لواء أحمد زغلول مهران يكتب عن.. منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح

منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح •• تاريخ المقاومة، رموز النضال، والدروس المستفادة للأجيال القادمة
من جذور النكبة إلى بزوغ مشروع المقاومة الفلسطينية
في أعقاب النكبة التي حلّت بالشعب الفلسطيني عام 1948 أصبحت ضرورة ملحّة لوجود كيان سياسي يمثل الشعب الفلسطيني بعد تجربة كيان “حكومة عموم فلسطين” التي لم يُكتب لها النجاح، ويقود مشروعه الوطني في وجه الاحتلال الإسرائيلي ويحفظ هويته وحقه في العودة، حيث كانت منظمة التحرير الفلسطينية التعبير السياسي الأول عن هذا المشروع، فيما مثّلت حركة فتح جوهر المقاومة المسلحة والتنظيم الوطني الذي أعاد بعث الروح النضالية بين الفلسطينيين.
منذ نشأتهما لعبتا دوراً محورياً في إعادة تعريف القضية الفلسطينية أمام العالم وتحويل الفلسطيني من “لاجئ” بلا هوية إلى “مناضل” له قضية وكفاح وأرض. سنتناول هنا بأسلوب تحليلي سرداً لتاريخ هاتين التجربتين وأهم رموزهما والدور المصري وأبرز الدروس والنصائح للأجيال القادمة.
أولاً: النشأة والظروف التاريخية:
1- حركة فتح شرارة المقاومة: تأسست حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” في أواخر الخمسينيات (أُعلن عنها رسمياً عام 1965) على يد مجموعة من الشبان الفلسطينيين الذين عاشوا في الشتات، وكان أبرزهم ياسر عرفات وخليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد). انطلقت بفكرة مركزية أن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتحقق إلا بأيدي الفلسطينيين أنفسهم عبر الكفاح المسلح والتنظيم الذاتي.
كانت فتح في البداية حركة سرية تقوم على استقطاب الشباب منذ نشأتها في عام 1958، وتعمل على تطوير الهيكل العام للحركة. وفي عام 1965 نفذت الحركة أول عملية فدائية ضد إسرائيل من خلال الجناح المسلح “قوات العاصفة”، وتوالت العمليات الفدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي من قواعد في الأردن ولبنان، حيث مثّلت فتح تحولاً جذرياً في التفكير الفلسطيني من انتظار الحلول العربية إلى العمل الوطني المباشر.
2- منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد: في عام 1964، بدعم من القمة العربية التي أُقيمت آنذاك بالقاهرة، تأسست منظمة التحرير الفلسطينية برعاية مصرية مباشرة، وكانت البداية بقيادة أحمد الشقيري، وعُدّت في ذلك الحين مؤسسة سياسية جامعة للفلسطينيين.
غير أن الزخم الحقيقي بدأ عام 1969 عندما تولّت حركة فتح قيادة المنظمة بانتخاب ياسر عرفات رئيساً لها، لتتحول من منظمة رمزية إلى مؤسسة مقاومة تقود العمل العسكري والدبلوماسي.
ثانياً: المقاومة متعددة الأشكال •• من الكفاح المسلح إلى النضال السياسي:
1- الكفاح المسلح: شهدت السبعينيات والثمانينيات كثافة العمل الفدائي الفلسطيني، حيث نفذت قوات العاصفة التابعة لفتح وبعض الحركات المقاومة التابعة لمنظمة التحرير عمليات مسلحة ضد قوات الاحتلال داخل وخارج الأراضي الفلسطينية. كانت هذه العمليات تُنفَّذ في ظل توازنات إقليمية صعبة، وغالباً من قواعد في الأردن ولبنان، ثم لاحقاً من تونس وليبيا.
(&) من أبرز عمليات فتح:
(*) معركة الكرامة (1968): أول صدام عسكري مباشر بعد النكسة، اعتبره الفلسطينيون والعرب نصراً معنوياً مهماً.
(*) عمليات فدائية خارج فلسطين: أثارت الجدل لكنها جذبت الأنظار عالمياً لمعاناة الفلسطينيين.
2- الانتفاضات الشعبية: (*) الانتفاضة الأولى (1987 – 1993): انطلقت من غزة وامتدت إلى الضفة، وشاركت فيها كل شرائح المجتمع الفلسطيني. اعتمدت على أساليب المقاومة الشعبية بتنظيم إضرابات ومظاهرات ومقاطعة بضائع الاحتلال. شكلت هذه الانتفاضة نقلة نوعية في أعمال المقاومة، وأعلنت فشل مخطط التهويد الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية ومحو الهوية الوطنية، حيث برزت قيادة الداخل بعد عقود من قيادة الخارج، مما مهّد الطريق للمفاوضات لاحقاً.
(*) الانتفاضة الثانية (2000 – 2005): جاءت نتيجة فشل عملية السلام وترافقها مع اقتحام أرئيل شارون للمسجد الأقصى. كانت أكثر عنفاً، واستخدمت فيها فتح والفصائل الأخرى وسائل مقاومة عسكرية متطورة نسبياً، لكنها أثقلت المجتمع الفلسطيني بأثمان باهظة.
3- النضال السياسي والدبلوماسي: عقب الانتفاضة الأولى بدأت المنظمة أولى خطواتها السياسية الجادة، وأثمرت عن مؤتمر مدريد (1991) ثم اتفاق أوسلو (1993) الذي أفرز السلطة الوطنية الفلسطينية.
اعترفت المنظمة بإسرائيل وحصلت على اعتراف دولي واسع كممثل شرعي ووحيد للفلسطينيين.
بالرغم من الانتقادات التي وُجهت لأوسلو، فإنه مثّل لحظة مفصلية في تاريخ القضية، إذ دخل الفلسطينيون جزءاً من أرضهم لإدارتها وبنوا مؤسسات السلطة.
ثالثاً: رموز النضال والقيادة التاريخية:
1- ياسر عرفات (أبو عمار): القائد التاريخي لحركة فتح ومنظمة التحرير، تحوّل من مهندس شاب إلى قائد شعبي ثم زعيم سياسي عالمي، قاد الشعب الفلسطيني في كافة مراحل النضال: الكفاح المسلح ثم السياسة ثم العودة إلى الوطن.
رغم الانتقادات التي طالته، لا يُنكر دوره المركزي في الحفاظ على الوحدة الوطنية وبناء هوية سياسية فلسطينية مستقلة.
2- خليل الوزير (أبو جهاد): العقل المدبّر للعمليات العسكرية خلال السبعينيات والثمانينيات، وقد استُشهد في عملية اغتيال إسرائيلية في تونس عام 1988. كان شخصية تنظيمية محورية ورمزاً للانضباط والكفاءة داخل فتح.
3- صلاح خلف (أبو إياد): أحد أبرز قيادات فتح وأجهزة الأمن في منظمة التحرير، ساهم في صياغة العمل الأمني والتنظيمي، واغتيل عام 1991 في ظروف غامضة.
4- قيادات نسائية ومثقفون:(-) ليلى خالد: من أبرز رموز العمل الفدائي النسائي. (-) حنان عشراوي: قادت المفاوضات بجدارة وواجهت الإعلام الدولي بكفاءة.(-) إدوارد سعيد: مفكر فلسطيني عالمي قدّم رؤية نقدية عميقة للقضية، وكان ضميراً ثقافياً للمقاومة.
رابعاً: دور القيادة المصرية •• دعم حاسم ومحطات مفصلية:
1- مصر والولادة السياسية لمنظمة التحرير: لم تكن منظمة التحرير لتولد سياسياً دون الدعم المصري في عهد الزعيم جمال عبد الناصر، الذي آمن بضرورة وجود كيان فلسطيني مستقل يدير الصراع ضد إسرائيل.
2- الدعم السياسي والعسكري: قدّمت مصر الدعم السياسي واللوجستي والتدريبي في مراحل عديدة انطلاقاً من قطاع غزة بقيادة الشهيد مصطفى حافظ، ثم انتقل إلى الخارج بعد حرب عام 1967، وبرز خلال معركة الكرامة وما بعدها حين ظهر دور مصر في دعم صمود الفصائل ضد الاحتلال الإسرائيلي.
3- الوساطة الدائمة: في مراحل الانقسام، خاصة بين فتح وحماس، كانت مصر تلعب دور الوسيط الحاسم.
ساهمت مصر في إعادة إعمار غزة بعد الحروب وفتح معابرها لتخفيف الحصار الإنساني.
4- التحوّلات السياسية: بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 تغيّر الدور المصري إقليمياً وابتعد عن قيادة العمل العربي الجماعي، لكن ظل الدور المصري قائماً في الملف الفلسطيني من باب الاستراتيجية لا المجاملة.
خامساً: تقييم التجربة •• ما تحقق وما لم يتحقق:
1- الإنجازات، تمثلت في الاعتراف الدولي بالحق الفلسطيني في تقرير المصير، وإنشاء مؤسسات وطنية، أبرزها السلطة الفلسطينية، والحفاظ على الهوية الوطنية والذاكرة الجمعية رغم الشتات والاحتلال، واستمرارية النضال لأكثر من سبعة عقود بلا انقطاع.
2- التحديات والإخفاقات، تمثلت في الانقسام الفلسطيني الداخلي (فتح–حماس) قضى على حلم الوحدة، والإخفاق في بناء اقتصاد قوي ومستقل، والفساد الإداري في بعض مؤسسات السلطة. كذلك تنازلات سياسية أضرت بثقة الشارع الفلسطيني. وعدم وجود مشروع وطني جامع للمقاومة وصولاً إلى إقامة دولة فلسطينية.
سادساً: الدروس المستفادة والنصائح للوطن والشباب:
1- العلم والمعرفة أساس التحرير: لا يمكن لأي مشروع تحرري أن ينجح ما لم يكن مدعوماً بعقول مدرّبة ومجتمع متعلّم. لقد أثبتت التجربة الفلسطينية، كما غيرها من تجارب الشعوب المحتلة، أن السلاح وحده لا يكفي، بل يحتاج إلى سند معرفي وثقافي وفكري متين.
التعليم، هو الطريق الوحيد لتحصين الوعي الوطني وفهم تعقيدات الصراع على أسس علمية، مما يمكّن الأجيال القادمة من التعامل الذكي مع أدوات العصر.
تشجيع الشباب على التخصص في القانون الدولي، والعلاقات الدولية، والإعلام الرقمي، والتكنولوجيا، يسهم في نقل المعركة إلى الساحات الأممية والأخلاقية ويعزز أدوات النضال المعاصر.
2- الفكر والثقافة كوسيلة للمقاومة: ليست المقاومة بندقية فقط، بل هي أيضاً رواية وصورة ومقال وكتاب. لقد واجهت القضية الفلسطينية عبر العقود محاولات طمس للرواية الأصلية، وكان التصدي لها ممكناً بفضل المثقفين والمبدعين الذين كتبوا وأنتجوا وأسسوا الذاكرة الفلسطينية الجمعية.
على الجيل الجديد أن يُدرك أن المعركة على السردية لا تقل أهمية عن المعركة على الأرض.
دعم الإنتاج الثقافي والفني الفلسطيني من خلال الرواية والسينما والشعر والرسوم يعزز الحضور الفلسطيني في الوجدان العالمي.
3- الإنتاج والعمل والتضحية مقاومة من نوع آخر: الاستقلال لا يُهدى بل يُنتَزع، لكن هذا الانتزاع لا يكون فقط بالسلاح، بل أيضاً بالتنمية الاقتصادية المستقلة وخلق بنية إنتاجية فلسطينية.
يجب على الشباب أن يتبنوا فكرة الاقتصاد المقاوم من خلال دعم المشاريع الصغيرة، والتوجه نحو الزراعة والتكنولوجيا والتعليم والصناعة المحلية.
العمل ليس فقط للبقاء بل للبناء والتحرر، فكل شاب منتج هو جندي في معركة الوجود.
4- التضحية بمعناها الشامل: التضحية ليست فقط الموت في الميدان، بل هي في بناء الذات والصبر على الشدائد وحمل المسؤولية في كل موقع.
التضحية تعني الالتزام الأخلاقي والولاء للقضية والابتعاد عن الفساد والتفريط والتنازل.
تعني أن يكون الفلسطيني مثالاً يُحتذى في الالتزام والجدية والنزاهة في البيت والمدرسة والجامعة والعمل.
سابعاً: لماذا نحتاج اليوم إلى روح فتح ومنظمة التحرير؟
لم تكن فتح ومنظمة التحرير مجرد حركات سياسية أو عسكرية، بل كانت حالة وجدانية وثقافية جامعة أعادت صياغة الشخصية الوطنية الفلسطينية وأعطتها معناها وكرامتها بعد النكبة.
اليوم، وفي ظل الانقسام الفلسطيني وضعف المشروع الوطني الجامع، نحتاج إلى استلهام الروح الأولى لحركة فتح التي قامت على الوحدة والعمل والتضحية ورفض التبعية وحماية القرار الفلسطيني المستقل.
كما نحتاج إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس حقيقية تضمن مشاركة كل الفصائل الفلسطينية وتعيد الاعتبار للعمل السياسي المنظم والموحد بعيداً عن التجزئة والانقسام.
ثامناً: نحو مشروع وطني متجدد:
لقد قدّمت منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح تجربة نضالية ثرية مليئة بالإنجازات والتحديات، ووسط كل ما واجهته من محن داخلية وضغوط خارجية استطاعت أن تحافظ على الهوية، وتبني مؤسسات، وتنتزع اعترافاً عالمياً.
غير أن هذه التجربة، على الرغم من نجاحاتها، ليست كاملة ولا معصومة، بل هي تجربة قابلة للمراجعة والنقد والتطوير، بشرط ألا تُهدم أو تُفرّغ من مضمونها، لأننا حين نهدم تاريخنا نكون قد خسرنا أرضاً جديدة.
إن الجيل الجديد مطالب اليوم بأن يبني على ما أنجزه الآباء ويتجاوز أخطاءهم لا أن يبدأ من الصفر. المعركة ما زالت طويلة، وهي لا تُربح بالشعارات بل بالعلم والوحدة والتنظيم والعمل والاستقلال الاقتصادي وتكامل أدوات المقاومة.
نصيحة للوطن وللشباب، كونوا كما كان من سبقكم وعياً حياً لا يموت، لكن كونوا أيضاً كما يحتاجكم الوطن عقولاً تعمل لا تكتفي بالحلم، فالوطن لا يُبنى بالحزن بل بالأمل، ولا بالدم فقط بل بالعمل.