لواء دكتور أحمد زغلول يكتب.. مصر خزائن الأرض وبوابة النهضة الجديدة

من دروس سنغافورة إلى مشروع الدولة العظمى

“ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين” – (قرآن كريم) “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها” — (حديث شريف)

،من ضفاف الأمل إلى فجر النهضة،

في لقاءٍ عميق جمع الفكر بالوطنية، كان الحوار مع رجل أعمال مصري أصيل ناجح تتوهّج في حديثه الوطنية وتُضيء في فكره الحكمة؛ رجلٌ مُلهمٌ، قدوةُ جيلٍ وأجيالٍ قادمة، رفض ذكر اسمه تواضعاً، لكنه أطلق شرارة فكرة عظيمة: أن مصر بما تملكه من مقدّرات مادية وبشرية وجغرافية وثقافية كان يمكن – بل يجب – أن تكون من أعظم دول العالم، حيث قالها بثقة: “مصر تملك من المقومات ما يجعلها أعظم من سنغافورة”.

فسنغافورة لم تملك سوى موقعها ومينائها، بينما مصر تملك الموقع والموارد والتاريخ والإنسان. ومن هنا تولدت هذه الدراسة الأكاديمية التي تجمع بين الرؤية الاقتصادية والتحليل الحضاري والفكر الاستراتيجي لتجيب عن سؤال محوري: كيف نبني مصر الحديثة؟ وكيف نحول مقدّراتها إلى قوةٍ عظمى تُعيد لها مكانتها كخزائن الأرض؟

هذه الدراسة فكرية أكاديمية مستقلة تهدف لدعم جهود الدولة المصرية في تحقيق التنمية المستدامة، ولا تمثل رأياً سياسياً أو رسمياً لأي جهة.

أولاً: الجغرافيا المصرية •• الموقع الذي يربط القارات:

مصر ليست مجرد وطن على الخريطة، بل جسرٌ بين الشرق والغرب، فهي تملك العديد من المقومات التي لن يمتلكها غيرها وهي:

١. قناة السويس التي يمر عبرها أكثر من 12% من تجارة العالم، وتُعدّ شرياناً عالمياً للنقل والتجارة.

٢. موقعاً متوسطاً يربط ثلاث قارات: آسيا وإفريقيا وأوروبا.

٣. مناخاً متنوعاً يجمع بين الصحراء والواحات والبحر والنهر، مما يجعلها مؤهلة للزراعة والطاقة والسياحة معاً.

وإذا كانت سنغافورة قد بنت نهضتها على ميناء واحد، كما كتب “لي كوان يو – مؤسس سنغافورة الحديثة” في مذكراته من العالم الثالث إلى الأول قائلاً: “حوّلنا موقعنا الجغرافي إلى قيمة اقتصادية لأننا لم نملك سواه”.

فمصر تملك قناة تربط العالم كله، فلماذا لا تتحول إلى مركز لوجستي وصناعي عالمي؟ بالطبع يمكن إقامة منطقة اقتصادية حرة تمتد على ضفتي القناة تجمع بين: التصنيع الموجّه للتصدير، والتكنولوجيا البحرية والذكاء الاصطناعي، والتعليم التطبيقي المرتبط بالنقل والخدمات اللوجستية. وبذلك تُبنى سنغافورة ثانية على أرض السويس بأيدٍ مصرية وفكرٍ عالمي.

ثانياً: سيناء •• الأرض المباركة ومختبر التنمية:

 قال الله تعالى: “وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغٍ للآكلين” (المؤمنون: 20). فسيناء ليست أرضاً مقدسة فحسب، بل كنزٌ طبيعي واستراتيجي؛ فيها أكثر من 3000 نوع من الأعشاب الطبية والعطرية، منها 350 نوعاً نادراً لا يوجد إلا في مصر وسيناء على وجه الخصوص، وتمتلك أراضي خصبة ومناخاً مميزاً للزراعة العضوية والطاقة الشمسية، إضافة إلى موقع عبقري بين البحرين الأحمر والمتوسط. ولذلك يمكن أن تكون سيناء مختبراً للتنمية المستدامة عبر ما يلي:

1- إنشاء مدينة أبحاث النباتات الطبية والعطرية بالتعاون مع الجامعات المصرية والعالمية.

2- إقامة مزارع ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي والريّ بالتنقيط والطاقة المتجددة.

3- تحويل الأعشاب إلى منتجات دوائية وتجميلية مصرية المنشأ.

وهكذا تتحول سيناء إلى مركز إقليمي لصناعة الدواء والعطور، موردٍ مستدام واقتصادٍ نظيف، بالإضافة إلى الثروة المحجرية التي تشتهر بها والرمل الزجاجي؛ لذا من الممكن إقامة مصنع للزجاج النقي.

ثالثاً: الكنوز المعدنية والطبيعية •• ذهب الجنوب وثروة الشمال:

في الجنوب، من الشلاتين إلى أسوان، تمتد جبال الذهب، وفي الغرب تُخفي الصحراء مناجم الفوسفات والرمال البيضاء والمعادن النادرة. وتقدّر بعض الدراسات (هيئة الثروة المعدنية 2023) أن احتياطي مصر من الذهب يتجاوز 250 طناً، بينما لم يُستغل سوى 10٪ منها حتى الآن، إضافة إلى:

١. رمال الزجاج في وادي النطرون والبحر الأحمر، وهي من أنقى أنواع الرمال في العالم.

٢. الملح البحري والمعدني الذي يمكن تصديره بآلاف الأطنان.

٣. الغاز الطبيعي والبترول في البحر المتوسط، الذي جعل مصر مركزاً إقليمياً للطاقة عبر منتدى غاز شرق المتوسط.

لكن غياب التخطيط الاستراتيجي جعل كثيراً من هذه الموارد تُستنزف دون قيمة مضافة. والحل هو إنشاء صندوق سيادي للموارد الطبيعية يشبه نموذج النرويج، يُدار بشفافية واحتراف لتمويل التنمية طويلة المدى.

رابعاً: الزراعة عمود البقاء وركيزة الاكتفاء:

مصر كانت عبر تاريخها “سلة قمح العالم”، واليوم، ومع تحديات التغير المناخي وندرة المياه، يمكنها أن تعود بقوة إلى الريادة الزراعية إذا استندت إلى الزراعة الذكية. تشير تقارير مركز البحوث الزراعية إلى أن مصر تملك أكثر من: 9 ملايين فدان مزروع فعلياً. وأيضا أكثر من 5 ملايين فدان قابل للاستصلاح في الصحراء الغربية وسيناء. وتُعدّ المشروعات الكبرى مثل الدلتا الجديدة وتوشكى والمستقبل الأخضر من اللبنات الأساسية في تحقيق الأمن الغذائي.

لكن الأهم هو أن تتحول الزراعة إلى اقتصاد معرفي عبر مراكز البحوث الزراعية وبرامج التعليم التقني وربط الفلاح بالعلم.

خامساً: الصناعة والطاقة طريق التحول الاقتصادي:

مصر تملك بنية تحتية صناعية ضخمة: من مصانع الحديد والصلب إلى الصناعات الدوائية، ومن السيارات إلى الإلكترونيات، لكن الصناعة لا تزال تواجه تحديات الإدارة والتكنولوجيا. فالحل يكمن في التحول إلى الصناعة التكنولوجية من خلال:

١.  التحول الرقمي في الإنتاج والتوزيع.

٢. دمج الذكاء الاصطناعي في المصانع.

٣. تشجيع التصنيع المحلي للمكوّنات التكنولوجية.

أما في مجال الطاقة فقد حققت مصر إنجازاً مهماً بتحولها إلى مركز إقليمي لتجارة الغاز والكهرباء، خاصة بعد اكتشاف حقل “ظُهر” وإنشاء محطات الطاقة الشمسية في “بنبان” بأسوان، أكبر مشروع للطاقة الشمسية في إفريقيا.

سادساً: العلم والابتكار مستقبل مصر الحقيقي:

قال الله تعالى: “يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات” (المجادلة: 11). إن أعظم ثروة تملكها مصر اليوم هي عقول أبنائها.

فمصر تضم مصر أكثر من 70 جامعة ومعهداً بحثياً، منها جامعات متقدمة إقليمياً مثل القاهرة وعين شمس والإسكندرية وبنها والمنصورة والجامعة الأمريكية.

كما أن العلماء المصريين في الخارج يُقدّر عددهم بأكثر من 100 ألف عالم وخبير في مختلف المجالات. من أبرز نماذج الابتكار المصرية، هم: العالم فاروق الباز في علوم الفضاء. والعالم أحمد زويل الحائز على نوبل في الفيزياء. ومئات المخترعين الشباب الذين حصدوا جوائز في مسابقات الذكاء الاصطناعي والروبوتات.

ويجب أن يتحول هذا الإبداع الفردي إلى نظام وطني للابتكار من خلال:

1- ربط الجامعات بالصناعة.

2- تمويل الأبحاث التطبيقية من القطاع الخاص.

3- إنشاء بنك وطني للابتكار والاختراع يحتضن أفكار الشباب ويحوّلها إلى شركات ناشئة. وعليه، يمكن القول بدون العلم والإبداع لا تُبنى الأمم.

سابعاً: السياحة والحضارة القوة الناعمة لمصر:

السياحة ليست فقط مصدر دخل، بل قوة ناعمة تصنع الصورة الذهنية للوطن. فمصر تملك ثلثي آثار العالم في الأقصر فقط، وأعظم متحف حضاري في الجيزة، وسواحل خلابة في الغردقة ومرسى علم وسيناء، وصحراء تمتد للجمال الأبدي.

لكن ما تحتاجه هو إدارة التجربة السياحية كما تفعل الدول الكبرى، بحيث تتحول الزيارة إلى رحلة معرفية وثقافية متكاملة. وهنا يبرز دور التحول الرقمي السياحي وإطلاق تطبيقات ذكية تربط التاريخ بالتقنية.

ثامناً: الإنسان المصري… البطل المنسي في معادلة التنمية:

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]. كرامة الإنسان تبدأ من التعليم والرعاية الصحية والعدالة. فمصر التي أنجبت العلماء والمبدعين والفنانين لا يمكن أن تنهض دون إعادة الاعتبار للعامل والمنتج والمبدع.

ويجب أن يكون الاستثمار في التعليم الفني والتقني أولوية، إلى جانب إصلاح الجهاز الإداري ليصبح قائماً على الكفاءة لا الولاء. وقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإحسان جوهر العمل، فقال: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء”.

تاسعاً: الدروس المستفادة من تجربة سنغافور:

عندما تسلّم لي كوان يو الحكم عام 1965 كانت سنغافورة أفقر من كثير من دول العالم الثالث، بلا موارد، حتى مياه الشرب كانت تستوردها من ماليزيا. لكنه آمن بأن الإنسان هو المورد الحقيقي، فأرسل 360 طالباً للدراسة في أرقى جامعات العالم، ثم عادوا ليقودوا نهضة بلادهم.

اعتمد على الانضباط والتعليم والإدارة النظيفة فصنع معجزة اقتصادية خلال أقل من 30 عاماً. ومن هنا فإن الدرس الأهم لمصر هو أن النهضة تبدأ بالآتي: الاستثمار في التعليم والإدارة. ومحاربة الفساد بالشفافية والمحاسبة. وتحديد هوية اقتصادية واضحة، كما فعلت سنغافورة مع الخدمات اللوجستية والتكنولوجيا.

عاشراً: التوصيات العلمية والاستراتيجية لبناء مصر الحديثة:

1- رؤية مصر 2050: وضع إستراتيجية وطنية موحدة تجمع بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية، مع متابعة سنوية للإنجازات.

2- مجلس أعلى للابتكار الوطني: يضم العلماء والمفكرين والمخترعين لتنسيق الأبحاث وتحويلها إلى تطبيقات صناعية وزراعية وطبية.

3- تحويل قناة السويس إلى واحة تكنولوجية: تشمل موانئ ذكية، وجامعات ومعاهد بحرية، وشركات لوجستية، ومناطق تصنيع للتصدير.

4- إصلاح التعليم والإدارة: بتبنّي نموذج “التعليم بالحياة” الذي يربط المدرسة بسوق العمل، والموظف بالإنتاجية.

5- تمكين سيناء والجنوب: من خلال خطة خمسية للتنمية الشاملة (الزراعة – التعدين – الطاقة – السياحة البيئية – السياحة العلاجية والاستشفائية – السياحة الشاطئية – سياحة المؤتمرات). تجدر الإشارة إلى أنه جاري إعداد الخطة، وسيتم عرضها من خلال مركز رع للدراسات الاستراتيجية في مؤتمر موسّع لعرض خطة النهضة.

6- إطلاق مشروع “العقول المصرية العالمية”: لاستعادة العلماء بالخارج للمشاركة في التنمية، وإتاحة الاستثمار في المعرفة داخل مصر.

7- تعزيز القوة الناعمة المصرية: عبر الثقافة والفن والتعليم والسياحة، لتكون مصر مصدر إلهام للعالم العربي وإفريقيا.

من الحلم إلى الحقيقة:

قال تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]. إن نهضة مصر ليست أمنية، بل واجب تاريخي. فقد منحها الله كل عناصر القوة: الموقع، والموارد، والتاريخ، والعقل. وكل ما تحتاجه هو الإدارة الرشيدة، والعقل المستنير، والإيمان بالقدرة الوطنية.

لقد كان رجل الأعمال الذي رفض ذكر اسمه صادقاً حين قال إن مصر يمكن أن تكون أعظم من سنغافورة؛ لأن سنغافورة بنت نهضتها على فكرة، بينما تستطيع مصر أن تبني نهضتها على فكرة وكنز وإنسان وتاريخ.

إنها مصر •• خزائن الأرض وبوابة النهضة الجديدة.

لواء أحمد زغلول

اللواء أحمد زغلول مهران، مساعد مدير المخابرات الحربية الأسبق، وعضو الهيئة الاستشارية العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية. كما أنه خبير متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى