انعكاسات انتخاب باسيرو ديوماي على نفوذ فرنسا في غرب إفريقيا

محمد صلاح الدين-باحث مساعد في الشأن الإفريقي

يعتبر نجاح الرئيس الشاب باسيرو ديوماي فاي في الانتخابات السنغالية تطورًا مهمًا تغلب فيه السنغاليون على العراقيل التي شابت أجواء الانتخابات، دون تدخل أجنبي أو دعم خارجي أو الانزلاق إلى حرب أهلية أو انقلابات عسكرية، فقد أصبح السنغاليون بعد رحيل المستعمر الفرنسي من أشرس المدافعين عن رياح الحرية في قارة تعاني من العنف العرقي والسياسي وتعد ملاذًا لجميع أنواع الصراعات، وقدمت دكار نموذجًا فريدًا من زاوية إيجابية للغاية ومغايرة تمامًا للنموذج السائد في القارة.

تأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي ملامح التغيير في السنغال على ضوء تصريحات ومواقف الرئيس المنتخب وحكومته الجديدة، وانعكاسات ذلك على السنغال ومجمل منطقة غرب إفريقيا

ملامح التغيير في العهد الجديد

تشير تصريحات ومواقف الرئيس المنتخب وخلفياته السياسية والأيديولوجية إلى تحولات جوهرية في سياسة السنغال على المستويين الداخلي والخارجي، على النحو التالي:

(*) تفكيك الهيمنة الثقافية لفرنسا: يعتبر نجاح باسيرو فاي في الإنتخابات ضربة قاصمة لفرنسا، خسرت بها باريس صداقة دكار، ويرجع ذلك إلى أن من يقود السنغال سيتبنى أيديولوجية معادية لـ”الإمبريالية الغربية”، فقد كانت إحدى أهم النقاط والوعود الانتخابية في برنامج باسيرو فاي التي استجاب لها السنغاليون هي محاربة الهيمنة الثقافية الفرنسية، فقد وعد بمراجعة السياسة الثقافية وبمزيد من الانفتاح على اللغة الإنجليزية وتعزيز التعليم باللغة الإنجليزية في البلد التي لا تزال الفرنسية هي اللغة الرسمية فيها، وهو ما يعني الالتفاف على المصالح والنفوذ الفرنسي، سواء من الناحية الاقتصادية أو الثقافية. وقد أعلن فاي نفسه “مرشحًا لتغيير النظام” و”يساريًا إفريقيًا”، ويركز برنامجه الانتخابي على استعادة “سيادة” الدولة نظرًا لوقوع السنغال فريسة للدول الغربية لعقود طويلة.

(*) مواجهة النفوذ الاقتصادي الغربي: أعرب باسيرو عن إلغاء استخدام العملة الإفريقية “الفرنك”، التي ورثتها من الحكم الاستعماري، وأن السنغال ستعمل على إصدار عملة وطنية جديدة، قبل أن يسحب الرئيس المنتخب هذا الاقتراح  في دلالة على إدراكه أهمية السيادة النقدية على المستوى الإقليمي، وأعطى الأولوية لإصلاح العملة الإقليمية (الفرنك الإفريقي) التي تتقاسمها نحو 14 دولة في غرب ووسط إفريقيا. وقد يشجع هذا الأمر باسيرو على التفاوض مع دول غرب إفريقيا لإنشاء عملة مشتركة جديدة متحررة من الهيمنة الغربية.

ويريد الرئيس الجديد إعادة بناء الشراكات الدولية وإعادة ضبط العلاقات مع فرنسا، الشريك التجاري الرئيسي للسنغال وكان زعيم المعارضة ورئيس الوزراء الجديد عثمان سونكو قد أشار في وقت سابق إلى علاقة داكار مع بقية العالم في العهدالجديد على أنها “حقبة إعادة التوازن”، فالرئيس فاي من أنصار الوحدة الإفريقية ويريد تعزيز الحضور الدبلوماسي للسنغال على مستوى القارة وتعزيز التكامل الإقليمي داخل الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، مع تعزيز دور البرلمان الوطني والقضاء.

ولتحقيق التكامل  الإقليمي الحقيقي والاندماج الإفريقي، يروج الرئيس المنتخب لمبادرة إصلاح الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا من خلال تعزيز البرلمان والمحاكم التابعة للجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والحد من هيمنة رؤساء الدول والحكومات وسيشمل هذا التعاون تنظيم معارض على مستوى المدن وفعاليات اجتماعية وثقافية، والحفاظ عليها من خلال شراكات المدن الشقيقة بين مدن غرب إفريقيا.

وخلال حملته الانتخابية، أشار فاي صراحةً إلى فرنسا قائلاً إنه سيراجع عقود السنغال (والاتفاقيات التجارية والدفاعية) مع الدول الأخرى في مجالات التعدين والاستخراج والمواد الهيدروكربونية.

(*) تعزيز استقلال القضاء: يعتزم الرئيس المنتخب المضي قدمًا في تنفيذ إجراءات من شأنها تعزيز الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية وفي هذا السياق، سيكون هناك انتقال من المجلس الدستوري إلى نموذج المحكمة الدستورية في قمة التنظيم القضائي، وكجزء من حملة تعزيز هيئات المساءلة والرقابة، أعلن فاي أيضًا عن نيته إلغاء ما يسمى بالصناديق السياسية واستبدالها بصناديق خاصة يوافق عليها البرلمان للأنشطة الحساسة (مثل الأسلحة والمهام السرية) كما يعتزم أيضًا إصدار قانون لحماية الشهود وتشجيع الإبلاغ عن المخالفات، كما هو منصوص عليه في قانون الشفافية في الإدارة المالية.

دلالات وانعكاسات التغيير في السنغال

كان للانتخابات الرئاسية في السنغال العديد من الدلالات، فبعد سلسلة من الأحداث التي كادت أن تقضي على الديمقراطية الراسخة في هذا البلد الإفريقي، أكد نجاح إجراء انتخابات رئاسية نزيهة أن إرث الديمقراطية في السنغال ليس حدثًا شكليًا بل ممارسة راسخة، خاصة بعد إقرار الحزب الحاكم بالهزيمة وتجنّب الرئيس السابق ماكي سال الترشح لولاية ثالثة خلافًا لنص الدستور الذي يحظر الترشح لأكثر من ولايتين متتاليتين، لتكون أول انتخابات لا يشارك فيها الرئيس الحالي، لذا تشير نتائج الانتخابات الرئاسية إلى حدوث تغييرات كبيرة في المشهد السياسي في السنغال؛ أولها رغبة السنغاليين في إحداث تغيير سياسي واقتصادي، وتحسين صورة السنغال كمعقل للديمقراطية والاستقرار في غرب إفريقيا ونموذج يؤمن بالتحول الديمقراطي وتداول السلطة ومحددات السياسة بالوسائل السلمية، كما أن نجاح السنغال في تحييد المؤسسة العسكرية يجعلها فريدة من نوعها في التجربة الديمقراطية التي استمرت 63 عامًا من الحكم المدني.

وثانيها أن إفريقيا وتكتلاتها ليست خارج أجندة الرئيس السنغالي الجديد، فقد أعرب عن استعداده للعمل من أجل التغيير داخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، وتصحيح نقاط الضعف وتغيير بعض الأساليب والاستراتيجيات والأولويات السياسية، في الوقت الذي دعا الأفارقة إلى العمل معًا لتعزيز المكاسب وبالتالي، من المتوقع أن تصبح السنغال أحد أعمدة الديموقراطية في المنطقة الإقليمية التي اهتزت بسبب ثمانية انقلابات عسكرية منذ عام 2020 ومن الجدير بالذكر بأن كل ذلك سيكون له عدة انعكاسات في المستقبل، ففيما يتعلق بفرنسا قد  يكون لقرارات الرئيس باسيرو فاي  بالحد من الفرنسية  والتوسع في استخدام الإنجليزية   تأثير كبير على علاقته مع فرنسا، حيث من الممكن أن تتسبب هذه الخطوة في تدهور العلاقات الثنائية بين البلدين، كما قد تزيد من التوترات السياسية والدبلوماسية ، بالإضافة إلى احتمالية تبعات تلك القرارات على الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة، إذ لا شك بأن فرنسا ستستخدم كل أوراقها في ترسيخ مصالحها في السنغال وكل غرب إفريقيا سواء بالطرق السلمية أو غيرها، مما يجعل تسوية الخلافات بين البلدين تحديًا يتطلب جهودًا كبيرة من النخبة الحاكمة الجديدة.

وثالثها وعلى صعيد إصلاح ايكواس، فرغم الطموح الكبير للجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا لتحقيق التكامل الاقتصادي الإقليمي، إلا أن الاضطرابات السياسية والأمنية وكذلك النفوذ الأجنبي على منطقة غرب إفريقيا الغنية بالمواد الخام ومصادر الطاقة، قد أعاقت مسار التنمية في دول المنطقة، مما ترتب عليه خلق فرص تفضيلية لصالح القوي الأجنبية، لذا فإن طموح الرئيس باسيرو فاي بإصلاح المنظمة سينعكس بعدة تحديات على الدولة السنغالية سواء من الدول الأجنبية التي لها مصالح بالمنظمة أو الدول الإفريقية التي تهيمن على المنظمة بسبب قوتها الاقتصادية والسكانية.

وختامًا؛ يكمن نجاح التجربة السياسية السنغالية في أن هذا البلد الإفريقي أحاط نفسه بقيم الحرية والتحرر واحترام الخصوصيات الاجتماعية والتنوع لضمان نجاحها، وقد حرص روادها على تبني عوامل داخلية مواتية لبناء دولة مدنية ديمقراطية قائمة على المواطنة الكاملة لمختلف مكونات المجتمع السنغالي ولم يسعوا إلى خدمة مصالح أقليات بعينها. ونتيجة لذلك، تمكن الشعب السنغالي من التغلب على بعض الحواجز العرقية والعنصرية والتحديات التي لا تزال تعصف بالنسيج الاجتماعي للعديد من البلدان الإفريقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى