د. أبوالفضل الإسناوي يكتب.. “أوراق القاهرة” والإنذار المبكر في شركات مياه الشرب

بينما كنت أفكر في موضوع العدد الثاني عشر من إصدار “أوراق القاهرة” (إحدى إصدارات مركز رع للدراسات الاستراتيجية، وهي سلسلة دراسات متخصصة تركز على تحليل السياسات التي تتبناها الدولة المصرية وتعكس نهجاً جديداً في التعامل مع القضايا التي تمس الحاضر والمستقبل، لاسيما السياسات المرتبطة بالتنمية ومكافحة الفقر والإصلاح في مجالات الاقتصاد والصحة والتعليم وتطوير المجتمع)،- كانت الساعة الثامنة مساءً، والمياه مقطوعة في محل إقامتي بالقاهرة الكبرى نتيجة حدوث كسر مفاجئ في ماسورة المياه الرئيسية بالمنطقة.
بطبيعة الحال، كان شغلي الشاغل هو موعد عودة المياه، خاصة أنني كنت مريضًا ولدي استشارة طبية قريبة. ومع انشغالي بموضوع العدد الجديد من “أوراق القاهرة” وتوقيت الطبيب المعالج والمياه المنقطعة، لم أتردد في اختيار موضوع العدد عن أداء الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي. تذكرت في تلك اللحظة أنه ليلة عيد الأضحى اتصل بي المهندس إسلام خالد، مساعد مدير المركز، طالبًا المساعدة بعدما انقطعت المياه عن قريته “الصوفية” بأولاد صقر بمحافظة الشرقية. وقتها أجريت اتصالًا متأخرًا بالمهندس ممدوح رسلان، رئيس الشركة القابضة، الذي استجاب فورًا وكلف الشركة المسؤولة بحل المشكلة، كما أوكل إلى مدير مكتبه الأستاذ أحمد رياض متابعة الموقف حتى الانتهاء من الإصلاح، وهو ما تحقق بالفعل، ولم يتوقف هاتفه عن المتابعة حتى انتهاء الأزمة، فكان موقفًا يستحق الشكر والتقدير.
إن الرسالة المقصودة هنا هي التأكيد على أهمية قطاع مياه الشرب باعتباره أحد القطاعات التي تستحق الدراسة الجادة من مركز رع للدراسات الاستراتيجية، وكذلك إبراز دور القيادة الناجحة التي تظهر في أوقات الأزمات. ومن موقعي كمدير أكاديمي للمركز، كان قراري أن يخصص هذا العدد من “أوراق القاهرة” لدراسة واقع ومستقبل قطاع مياه الشرب والصرف الصحي في مصر. وبالفعل جمعت ما يقارب كل ما كُتب من دراسات وأخبار معمقة عن هذا القطاع. لكن حتى تصبح الدراسة علمية وتطبيقية، كان لا بد من اختيار نموذج ميداني، فوقع الاختيار على شركة مياه الشرب والصرف الصحي بالأقصر كنموذج للدراسة.
إن الحديث عن قطاع حيوي مثل مياه الشرب والصرف الصحي يعني أننا أمام ملف يرتبط مباشرة بالحياة اليومية للمواطنين، ويعد مقياسًا مهمًا لكفاءة الجهاز التنفيذي للدولة. فالمياه ليست مجرد خدمة، بل هي حياة وجودة معيشة وأداة لبناء الثقة بين المواطن ومؤسساته. ومن هنا تأتي أهمية دراسة النموذج التطبيقي، الذي يمثل معيارًا لجدية الدراسة وحياديتها.
التحليل الأولي للمصادر التي اطلعت عليها حول الشركة القابضة والشركة في الأقصر، يشير إلى وجود استراتيجية محكمة وضعتها الشركة الأم برئاسة المهندس ممدوح رسلان، إلى جانب خطة متكاملة لتطوير الشركات التابعة. وهذه الرؤية لم تكن مجرد جداول أو أرقام، بل فلسفة إدارية تهدف إلى تطوير البنية التحتية والخدمات معًا. فقد ركزت الخطة على ثلاثة محاور أساسية: تحديث البنية التحتية ورفع كفاءة المحطات، تطوير الكوادر البشرية عبر التدريب، وتعزيز قنوات التواصل مع المواطنين لترسيخ ثقافة الحفاظ على الخدمة. ورغم أن هذه المحاور قد تبدو مألوفة، فإن نجاحها كان مرهونًا بقدرة القيادات المحلية على تكييفها مع خصوصية كل محافظة.
وهنا يأتي دور النموذج: شركة مياه الشرب بالأقصر، بقيادة اللواء محمد رمضان، رئيس الشركة. وبحسب التحليل، يمثل الرجل حالة خاصة من التفاعل بين الرؤية المركزية والتنفيذ المحلي. فالقادم من خلفية عسكرية يتميز بالانضباط وإدارة الأرقام والمعايير، لكنه في الوقت ذاته أظهر مرونة استثنائية في التعامل مع خصوصية الأقصر، فحوّل خطة رسلان من مجرد تعليمات إلى إطار مرن يسمح بالابتكار وصياغة حلول محلية.
ما يميز تجربة اللواء رمضان أنه لم يحصر عمله في تشغيل “المحطات” فقط، بل وسّع فلسفة الإدارة لتشمل “عقل المواطن”. أدرك أن نجاح أي مشروع لا يقاس بكمية المياه المنتَجة أو جودة المعالجة فحسب، بل بمدى اقتناع المواطن بدوره كشريك في المنظومة. لذلك أطلق مبادرات توعوية متعددة، وفتح قنوات للتواصل المباشر مع الأهالي، بل وصل إلى المدارس والجامعات لبناء وعي جديد بترشيد استهلاك المياه والحفاظ على البنية التحتية. وهكذا تحولت الشركة من جهاز خدمي مغلق إلى مؤسسة منفتحة على المجتمع.
ولأن التطوير لا يقوم على البنية فقط بل على البشر أيضًا، اتبع اللواء رمضان سياسة لإعادة ترتيب البيت الداخلي، مانحًا العاملين إحساسًا بالمسؤولية وفرصًا للتدريب والتطوير. وقد انعكس ذلك بوضوح على الأداء الميداني؛ فزائر محطات المياه بالأقصر اليوم يلحظ الانضباط وجودة العمل وروح الفريق التي غرسها في موظفيه. لقد أدرك أن الاستثمار الحقيقي يبدأ من الإنسان قبل الطلمبات والفلاتر.
إن تجربة الأقصر تقدم درسًا مهمًا في إدارة المرافق العامة: فالخطط المركزية، مهما كانت قوية، تحتاج إلى قائد ميداني قادر على تجسيدها بروح جديدة. المهندس ممدوح رسلان وضع الإطار الاستراتيجي، لكن اللواء محمد رمضان هو من أعاد تعريف التنفيذ على الأرض، بحيث لم يعد مجرد ترجمة حرفية للتعليمات، بل ممارسة قيادية خلاقة تحوّل التوجيهات إلى واقع ملموس.
ومن وجهة نظري، فإن اختيار شركة مياه الأقصر كنموذج للدراسة في إصدار “أوراق القاهرة” يمثل نجاحًا للإدارة المحلية، ويكشف أن التغيير ممكن حين يتكامل التخطيط مع التنفيذ، وحين تتحول القيادة من موقع إداري إلى موقع إبداعي. نجاح اللواء محمد رمضان لم يكن في إنجاز مشروعات فحسب، بل في تغيير ثقافة العمل وإعادة صياغة العلاقة بين المواطن وشركته، وبين العامل ومؤسسته.
ويُتوقع أن يكون العدد الثاني عشر من “أوراق القاهرة” واحدًا من أهم الأعداد، خاصة أنه يأتي ضمن مشروع “مصر المستقبل” الذي أطلقه المركز منذ يوليو 2022، وهو مشروع بحثي ممتد لدراسة السياسات العامة التي تتبناها الدولة المصرية في مجالات الاقتصاد والصحة والتعليم وتنمية المجتمع.
وبالتأكيد، لم يأتِ اختيار شركة مياه الأقصر كنموذج للدراسة المقرر نشرها في نهاية سبتمبر بعنوان “مستقبل أنظمة الإنذار المبكر في قطاع مياه الشرب بمصر.. شركة الأقصر نموذجًا” من فراغ، بل استند إلى أداء الشركة وما تنشره على صفحتها الرسمية خلال أغسطس الجاري. فقد تبنت الشركة فلسفة مختلفة تقوم على تطوير منظومة الرقابة على جودة الخدمات؛ فبدلًا من انتظار الأعطال أو الشكاوى، أدخلت آليات متابعة دقيقة ومستمرة جعلت الرقابة استباقية لا علاجية.
وعليه، سيصدر العدد الثاني عشر بدراسة محكمة عن واقع ومستقبل آلية الإنذار المبكر في معالجة مشكلات انقطاع المياه والتعامل معها بسرعة، وقد يفتح ذلك المجال لقياس أداء الشركة القابضة وفروعها بالمحافظات فيما يتعلق باستراتيجية توزيع محطات المياه والصرف الصحي بين القرى والنجوع.