د. أبو الفضل الإسناوي يكتب: ذكريات مقاتل أثناء التدريب.. عندما انتصر العزم على الإمكانيات

التقيت في ٢٨ سبتمبر الجاري، بأحد القادة العسكريين المصريين، وخلال حديثنا ذكر لى سيادته، واقعة تؤكد أن العسكرية المصرية لا مثيل لها (التربية والإعداد للمقاتل)، وأن الجندى المصري أقوى جنود الأرض، بالمقارنة بغيره يظل في الترتيب الأول مهما تطورت برامج التدريب العالمية، قال لي صديقي الضابط الكبير، إنه في صيف يوليو من عام 1987 وفي قلب واحدة من أصعب المناطق الصحراوية، كُلفنا — نحن طاقم تدريب مصري مشترك من الضباط والجنود — بالمشاركة في تدريب ميداني مع وحدة من مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) ضمن مشروع مشترك يهدف إلى رفع الكفاءة القتالية وتبادل الخبرات.

البداية.. لقاء حضارتين عسكريتين:

قال لي سيادته، أنه منذ اللحظة الأولى كان واضحاً الفارق بين تجهيزات الجانبين الجنود الأمريكيون كانوا يتمتعون ببنية جسدية قوية ومعدات خفيفة وحديثة بينما كان الجنود المصريون يتحملون عتادًا أثقل وإمكانيات بدنية قد تبدو أقل لأول وهلة، لكن ما لا يُقاس بالعين المجردة، ولا يُحمل على الظهر، هو الإرادة والروح القتالية.

أضاف لى صديقي الضابط الكبير، أنه بعد يومين من الاستقرار في الموقع التدريبي انطلق المشروع الميداني الأهم: مشروع سير مشترك لمسافة 25 كيلومتراً على الأقدام وسط حرارة الصحراء مرتدين الزي القتالي الكامل لكل دولة، كنا نعلم أن التحدي سيكون كبيراً لكن لم نكن ندري أن الروح ستكون الفارق الحقيقي.

المفاجأة •• حين توقفوا وتقدمنا:

قال لي سيادته، وهو ينظر إلى السماء انطلقنا جميعاً المصريون والأمريكيون، كتفاً بكتف، ومع مرور الكيلومترات بدأ التباين يظهر، الجنود المصريون رغم العتاد الأثقل كانوا يتقدمون بخطى ثابتة، وبعد مرور 5 كيلومترات فقط، بدأ الجنود الأمريكيون بالتوقف تأخروا عنا بمقدار كيلومترين تقريباً ما دفعنا — بدافع الزمالة والواجب المهني — للعودة إليهم للاطمئنان ظناً بوجود حالة طارئة أو إصابة.

توقف صديقي الضابط، ثم استكمل قائلًا وهنا جاءت اللحظة التي لا تُنسى حين قال قائد وحدتهم وكان برتبة ملازم: “لا يمكنني أن أحارب أناسًا مثلكم… في وقت كهذا… وفي أرض كهذه.”

كلماتٌ لن أنساها ما حييت لم تكن مجرد جملة عابرة بل كانت اعترافاً صريحاً بصلابة الجندي المصري وقدرته على التحمّل والانتصار في أقسى الظروف.

التحول •• من مشاة إلى أسود الصحراء:

استكمل سيادته قائلًا، كنا بقيادة ضابط مصري برتبة ملازم أول، وقد كنت قد نُقلت لتوي من ملازم إلى ملازم أول قبل أقل من أسبوعين، وبعد سماع تلك الكلمات تحول المشروع من تمرين إلى إثبات وجود، قررنا استكمال السير لا مشياً بل جرياً كالأسود، وكلما اشتدت حرارة الشمس، كلما زادت عزيمتنا، وكلما زاد العرق زادت الروح.

يقول صديقي الضابط الكبير،.. كانت النتيجة أن لم يصل أي عنصر من الجانب الأمريكي إلى نقطة النهاية، بينما وصل الجنود المصريون جميعاً رافعين رؤوسهم، مثبتين أن القوة الحقيقية لا تُقاس بالعضلات ولا بالأجهزة الحديثة، بل بالإيمان بالهدف وبالانتماء وبالإرادة الحديدية.

يستكمل سيادته، ويقول لقد تركت هذه التجربة فيّ وفي كل من شارك فيها دروساً خالدة، هي:

(*)- أن الجندي المصري لا يُقهر حين يؤمن بقضيته.

(*)- أن الوطنية لا تحتاج لإمكانيات بقدر ما تحتاج إلى انتماء.

(*)- أن الجندي المصري وُلد في أرض المعركة، وتمرّس في شظف العيش، وألف قسوة الطبيعة فلا يخيفه حر ولا يرهبه صخر.

الإيجابيات التي أظهرتها التجربة:

 ١. القدرة العالية على التحمّل البدني والنفسي رغم قلة الإمكانيات.

 2. الروح الجماعية والانضباط العسكري لدى عناصر القوات المصرية.

 3. الانضباط التكتيكي والمبادرة في اتخاذ القرار لحظة المواجهة أو التحدي.

التحديات والسلبيات:

 فالعتاد الثقيل مقارنةً بالمعدات الأمريكية، كان تحدياً حقيقياً، كما أن نقص بعض الإمكانيات التدريبية الحديثة المتوفرة للجانب الآخر.

يقول صديقي الضابط الكبير، تلك التحديات لم تُضعف العزيمة بل كانت وقوداً للتميز والتفوق، ثم يوصى سيادته من هذه التجربة، قائلًا من الضروري، تحقيق ما يلي:

 1. الاستثمار في تطوير المعدات دون المساس بعنصر الصلابة والانضباط.

 2. تعزيز الروح الوطنية والانتماء من خلال سرد مثل هذه التجارب في الكليات المدنيه والأكاديميات العسكرية.

 3. تسليط الضوء على الجندي المصري كرمز للتحمل والتفوق في الإعلام المحلي والدولي.

نحن خير أجناد الأرض:

لم تكن هذه التجربة مجرد تدريب، بل كانت شهادة حية على صدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا منها جندًا كثيفًا، فإنهم خير أجناد الأرض” [حديث حسن، رواه ابن حبان]. كما قال القائد الفرنسي نابليون بونابرت: “لو كان لدي جندي مصري واحد، لغزوت العالم”.

ينهي صديقي الضابط الكبير، قائلًا..اليوم، وبعد مرور عقود، لا زال الجندي المصري رمزاً للثبات وقدوةً في التحمل ومثالاً في الشجاعة. نحن لا نحارب من أجل القتال فقط نحن نحارب لأننا أبناء أرضٍ طاهرة نحمل في قلوبنا حب الوطن وفي عقولنا وعي التاريخ وفي أقدامنا صلابة الجبال.“وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ” [التوبة: 105]. فلنظل دائمًا أوفياء مرفوعي الرأس نردد: “تحيا مصر برجالها، بجنودها، بأرضها، بتاريخها، وبإرادتها التي لا تنكسر”.

د.أبو الفضل الاسناوي

المدير الأكاديمي لمركز رع للدراسات الاستراتيجية -حاصل على دكتوراه في النظم السياسية من جامعة القاهرة في موضوع الأداء البرلماني في دول الشمال الأفريقي. -حاصل على ماجستير في النظم السياسية عن موضوع النظام السياسي والحركات الإسلامية في الجزائر. -مدير تحرير مجلة السياسة الدولية بالأهرام. - مدير وحدة الدراسات بقطاع القنوات الإخبارية بالشركة المتحدة للخدمات الإعلامية. - أستاذ العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والإدارة ونظم المعلومات بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا. -كاتب في العديد من المجلات العلمية وخبير مشارك في العديد من مراكز الدرسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى