كيف تفتح جائزة نوبل للسلام فصول العنف؟

يجب على شعب فنزويلا أن يشعر بالقلق؛ فقد فازت ماريا كورينا ماتشادو، إحدى رموزه السياسية، بجائزة نوبل للسلام لعام 2025 — ليس تكريمًا لنضالها من أجل الديمقراطية والعدالة فحسب، بل لأن هذا الفوز قد يشعل فتيل مزيد من الصراعات داخل فنزويلا. فأينما حلّت هذه الجائزة، أو حاولت لجنة نوبل تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، اندلعت التوترات؛ فعقب فوز مارتن لوثر كينج بالجائزة عام 1964 تم اغتياله، وبدأت سنوات من المواجهات العنصرية. أما الناشط الحقوقي الأيرلندي شون ماكبرايد، الحاصل على الجائزة عام 1974، فلم تكن أسوأ صراعات بلاده قد بدأت بعد. وكذلك العالم النووي أندريه ساخاروف—الذي حوّله الغرب إلى رمز للحقوق والحريات—حصل على الجائزة عام 1975 بينما كان الاتحاد السوفيتي يصنفه «العدو الداخلي الأول»، لتبدأ بعدها سنوات من ملاحقات الكي جي بي للمجتمع المدني.

إن تحديد اللحظة المناسبة لمنح الجائزة أمر بالغ الأهمية؛ فقد يكون قرار اللجنة صائبًا يقود الأمم نحو الاستقرار، أو خاطئًا يزيد من اشتعال الأزمات. وهذه الأحكام السياسية المعقدة ليست من صميم اختصاص لجنة نوبل، خاصة في ظل معادلتها المحببة للديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام التي تواجه تحديات متزايدة بفعل الجغرافيا السياسية السائدة. وهنا تبرز المعضلة الأخلاقية: إلى أي مدى يمكن للجنة من موقعٍ آمن في أوسلو أن تُعرّض شعوبًا بأكملها لخطر صراع لا مفر منه بمجرد منح الجائزة؟

نوبل للسلام… بوابة للفوضى؟

بينما كانت ماتشادو تفوز بجائزة نوبل، كانت البحرية الأمريكية تحاصر فنزويلا وتتمركز قبالة سواحلها، وسط تهديدات الرئيس ترامب بالتدخل البري بحجة محاربة عصابات المخدرات. وتعطي كولومبيا درسًا مهمًا؛ فبعد فوز خوان مانويل سانتوس بالجائزة عام 2016 لإنهاء الحرب الأهلية، عادت حالة عدم الاستقرار بفعل عنف عصابات المخدرات والغضب الأمريكي، لتصبح الجائزة في نظر كثيرين «كأسًا مسمومة» جلبت سوء الحظ.

كما حصل الأمريكي رالف بانش على الجائزة عام 1950 لدوره في هدنة 1949 بين العرب والإسرائيليين، تلك الهدنة التي انتهت بتهجير 750 ألف فلسطيني، وبداية قضية ما تزال مفتوحة منذ ثمانين عامًا. وجاء فوز الرئيس أنور السادات بالجائزة مناصفةً مع مناحيم بيغن عام 1978 ليُفتح باب المقاطعة العربية لمصر لأكثر من عقد.

ولم يكن نصيب ياسر عرفات أفضل بعد فوزه مع إسحاق رابين عام 1994 عقب اتفاق أوسلو؛ فبعد اثنين وثلاثين عامًا لم يعد للاتفاق وجود على الخارطة السياسية، كما انقلبت الخريطة الفلسطينية نفسها.

أما الدالاي لاما، الفائز بالجائزة عام 1989 بسبب دعوته لجعل التبت منطقة سلام، فلم تُغيّر الجائزة من نظرة الصين له كقائد انفصالي، بل اعتبرت فوزه انتهاكًا لسيادتها واتهمته بمحاولة تخريب أولمبياد بكين 2008.

وفي عام 1973 منحت الجائزة لهنري كيسنجر والفيتنامي لو دوك ثو عن مفاوضات السلام في فيتنام. رفض لو دوك الجائزة لأن السلام لم يتحقق، ولأن الجائزة وضعت «المعتدي والضحية» في مرتبة واحدة — وهي المرة الوحيدة التي رُفضت فيها الجائزة — فيما استمرت الحرب وتصاعد قصف كمبوديا سرًا.

وتكرر المشهد مع رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، الذي فاز بالجائزة عام 2019 ثم شن بعدها حرب الإبادة ضد إقليم تجراي. وكذلك تحولت أونغ سان سو كي، الفائزة عام 1991، إلى مدافعة عن الديكتاتوريين العسكريين في ميانمار.

حتى المؤسسات لم تكن حظوظها أفضل؛ فقد فاز مكتب نانسن الدولي للاجئين عام 1938، لكن عصبة الأمم انهارت بعد عام واحد فقط مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. كما فازت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة عام 1988، لكنها فشلت في منع إبادة رواندا 1994 ومجزرة سربرنيتسا 1995، واتُهمت بسوء السلوك في الكونغو، وفشلت في حفظ الأمن في لبنان وغزة. ثم فازت الأمم المتحدة عام 2001 رغم عجزها الواضح عن إقرار السلام العالمي.

أمريكا ونوبل… علاقة ملتبسة

على مدار 120 عامًا، مُنحت الجائزة لـ140 شخصية ومنظمة، وتصدرت الولايات المتحدة القائمة بـ23 فائزًا. لكن هل جعل ذلك أمريكا أكثر دول العالم محبة للسلام؟

يصعب الاعتقاد بذلك، رغم فوز أربعة رؤساء أمريكيين — من ثيودور روزفلت عام 1906، إلى وودرو ويلسون عام 1919، إلى جيمي كارتر 2002، وصولًا إلى باراك أوباما عام 2009 الذي اعترف بأنه لم يكن يستحق الجائزة بعد تسعة أشهر فقط من دخوله البيت الأبيض.

ومنذ روزفلت حتى اليوم ارتكبت الولايات المتحدة حروبًا وجرائم كان من المفترض أن تمنع لجنة نوبل أي مواطن أمريكي من الترشح: من هيروشيما وناجازاكي، إلى فيتنام، إلى لبنان والصومال والعراق وأفغانستان. لكن بروتوكولات الجائزة تمنع سحبها ممن حصلوا عليها، حتى لو خانوا مبادئها لاحقًا.

ختامًا.. هل المشكلة في نوبل… أم في العالم؟

تنص وصية ألفريد نوبل على منح الجائزة لمن يحقق «أكبر أو أفضل عمل من أجل الأخوة بين الأمم، وتقليص الجيوش النظامية، وعقد مؤتمرات السلام». لكن العالم الذي نعيشه اليوم يبدو عكس ذلك تمامًا: توسع عسكري، سباق تسلح، واقتناع عالمي بأن «السلام لا يتحقق إلا بالقوة».

والمفارقة أن نوبل نفسه كوّن ثروته من مصانع المتفجرات والذخائر. هذا التناقض يضع لجنة نوبل في مأزق دائم: فهي تؤمن بأن تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان هو الطريق إلى السلام، بينما الواقع يثبت أن السلام عبر «اللاعنف» نادرًا ما يتحقق دون حرب عادلة أو صراع طويل.

ورغم ذلك، لا تكمن المشكلة في وصية نوبل بقدر ما تكمن في لجنة نوبل ذاتها: لجنة صغيرة منتخبة من برلمان دولة صغيرة وغنية كالنرويج، لكنها غير قادرة على إعادة النظر بعمق في فلسفة الجائزة ودورها في عالم يتغير بسرعة.

لذا فإن التعامل مع جائزة نوبل للسلام يتطلب قدرًا كبيرًا من الحذر. وربما أعظم ما تمنحه الجائزة — بمعزل عن الفائزين — هو أنها تذكّرنا كل عام بأن العالم يعيش بين تقلبات الحرب والسلام، وأن الطريق إلى السلام الحقيقي لا يزال طويلًا.

د. حسام البقيعي

رئيس وحدة دراسات العالم، الباحث حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى