كيف أدت الضربات الأمريكية إلى التفاف الشعب الإيراني حول النظام؟

لعلها من القلائل في تاريخ حكم نظام “ولاية الفقيه” الإيراني أن تحدث نقاط إلتقاء بين الشعب الإيراني والنظام الحاكم، الذي لطالما كان مستبداً تجاه معارضيه وبعض القوميات في الداخل، يتعامل بسياسة العصا بشكل مطلق، وكان من أبرز ما شهدناه من تأجج للأوضاع وتصاعد نبرة المعارضة في إيران منذ عام 2022 عقب مقتل الفتاة الشابة مهسا أميني على يد رجال الأمن بسبب قوانين الحجاب، التي أدت لخروج تظاهرات عارمة طالبت بإسقاط النظام، هذا إلى جانب الوضع الاقتصادي المتردي وارتفاع معدلات البطالة والتضخم وانهيار العملة، وهذا قليل من كثير من العوامل التي دفعت للمطالبة بإسقاط نظام الحكم أكثر من مرة. لكن مع المشهد الراهن في منطقة الشرق الأوسط وتصاعد حدة الهجمات بين طهران وتل أبيب والتي يمكن تسميتها الآن بأنها حرباً، عقب الهجوم الإسرائيلي السافر وغير المبرر علي الأراضي الإيرانية بحُجة تدمير منشآتها النووية، ثم دخول الولايات المتحدة الأمريكية علي الخط للوقوف بجانب الكيان الصهيوني وتوجيه ضربات شرسة للمفاعلات الإيرانية النووية الثلاثة (نطنز، فوردو، أصفهان) في 22 يوليو الجاري، كانت المفاجأة في تعالي الصحيات والدعوات الشعبية والنخبوية في الداخل الإيراني للوقوف خلف النظام في وجه الغطرسة والإجرام الصهيوأمريكي، والمطالبة برفض أي نوع من أنواع التفاوض أو السلم مع هذا العدو، والشروع التام في امتلاك “السلاح النووي”، والانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وكذلك إغلاق مضيق هرمز.

وإستنادا إلى ما سبق، يتناول هذا التحليل البعد النفسي حول انعكاسات الضربات الأمريكية التي وُجهت لإيران، علي العلاقة بين الشعب الإيراني ونظامه الحاكم، رغم الاستياء الشديد من هذا النظام، وهل هو دعم كلي أم ما زالت المعارضة تظهر بقوة؟

اتجاهات الداخل:

في سابقة غير معهودة بين النظام الحاكم والشعب الإيراني بما فيه من العديد من المعارضين، نجد نقاط تماس بينهما تظهر بشكل واضح عقب الضربات الأمريكية التي وُجهت للمنشآت النووية الإيرانية، وعلى الرغم مما أعلنه النظام بنقل اليورانيوم عالي التخصيب من هذه المنشآت وتوزيعه على كافة أنحاء البلاد وفي أماكن غير معلومة قبل الاستهداف، الإ أن المشهد برمته أجج مشاعر الغضب والسخط تحديداً تجاه واشنطن التي في نظر هذا الشعب، تمارس الإرهاب الدولي علانية دون رادع، وتضرب بكافة الأعراف القانونية والدبلوماسية عرض الحائط. فخرجت دعوات وتظاهرات في شوارع طهران وغير من المحافظات الإيرانية شملت حتي عدداً من معارضي النظام، في مشهد جديد علي مرأى ومسمع الخصوم وعلى عكس رغبتهم، وهذه الجموع طالبت بدعم النظام الحاكم في ردود أفعاله، وانسحابه من اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، والسعي لامتلاك السلاح النووي، وردع إسرائيل وكافة داعميها وحلفائها عبر إغلاق مضيق هرمز. وكان اللافت في هذه التظاهرات، هو تصاعد المطالب وكذلك حدة الخطاب داخل الأوساط النخبوية والقومية الإيرانية. ومع ذلك لا يمكن الجزم بتأييد شعبي كامل للنظام الإيراني، حيث أن هناك تظاهرات وإن كانت قليلة إلا أنها خرجت تطالب أيضاً بإسقاط النظام. ولكن يبدو أن الغالبية العظمى تميل إلي الدعم أكثر نظراً لشدة وصعوبة التهديدات هذه المرة، ولذلك طالبت الصحيات الداعمة بالمواجهة واتخاذ رد فعل قوي ضد واشنطن وتل أبيب.

وقبل الشروع في تحليل البعد النفسي لوقوف غالبية الشعب الإيراني بما فيهم جزءاً من المعارضين خلف هذا النظام، وأن هذا الدعم لا يأتي حباً في نظام ولاية الفقيه، وإنما تقف خلفه أسباب نفسية وعقائدية متعددة. سنقوم بداية بتقسيم فئات الشعب الإيراني الآن من موقفها من النظام الحاكم عقب هذا العدوان إلي فئات ثلاث وهي:

 (*)الفئة الداعمة: ترى أن الضربات الخارجية ورد الفعل القوي يبرران خطة النظام في الصمود والتأكيد على مشروعية فكرة “المقاومة” لاسيما ضد هذا العدوان، وهي الفئة التي تتأثر بشدة بالوضع الراهن وبالخطاب الإعلامي الرسمي الذي يرتكز على مفهوم السيادة، والكرامة، والوطنية، ومواجهة العدو. وتعتبر الهجوم دليلاً على نجاح المشروع النووي الإيراني في تهديد خصومه وإبراز مكانته إقليمياً ودولياً، لذا عليه أن يصمد في المواجهة.

الفئة المعارضة: تلقي باللوم على النظام، وتعتبره مسؤولاً عن إدخال البلاد في دوامة صراع إقليمي غير مرغوب فيه، بسبب السياسات العدائية جراء الطموح النووي الإيراني. وترى أن الضربات تكشف ضعف البنية الدفاعية وفشل الدولة في حماية شعبها وتستعيد بذلك مطالب التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي الجذري.

الفئة الصامتة: وهي التي تعاني من حالة نفسية مركبة من الخوف من الحرب والفوضى، والقلق من المستقبل، وفقدان الثقة في كافة الأطراف، لذا تميل إلى الصمت والانكفاء الذاتي محاولة النجاة بدلاً من اتخاذ موقف علني. وهذه الحالة تسمي علمياً ب “الجمود النفسي”، حيث أن هذه الفئة لا تدعم النظام ولكن لا تجرأ علي معارضته حالياً. وعادة تستفيد النظم الحاكمة من هذه الحالة والتي تعد ناجحة أمنياً ولكنها غير مستدامة سياسياً.

أسباب مُفسرة:

أما عن تحليل البعد النفسي للدعم الشعبي الإيراني في هذه الحرب فإنه يرجع إلى عدة أسباب، أبرزها ما يلي:

(&) غريزة الالتفاف حول القيادة ودعم الهوية: في ظل التهديد الخارجي بشكل عام لأي دولة واختراق سيادتها، يميل كثير من الشعوب – بما في ذلك الشعب الإيراني – كما هو الوضع الآن إلى الوقوف خلف القيادة كوسيلة نفسية لدعم الهوية الوطنية والدينية والشعور بالأمان ومقاومة العدو، وليس دعمه كنظام إداري وحاكم للبلاد. والنظام الإيراني هنا يوظف هذا الأثر من خلال شعارات عدة مثل “المؤامرة” و”العدوان” و”الصمود”.

(&) سيكولوجية العدو المشترك: نظام الولي الفقيه بنى جزءاً كبيراً من شرعيته على العداء للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فمنذ قيام الثورة الإسلامية في البلاد عام 1979، تُعرف واشنطن في الداخل الإيراني بأنها “الشيطان الأكبر”. وهذه الضربات الأخيرة تحديداً تدعم هذه السردية، ما يعزز مشاعر مواجهة العدو المشترك لدى قطاعات واسعة من الشعب ومن النخب، حتى لو كانت ناقمة على النظام الحاكم والأوضاع الداخلية.

(&) الخوف من الفوضى وفقدان البديل: كثير من الإيرانيين، لاسيما بعد تجارب الاحتجاجات السابقة، وكذلك الأوضاع الملتهبة المحيطة بهم، يخشون انهيار الدولة أكثر من بقاء النظام الحاكم. وهذا الخوف يكبح المعارضة ويخلق دعماً سلبياً للنظام (دعم قائم على رفض البديل أكثر من قبول الوضع الحالي). وفي الغالب سرعان ما يختفي هذا الدعم المؤقت بمجرد تحسن الأوضاع والبعد عن أية مصادر للتهديد.

(&) السياق التاريخي: الإيرانيون في الغالب وعبر التاريخ، يوحدهم التهديد الخارجي على المدى القصير، لكنهم ينقلبون على النظام لاحقاً إذا فشل في توفير الحماية أو تدهورت أوضاعهم الداخلية أكثر سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.

(&) الخطاب المقاوم: لقد زرع النظام الإيراني الحالي وعلى مدار ما يزيد عن أربعة عقود، هوية تقوم على فكرة “المقاومة”، وخطاب موجه ل”العداء للصهيونية”، و”الاستقلال ضد الإمبريالية”. كما أن أيديولوجية “ولاية الفقيه”، المعروف عنها أنها (لا تقوم على القتال من أجل السلطة فقط، بل تتحرك وفق أهداف عقائدية ذات طابع فدائي، يصعب معها قبول الهزيمة أو الخضوع). كما أن بعض الإيرانيين، حتى لو عارضوا الفساد والبطالة، يجدون أنفسهم جزءاً أساسياً من هذا الخطاب في لحظات التهديد التي تشمل البلاد بشكل عام.

ختاماً، فإن هذا النوع من الدعم في مثل هذه الأوقات في حياة الشعوب والأنظمة الحاكمة بشكل عام، عادة ما يظهر بقوة لاسيما إذا كانت هنالك أيديولوجية قوية تقف خلفه وتحركه، حتي في وجود معارضة له، وهو عادة أيضاً ما يمنع المعارضين من الظهور بقوة، لكنه لا يلغي الاستياء العميق الكامن ضد استبداد تلك الأنظمة.

سارة أمين

سارة أمين- باحث أول بالمركز في شئون الشرق الأوسط والأمن الإقليمي، ورئيس برنامج دراسات الخليج العربي. الباحثة حاصلة علي ماجستير في العلوم السياسية، شعبة العلاقات الدولية. وهي كاتبة في العديد من مراكز الفكر والدراسات العربية، ومتعاونة مع المؤسسات الدولية الحقوقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى