا مع مسار السلمي في عملية السلام، يحاول الائتلاف الحاكم تعزيز تحالفاته لوقف تآكل الدعم الشعبي في الانتخابات القادمة، فتحطيم المعارضة من الداخل قد يفي بالغرض على المدى القصير لتحويل السخط من اقتصادي إلى سياسي، حيث أظهر ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، تراجع الشرائح ذات الدخل المنخفض، المتأثرة مباشرة بارتفاع تكاليف المعيشة، عن دعم الحزب الحاكم والتوجه لبدائل أخرى، في حين عانى رواد الأعمال من حالة عدم اليقين الاقتصادي بحلول 2023، حيث أضحت عائقًا أمام قدرة الحزب على الحفاظ على مؤيديه [4].

على الصعيد الخارجي، عزز التحولات الإقليمية والدولية كفة الرئيس أردوغان بعد عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وأعطته مساحة من المناورة ولعب دور حيوي خاصة في سوريا، لتكن لحظة فارقة وفرصة للحكومة التركية لمواجهة المعارضة الداخلية وإعادة بناء تحركاتها في سياستها الخارجية بعد أن أعطت الولايات والاتحاد الأوروبي الضوء الأخضر وأبدت انفتاحًا على الدور التركي الجديد في سوريا[5].

متوالية التصعيد والاحتجاج

عقب سجن عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، ارتفع اسم- أوزغور أوزيل -محليًا ودوليًا كوجه لأكبر احتجاجات تجتاح البلاد منذ أكثر من عقد، أظهرت الاحتجاجات مدى قدرة إمام أوغلو على منافسة الحزب الحاكم في صناديق الاقتراع بعد أن فضله حوالي 15 مليون ناخب كمرشح رئاسي للانتخابات القادمة، لذلك جاء قرار اعتقاله مصحوبًا بالتشكيك في نزاهة الحكومة ودوافعها السياسية.

استخدم الحزب أداتي الاحتجاجات والتوقيعات الشعبية للضغط السياسي على الحكومة والمطالبة بإجراء انتخابات مبكرة وحشد الجماهير لذلك، كما دعا إلى مقاطعة عدد من العلامات التجارية التابعة للحكومة واعتبار الثاني من أبريل الماضي يومًا للمقاطعة على مستوى البلاد، مما أعطى زخمًا واسعًا لحزب الشعب الجمهوري في أصداء البلاد[6].

على الجانب الآخر، انتاب ناخبو حزب العدالة والتنمية مشاعر الاغتراب السياسي قبل انتخابات 2024. لذلك من المرجح استمرار عملية تحول الأفراد لصالح أحزب أخرى مثل: حزب الحركة القومية الشريك بالائتلاف الحاكم(MHP) ، وحزب الرفاه الجديد  (YRP)، فقد استطاع مرشحو تلك الأحزاب كسب ثقة الناخبين، بمن فيهم المحافظين والقوميين، نتيجة التأثير المهدّئ للانقسامات السياسية الذي أحدثه مرشحو حزب الشعب الجمهوري. وعليه، فإن استمرار الاستقطاب السياسي يقيّد قدرة أردوغان على المناورة، وحشد الناخبين المحافظين حول حزب العدالة والتنمية على المدى البعيد.

على الصعيد الداخلي، قد تُعيد السياسات الصارمة تجاه المعارضة تشكيل التحالفات، قد تستهدف التحالفات الفئة الكردية، حيث أظهرت استطلاعات الرأي من مؤسسة Rawest أن هناك رغبة متزايدة بين الأكراد في تركيا بمواصلة مشروع “التتريك السياسي” (Turkification)، والذي يهدف إلى الاندماج الفاعل في السياسة الوطنية التركية، قد تزيد حدة المعارضة على المدى البعيد.

مستقبل عملية السلام

تزامنًا مع عمليات التصعيد في وجه المعارضة يخطو أردوغان أميالًا لحل القضية الكردية بطريقة سلمية بعد محاولات عدة شهدت في عام 2009 فيما يعرف “بالانفتاح الكردي” وما تبعه من مبادرات مماثلة في 2013، ولكن جميعها باء بالفشل في نهاية المطاف نظرًا للخلافات السياسية والتحالفات المتغيرة.

وعلى الرغم من عدم نجاح المبادرات السابقة إلا أن الرئيس أردوغان يسعى لتوسيع انخراط التحالف الحاكم مع الحركة الكرديّة في إطار عملية السلام؛ يهدف من خلالها لضرب المعارضة في مقتل حيث يتوقف استقرار ووحدة المعارضة على تحالفهما المشترك من خلال الدعم الضمني من حزب الديمقراطية والمساواة وناخبيه الأكراد، وقد يساهم هذا الانخراط في حالة نجاحه بترجيح كفة الميزان لصالح تحالف الشعب الحاكم من خلال وضع الحزب الكردي كشريك تفاوضي من أجل سحب الدعم السياسي بعيدًا عن المعارضة وتأمين الدعم الكردي للإصلاحات الدستورية بأصوات تسمح للرئيس التركي بالترشح لولاية أخرى نظرًا لتمتع حزب الديمقراطية بنفوذ فارق في البرلمان التركي[7].

قد يوفر تواصل الرئيس أردوغان مع القادة الأكراد مكاسب سياسية قصيرة الأجل، لكن لا تزال هناك شكوك حول استمرارية هذه الجهود ما لم تتبلور مؤشرات أكثر جدية، حيث تحف عملية السلام العديد من المخاطر التي قد تؤدي للسخط الكردي حيال ما مدى إمكانية إعطاء الكرد مزيد من الحقوق، حيث احتوى بيان حفل إلقاء السلاح لحزب العمال الكردستاني الرغبة في التخلص من العنف واستبداله بأساليب ديموقراطية وسياسية وقانونية تضمن حقوق الكرد في بيئة ديموقراطية.

على الجانب الآخر، تشهد عملية السلام مزيدًا من التقدم بعد دعوة عبدالله أوجلان، فقد تختلف عملية السلام الجارية عن سابقيها كفرصة لكسر حالة الجمود التي عانى منها الطرفين وما تشكله من ملاذ أخير للخروج من الوضع الصفري، الذي شهدته لأكثر من أربعة عقود على التوالي وزهق أراح ما يقارب 40 ألفًا من المدنيين والعسكريين، فإن الامتثال لدعوة أوجلان لنزع السلاح والانتقال إلى السياسات الديموقراطية يُشير إلى الاعتراف الصريح بأضرار الكفاح المسلح وعدم استدامة نتائجه، خاصةً بعد تفوق  الطائرات التركية عبر الحدود السورية والعراقية وتقليص الملاذات الآمنة لمقاتلي حزب العمال الكردستاني.

على الرغم من التفوق العسكري التركي إلا أنه لم يتم القضاء على الحزب المسلح بالكامل ولم تحل الأسباب الجذرية للتمرد لتقف عائقًا أمام التقدم التركي في السياسة الإقليمية والعالمية، وتظهر الحاجة لحل سلمي يضمن للأطراف المضي قدمًا، فلم يعد الحل العسكري الخيار المفضل على الطاولة.

مهد خطاب الرئيس أردوغان ورؤيته “تركيا خالية من الإرهاب” واستعداد الحكومة للسير مع المُشرعين الأكراد اتساقًا مع مبادرة باهشتلي وسياقات التحدث عن اختيار نائبين لرئيس الجمهورية ممثلين للأكراد والعلويين في الحكم، فضلًا عن الموقف الأمريكي السلبي تجاه الجماعات الكردية وحالة عدم اليقين بعد التغيرات الجذرية التي تشهدها المنطقة، أصبحت نقاط حاسمة لإيجاد مخرج سياسي سلمي قد يعمل بدوره على استرضاء المناطق الكردية وجعل لها نصيب من كعكة التنمية الاقتصادية لتحقيق الاستقرار الداخلي ويمكن دمجها في النظام، وقد يفي بالغرض على المدى القصير حتى تُتيح الفرصة لأردوغان لتسكين الداخل و تعزيز مكانة بلاده في المنطقة.

في النهاية، على الرغم من محاولات أردوغان المصحوبة بالاضطراب الداخلي الذي قد يؤدي إلى ترجيح كفة المعارضة وشعبيتها، لكنه يمكن أن يٌحقق أردوغان مكاسب سياسية قصيرة الأجل، من خلال تحجيم المعارضة واستمالة الأكراد، ولكن يبقى صمود أردوغان في الحكم محفوف بالمخاطر في حالة استمرار التصعيد في وجه المعارضة والفشل في حقن الأزمات الاقتصادية قد تسفر عن استمرار خسارة قاعدته الانتخابية.

بينما، تسير عملية السلام أشواطًا، يظل نجاحها أسير القدرة على التوازن بين متطلبات الدستور والأداء القضائي تجاه الرموز الكرديّة. فضلًا عن مدى قدرة الحكومة واستمراريتها على توفير مسار للانخراط السياسي ومعالجة الحقوق الثقافية ضمن إطار ديموقراطي لدعم مفاوضات مستدامة مع الجانب الكردي.

 فالخوض في العملية ذاتها بالفعل يضفي مزيدًا من النجاح على مسيرة أردوغان، ويفتح بابًا للمطالب الكرديّة، ولكن في حالة التراجع الديموقراطي التي تشهدها البلاد مؤخرَا.


[1] شيما شيه، تركيا: موجة اعتقالات واسعة تستهدف معارضي أردوغان وسط اتهامات بتصفية سياسية، يورو نيوز، الرابط: https://arabic.euronews.com/2025/07/11/turkiye-wave-of-arrests-targeting-erdogan-opponents-amid-accusations-of-political-purges

[2] WHAT COMES NEXT FOR TURKEY? PROSPECTS FOR CHANGE ON THE POLITICAL, ECONOMIC, AND FOREIGN POLICY Fronts, THE MIDDLE EAST INSTITUTE, p7

[3] Op, cit. p16

[4] Op, cit. p8

[5] KARABEKİR AKKOYUNLU,Erdoğan’ın planı, muhalefetin sınavı, kisa dalag, https://kisadalga.net/haber/konuk-yazar/erdoganin-plani-muhalefetin-sinavi-127241

[6] Murad Jandali Opposition, Challenges Erdogan: How Türkiye Entered a New Phase of Political Conflict, Alestiklal,  https://www.alestiklal.net/en/article/opposition-challenges-erdogan-how-turkiye-entered-a-new-phase-of-political-conflict

[7] Spyros A. Sofos, What’s behind Erdoğan’s calculated shift on Kurds and its potential consequences, The conversation ,https://theconversation.com/whats-behind-erdogans-calculated-shift-on-kurds-and-its-potential-consequences-246879

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى