لواء أحمد زغلول يكتب: محطات فى حياتي.. المحطة الحادية عشرة

حكاية طفل في زمن السمن •• ودرسٌ للوطن الذي لا ينكسر
حين تصبح علبة السمن عنواناً لوطنٍ مجروح:
لا تكتمل ذاكرة وطنٍ إلا بشهادات أطفاله؛ ففي لحظات الشدة ينبض قلب الصغير بما لا يطيقه الكبير، ويقف الطفل عند حدودٍ لا يقترب منها أحد، ليقول دون أن ينطق: “أنا ابن هذا الوطن •• أحمل وجعه رغم صغر عمري”.
كانت السبعينيات عاماً بعد عام تنحت على وجه مصر ملامح التضحية والصبر. بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ خرجت البلاد من معركة عسكرية مجيدة، لكنها دخلت في معركة اقتصادية لا تقل ضراوة. لم تكن الأزمة رفاهية مفقودة، بل كانت أزمة حياة. كانت علبة السمن رمزاً للمعاناة، والدجاجة حلماً مؤجلاً، والوقوف في طابور الجمعية “اختبار صبر” قد يمتد أربع أو خمس ساعات.
وسط هذه الضبابية القاسية برزت تجربة طفولتي المبكّرة؛ تجربة لم تكن مجرد محاولة للحصول على علبة سمن، بل كانت ولادة وعي وتشكُّل روح وفصلاً من فصول حب الوطن الخالص.
وتلك هي المحطة الحادية عشرة؛ محطة صنعت بداياتي، وربما صنعت فيما بعد جزءاً كبيراً من ملامح شخصيتي العسكرية والإنسانية.
مصر بعد الحرب .. بلدٌ يحاول أن يتنفس
جراح ما بعد أكتوبر.. خرجت مصر من حرب أكتوبر مرفوعة الرأس، لكنها خرجت أيضاً منهكة اقتصادياً.. سنوات الاستنزاف التي سبقت الحرب، وحصار الاقتصاد، وتوجيه معظم الموارد للجبهة جعلت الدولة تدخل إلى منتصف السبعينيات بأعباء ثقيلة:
• نقص حاد في العملة الصعبة
• زيادة واردات السلع الأساسية واعتماد على الخارج
• طوابير طويلة أمام الجمعيات الاستهلاكية
• صعوبة توفير الغذاء الأساسي للمواطن
• غلاء يلتهم الأجور
• رحلة بحث يومية عن قوت لا يكفي
كانت البلد كلها تشعر بالاختناق، لكن رغم الألم كان هناك يقين داخلي: “سنمر من هذا كما مررنا من غيره”.
السمن سلعة أم معركة وطنية؟.. اليوم قد يبتسم بعض الشباب عندما يسمع أن السمن كانت أزمة، أو أن الناس كانوا ينتظرون ساعات للحصول على دجاجة واحدة، لكن من عاش تلك الأيام يعرف أن السمن كانت ذهباً، بل ربما كانت أثمن من الذهب نفسه. كانت الجمعية الاستهلاكية هي نافذة الحياة؛ إذا وُجدت السمن عرف الناس بالزحام قبل أن يعرفوا بالإعلان، وكان صوت الشرطي وهو ينظم الطابور بحزم وقسوة جزءاً من المشهد اليومي.
كانت طوابير تمتد لخمسمائة متر أو أكثر… رجال ونساء وأطفال يلتصقون ببعضهم ككتلة واحدة، كتلة تتحرك مثل موجة واحدة رغم الفروق، ورغم الطبقات، ورغم الألم.
هذه البيئة شكّلت وعي جيل كامل، وكنت واحداً من هؤلاء الأطفال.
بيتٌ صغير وقلبٌ كبير.. أسرتي حضنٌ يستند عليه الوطن:
كنت في عام ١٩٧٥ طفلاً في الحادية عشرة من عمري، أعيش في أسرة مصرية أصيلة؛ أسرة بسيطة في إمكانياتها، عظيمة في قيمها. كان أبي وأمي نموذجاً للتماسك الأسري: حب وودّ وديمقراطية أسرية، ووعي سياسي واجتماعي يحضر في كل حديث.
كنا نجلس معهم باعتبارنا أفراداً مهمين، يسمعوننا ويسمحون لنا أن نسمعهم. كان حوارهم عن الوطن جزءاً من غذائنا اليومي؛ لا يخلو منه يوم ولا نهار ولا مساء. ولذلك لم يكن الوطن بالنسبة لي شيئاً بعيداً؛ كان الوطن هو بيتنا، وهمومه هي همومنا، وأزماته هي امتحانات صغيرة نعيشها جميعاً.
وجاءت الجملة التي غيرت مسار يومي.. ذات مساء قالت أمي لوالدي بلهجة لا تخفى ألمها: “السمنة خلصت… مش لاقيين نطبخ”.
لم يكن في قولها مجرد نقص سلعة؛ كان فيه خوف وعجز ووجع أم تحاول أن توفّر لأولادها ما تستطيع. رأيت أبي يحدّق بنظره ويفكر فيها ألف مرة:
كيف يحل الأزمة؟ كيف يحافظ على الأسرة؟ وكيف يظل الأب الذي لا يهتز أمام زوجته ولا أبنائه؟
وفي تلك اللحظة وُلِد القرار في قلبي دون أن أستأذن أحداً.
قرار طفل وإرادة رجل صغير.. جلسة اتفاق بين طفلين:
بعد أن سمعت حديث أمي وأبي، نظرت إلى أخي الأصغر مني بثلاث سنوات فقط، لكنه كان في تلك اللحظة شريكاً في الهم وشريكاً في الحلم. قلت له: “إحنا لازم نساعد… إحنا هنجيب السمنة”.
وهزّ برأسه بحماس طفولي لا يعرف حجم المغامرة، لكنه يعرف أنه يريد أن يشارك. قررنا أن ندخر من مصروفنا، وأن نراقب الجمعية، وأن نخوض ما لم يكن من المتوقع لطفلين أن يخوضاه.
كانت مدرستنا، مدرسة العائلة المقدسة بحلوان، تعطينا إجازة يومي الجمعة والأحد، فقررنا استغلال يوم الأحد للقيام بالمهمة.
مراقبة ملامح الأزمة.. لم نكن نعرف مواعيد وصول السمن للجمعية، لكننا كنا نعرف مؤشراً واحداً: إذا اشتد الزحام أمام الجمعية فهذا يعني أن السمن أو الفراخ قد وصلت.
كان الناس يأتون من كل مكان، يصطفون كأنهم يدخلون الجنة. ليس لأن السمن نعيم، بل لأن الحصول عليها كان إنقاذاً للأسرة.
كنت أرى وجوهاً يائسة، وأخرى متوترة، ووجوهاً انتصرت بعد خروجها بعلبة السمن وكأنها تخرج بوسام شرف. هذه المشاهد حفرت داخلي معنى: “الكرامة تُهزم أحياناً تحت ضغط الحاجة”.
لكن الشعب لم يفقد كرامته؛ فقد صبر لأنه يحب وطنه.
الطابور وتجربة الوجع.. قرار الدخول إلى الطابور:
في يومٍ مشهود رأينا الزحام، وفهمنا أن السمن موجود، وكان علينا أن نلتحم بالجموع.
قلت لأخي أن يقف جانباً بعيداً عن الطابور؛ لأنه كان نحيفاً وضعيفاً لن يحتمل الضرب ولا التدافع. لكنه أصرّ على أن يبقى قريباً مني… قَلِقاً يخشى أن أفشل أو أن أُصاب.
ودخلت الطابور.. دخلت وأنا طفل، لكن بداخلي رجل صغير يحاول أن ينتصر من أجل أسرته.
الطابور الذي يشبه ثعباناً حياً.. لم يكن الطابور صفاً. كان مخلوقاً ضخماً يتحرك يميناً ويساراً، يلتف ويضغط ويبتلع ويصرخ.
كل دقيقة كان التدافع يشتد، وكل دقيقة كنت أقول لنفسي: “لازم أجيب السمنة.. لازم أرجع منتصر”.
الضربة التي ما زلت أشعر بها:
فجأة انطلقت صرخة وراءنا… العسكري على الحصان أطلق صوته وضرب ضربة قوية بعصا غليظة أصابت جسمي الصغير في جانبي بقسوة.
كانت مؤلمة… جعلت الدنيا تُظلم للحظة.
كنت أشعر أن عظمي قد انكسر، وأن الهواء يهرب من صدري.
لكنني لم أتراجع، لأنني كنت أعرف أن التراجع يعني الفشل، والفشل يعني أن أعود إلى أمي خالي اليدين.
أربع ساعات وعمر كامل من الوعي. أربع ساعات مرّت وكأنها أربعة أعوام.
كنت أقاوم الألم، وأقاوم الدموع، وأقاوم الخوف من أن يرى أخي العسكري يضربني مرة أخرى.
وما إن وصلت إلى شباك البيع حتى وُضعت علبة السمن بين يدي.
شعرت أني أحمل كنزاً أثمن من الذهب، وأني طفلٌ انتصر على جيش كامل من الألم والخوف والتعب.
البيت الذي كان ينتظر.. والدموع التي لا تُنسى
العودة قبل وصول الأم.. عدنا إلى البيت أنا وأخي، يسبقنا النفس والنبض. كانت دقائق قليلة تفصل وصول أمي عن اكتشاف ما حدث. رأى أخي الجرح في جانبي، كان عميقاً، وكان الألم يشتعل، فوضعنا الماء والكمادات عليه بجهل الأطفال لعل الألم يهدأ. دخلت أمي فرأت المشهد.
لم تكن صرختها صرخة غضب، بل كانت صرخة قلب انكسر خوفاً علينا.
بكت وهي تعنّفنا، بكت وهي تعالجني، بكت لأنها لم تتخيل أن طفلاً يجازف بحياته من أجل علبة سمن.
حضن الأب .. وعبارة لا تُنسى
دخل أبي ورأى أمي تبكي، ورأى الجرح، ورأى علبة السمن على الطاولة. اقترب مني واحتضنني، وكان حضنه أكبر من عمره، أكبر من الأزمة، أكبر من كل شيء، وقال كلمته التي ما زالت تعيش في داخلي: “إنتِ يا فايزة خلفتي رجالاً •• رغم خطأهم •• لكنهم رجالة حقيقيين شايلين أزمة بلدهم”.
تلك اللحظة صنعت داخلي رجلاً، وربما صنعت ضابطاً سيحمل وطنه يوماً ما بقلب طفل وإرادة مقاتل.
قراءة في الأزمة.. ودروس للمستقبل
ما الذي تعلّمه الوطن من تلك الفترة؟
إيجابيات تلك المرحلة
• بروز روح الصبر لدى المصريين
• التماسك الشعبي رغم قسوة الظروف
• وعي جماعي بأهمية الغذاء والأمن الاقتصادي
• رجال ونساء لم ينكسروا رغم الألم
سلبيات تلك المرحلة
• سوء إدارة الموارد
• قسوة التعامل الأمني مع المواطنين
• الاعتماد الكبير على الخارج
• غياب الخطط الاستراتيجية طويلة الأجل لوضع السياسات المناسبة لتجاوز الأزمة
لكن رغم كل ذلك خرجت مصر واقفة شامخة صلبة، جريحة لكنها لم تنحنِ.
رسالة هذا الطفل للأجيال الحالية والقادمة
يا أبناء مصر.. هذه ليست قصة علبة سمن، هذه ليست قصة طابور ولا ضربة عسكري ولا جرحٍ في جانب طفل. هذه قصة وطن علّم أبناءه معنى الصبر ومعنى الرجولة ومعنى المسؤولية.
يا أبناء هذا الوطن:
• لا تستهينوا بأي أزمة، فالوعي يُولد من رحم الشدة.
• لا تفقدوا إيمانكم بالدولة، فالدول تنهض بالصبر قبل الموارد.
• لا تتخلوا عن بعضكم، فالتماسك المجتمعي هو أقوى سلاح في وجه الأزمات.
• وتذكروا دائماً أن أطفال الأمس كانوا يقفون في الطابور لأجل أسرهم،
فما بالكم أنتم اليوم في زمن يملك أدوات وإمكانات أكبر؟
رسالة للقلب قبل العقل
ليس في هذه القصة بطولة خارقة ولا تضحية أسطورية، هي مجرد لحظة عاشها طفل مصري يشبه ملايين الأطفال الذين حملوا هموم الوطن دون أن يطلب منهم أحد ذلك. ولكن
في تفاصيل تلك التجربة تولد ألف رسالة:
رسالة عن الصبر
رسالة عن الرجولة المبكرة
رسالة عن الوعي الوطني
رسالة عن أمّ تبكي خوفاً وأب يحتضن ابنه فخوراً رغم الألم
إن الأوطان لا تُبنى بالحجارة فقط، بل تُبنى بالقصص التي تُزرع في النفوس، وبالأوجاع التي تتحول إلى وعي، وبالمواقف الصغيرة التي تصنع رجالاً كباراً. •• واليوم، ونحن نعيش في عالم تتسارع فيه التحديات، علينا أن نمسك ببعضنا كما تمسك الناس بطابور السمن، أن نصبر كما صبروا،
وأن نحافظ على بعضنا كما حافظ الطفل على أخيه.
لأن مصر لم تقف يوماً على سلعة مفقودة ولا على أزمة عابرة ولا على ظروف اقتصادية مهما اشتدت.
مصر وقفت دائماً على قلب شعبها، وما دام في هذا الشعب رجال ونساء وأطفال قادرون على التحول إلى رجال قبل أوانهم، فإن مصر ستبقى بإذن الله واقفة، أبيّة، قوية، مرفوعة الرأس إلى يوم الدين.