عبد الفتاح الجبالي يكتب.. عجز الميزان التجاري وسبل العلاج

يلاحظ المتتبع للاقتصاد المصري، أن الميزان التجاري مازال يتدهور بشدة، إذ وصل عجز هذا الميزان إلى 51 مليار دولار فى عام 2024/2025مقابل 39.5 مليار دولار عام 2023/2024، وأصبح يشكل أحد القيود الأساسية على حركة ميزان المدفوعات والاقتصاد المصري ككل، خاصة أن هذا الميزان يعكس الهيكل الإنتاجي للدولة ومدى تطوره، وهو ما يظهر فى المعاملات السلعية وتركيبة السلع الداخلة فى حركة التجارة المصرية، ويرجع السبب في ذلك إلى ارتفاع عجز الميزان التجاري البترولي ليصل إلى 13.9 مليار دولار نتيجة لزيادة قيمة الواردات البترولية إلى 19.5 مليار وانخفاض الصادرات البترولية لتقتصر على 5.6 مليار دولار فقط. كما ارتفع العجز التجاري غير البترولي ليصل إلى 37.1 مليار دولار نتيجة لارتفاع الواردات السلعية غير البترولية إلى 71.1 مليار دولار بينما ارتفعت الصادرات السلعية غير البترولية إلى 34.6 مليار.
وتكمن خطورة هذه المسألة فى ضوء تراجع نسبة تغطية الصادرات للواردات لتصل إلى 45% فقط، وهو مؤشر مهم، يجب أن يكون دافعا لمحاولة إعادة التوازن بحيث تغطى الصادرات السلعية النسبة الأكبر من الواردات السلعية. فإذا كان من المقبول ألا تغطى قيمة الصادرات، القيمة الكلية للواردات، على اعتبار أن الثانية تشمل واردات استثمارية تستخدم فى عمليات التكوين الرأسمالي التي لايتحقق عائدها إلا فى الأجل الطويل، فإنه من غير المقبول ألاَّتغطى قيمة الواردات الجارية وهو أمر بالغ الخطورة. وتتزايد أهمية هذه المسألة فى ضوء هيكل الصادرات المصرية، الذي يغلب عليه، حتى الآن، السلع التقليدية مثل الملابس الجاهزة والأسمدة والحديد ومنتجاته.وقد تزامن ذلك مع استمرار الزيادة فى الواردات السلعية وذلك بسبب السياسات الاقتصادية الراهنة التي خففت كثيراً من القيود على الاستيراد، وبالتالي زاد الطلب على السلع الوسيطة والاستهلاكية التي تمثل أكثر من ثلثي الواردات، وهذه الزيادة لم تنعكس إيجابيا على حجم الصادرات. وبالتالي أصبح من الضروري اجراء دراسة موضوعية لأوضاع الميزان التجاري لمعرفة أوجه الخلل وطبيعته، حتى يمكن وضع أسس العلاج السليمة لهذه المسألة. وبمعنى آخر لاينبغي الاكتفاء بكبت المشكلات فحسب، بل ينبغي القضاء عليها تماما بغية جعل هذا الوضع قابلاً للاستمرار والاستقرار على المدى البعيد وبالتالي فهناك بعض الاختلالات التي يتم علاجها في فترة زمنية قصيرة نسبياً، والبعض الآخر يشمل عوائق هيكلية على النمو، ولايتم علاجها إلا فى إطار أطول أجلا.
وتختلف هاتان الحالتان اختلافا شديدا من حيث تركيز البرامج الإصلاحية، ففي حالة علاج الخلل الهيكلي يصبح نمو الصادرات وزيادة الإنتاج من العناصر الأساسية لهذه السياسة، أما فى حالات الأجل القصير، فيفترض أن الطاقة الإنتاجية ثابتة، ولكنها ليست مستخدمة بالكامل، لذلك يمكن أن يتغير الإنتاج داخل الهيكل الاقتصادي، وفى حدود الإمكانات المتاحة. المجتمع المصري ينطبق عليه افتراض البلدان الصغيرة، أي أن البلد صغير بما فيه الكفاية فى السوق العالمية بحيث يمكنه بيع أى قدر يوده دون التأثير على الأسعار العالمية.، أى أن الطلب مرن إلى ما لانهاية، وهنا يصبح العرض المحلى هو القيد الفعلي على الصادرات وبالتالي يتطلب تفسير تناقص الصادرات عملية العرض المحلى. أى دراسة العوامل المؤثرة على الإنتاج المحلى وتلك المؤثرة فى الصادرات. كما أن السياسة الراهنة، قد أدت الى زيادة الطلب على كل من السلع القابلة وغير القابلة للتبادل وفى حين أن أسعار السلع غير القابلة للتبادل (مثل الأرض والعمل) ليست محكومة بعوامل السوق الدولية، ولكن أسعارها تتحرك بحرية في الأسواق الداخلية، فإن أسعار السلع القابلة للتبادل (مثل الخضراوات والفاكهة) تتأثر بعوامل السوق الدولية. وعلى ذلك فقد أدت إلى زيادة أسعار السلع غير القابلة للتبادل دوليا، أكثر من تلك السلع القابلة للتبادل، وإذا افترضنا مساواة أثر العوامل الأخرى فإن هذا الاختلاف النسبي فى السعر سيشجع على إنتاج السلع غير القابلة للتبادل على حساب السلع التي يمكن تصديرها. وبالتالي المزيد من الفجوة بين الواردات والصادرات. وهكذا فإن السياسة الراهنة مازالت تحتاج إلى تعديل شديد، إذ إنها مازالت قائمة على أساس التوجه الداخلي وتصدير الفائض، مع ما يعنيه ذلك من تأثر الكميات المصدرة بمستويات الاستهلاك المحلية. والأهم من ذلك تدهور أوضاع الإنتاج والإنتاجية بالمجتمع، بحيث لم يعد الجهاز الإنتاجي قادرا على تلبية الطلب (بشقيه المحلى والخارجي) وهو ما يتطلب إعادة تخصيص الموارد المتاحة بالمجتمع بغية جعلها أكثر قدرة على التخصص فى إنتاج سلع التجارة الدولية، عن طريق زيادة ربحية السلع المعدة للتصدير، علي ربحية المبيعات المحلية وتغيير هيكل الأسعار النسبية بالمجتمع.
وهنا يصبح التساؤل المطروح هو عن الكيفية التي يمكن أن نحقق بها هذا الهدف؟ وقبل محاولتنا الإجابة عن هذا التساؤل تجدر الإشارة إلى أن المجتمع المصري لديه من الإمكانات والمزايا التي تمكنه من تحقيق ذلك، حيث تتمتع القوى العاملة بمزايا الأجور التنافسية التي تتيح للدولة ميزة فى الصناعات كثيفة العمل. كما يسمح المناخ فى مصر وأرضها الزراعية بالتنوع فى المحاصيل، ويتيح لها موقعها المتوسط من حيث قربها من أوروبا وشمال إفريقيا والشرق الأقصى. سرعة النفاذ إلى الأسواق ويفتح الفرص أمامها لتكون مركزا للنقل والخدمات الأخرى، وقاعدة تنطلق منها الصادرات إلى المجتمع الدولي ككل. أى أن الاقتصاد المصري يحتاج إلى سياسة تصديرية تهدف إلى إيجاد الصادرات وليست تنمية الصادرات، وهو ما لم يتأت إلا عبر إيجاد الميزة النسبية التي يمكن أن تتمتع بها الصادرات المصرية.
نقلا عن جريدة الأهرام.