منظومة إقليمية: هل تنجح عُمان في بناء جسر أمني بين الخليج وإيران؟

في إطار حوار المنامة الذي أُقيم بدولة البحرين بالتعاون مع المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية وبحضور كبار المسؤولين في قضايا الأمن والسياسة الدولية، أشار وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي، إلى ضرورة تعزيز التعاون مع إيران وإشراكها في منظومة الأمن الإقليمي الشامل بهدف ترسيخ الاستقرار والتعاون الإقليمي، باعتبار أن سياسة عزل الجانب الإيراني ليس حلًا فعالًا يمكن الاعتماد عليه في ظل وجود تحديات مشتركة كثيرة مثل أمن الملاحة والتغير المناخي والتهريب.
وبالنظر للسلوك الإقليمي لسلطنة عمان، نجد أنها دائمًا ما تحاول لعب دور الوسيط بهدف تهدئة الأوضاع وجعل المنطقة أكثر تماسكًا، كنتيجة لوجود مصالح إقليمية مشتركة تحاول الأخيرة الحفاظ عليها، وهو ما يتلاقى بدوره مع مبادرات مختلفة تستهدف تعزيز التماسك الإقليمي بين إيران ودول الخليج التي لا تزال تساورها الشكوك حول مدى مصداقية الجانب الإيراني.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي أبعاد الموقف العماني من العلاقات الخليجية الإيرانية ، وموقف القوى الخليجية الأخرى من الرؤية العُمانية لإدماج إيران في منظومة للأمن الإقليمي.
طبيعة الدور العُماني
تفضل سلطنة عمان ألا تكون طرفًا في أي أزمة قد تنشب في الإقليم، وبالتالي تسعى لتهدئة الأوضاع عبر جهود الوساطة سواء كان ذلك في نطاق دولي واسع، أو على مستوى الإقليم، وهو ما يمكن تفصيله في السطور التالية:
(*) طرف محايد: يمكن قراءة التوجه العُماني من خلال النظر في بعض المحددات ذات التأثير الكبير في سلوك الدولة مثل موقعها الجغرافي المُطل على مضيق هرمز شمالًا والذي تشترك في إدارته مع الجانب الإيراني، وبحر العرب جنوب شرقًا، والسعودية غربًا، والإمارات من الشمال الغربي، واليمن من الجنوب الغربي. ولذلك يمكن النظر لسلطنة عمان باعتبارها في قلب التوترات الإقليمية، ولا سيما إن كانت مرتبطة بالجانب الإيراني الذي يشاركها امتلاك ورقة مضيق هرمز بالغة الخطورة على مسار التجارة العالمية. إلى جانب ذلك، يُعد حجم الاقتصاد العماني الصغير نسبيًا إن قورن بدول الخليج الكبرى نتيجة لعدم وجود احتياطي نفط ضخم كما هو الحال بالمملكة العربية السعودية، باعتباره محدد آخر تسير من خلاله السياسة العمانية المُدركة لمدى خطورة انعكاسات أي توتر على اقتصادها الداخلي المحكوم برؤية 2040 الطامحة لتنويع اقتصاد الأخيرة في ظل سعيها لمنع أي أزمة اقتصادية قد تحدث نتيجة لاعتمادها على مصادر النفط فيما بعد.
وبالتالي يُعد الهدف العماني الأبرز هو خلق حالة من التناغم ورفع مستوى التوافق في ضوء سياسة الوساطة الهادئة المُعتمدة على عدم الانحياز لأي طرف وإنما تعزيز فرص التوافق بين مختلف الأطراف على الرغم من مختلف الأزمات والتوترات الإقليمية التي تُصعب من تلك المهمة.
(*) وسيط دولي: يُنظر إلى سلطنة عمان على المستويين الإقليمي والدولي باعتبارها دولة ساعية للمساهمة في تحجيم مختلف التوترات، من خلال الوساطة الدبلوماسية غير العلنية التي استخدمتها مسقط من قبل لتهدئة الأوضاع بين واشنطن وطهران، حيث تتمتع الأخيرة بصلات وثيقة مع القيادة العُمانية المُعتمدة على الحياد البراجماتي لتحقيق مصالح مواطنيها. ومن خلال النظر في سير الوصول لإطار الاتفاق النووي الشامل عام 2015، نجد أن سلطنة عمان كان لها دور بارز في تعزيز التواصل بين الطرفين في الأعوام السابقة، ولا سيما 2013 التي كُثفت فيه الجهود العُمانية، نتيجة لزيارة السلطان الراحل قابوس بن سعيد للأراضي الإيرانية لتعزيز التواصل بين البلدين مع تأكيد عمان سعيها نحو إيجاد حل مرضٍ لجميع الأطراف من خلال الوساطة الهادئة، إضافة إلى الدعوة لإجراء المفاوضات في الأراضي العمانية باعتبارها ذات علاقات وطيدة مع الجانبين.
ولم يتوقف الدور العُماني عند هذا الحد وإنما امتد على مدار الفترات المختلفة من خلال دعوتها الدائمة لتهدئة التوترات، واستعدادها للدخول كوسيط في مسار التفاوض، وهو ما أُعيد تفعيله من جديد في العام 2025، عندما استضافت الأخيرة الجانبين الأمريكي والإيراني على أراضيها في أبريل 2025، بمشاركة وزير الخارجية بدر البوسعيدي.
ومن ناحية أخرى، كان لسلطنة عمان دور بالغ التأثير كطرف وسيط محايد بين الجانب الإيراني والدول الأوروبية، والذي كان له أهمية بارزة في أوقات التوتر بين الجانبين، مثلما هو الحال بعملية تبادل المحتجزين بين إيران وبلجيكا في عام 2023، وكذلك بين إيران والسويد بعام 2024، مع وجود دور بارز لها في عمليات التفاوض المختلفة بين طهران وتلك الدول إلى جانب الولايات المتحدة سعيًا لتحقيق نوع من التفاهم حول القضايا الخلافية المرتبطة بمشروع إيران النووي.
(*) وسيط إقليمي: تمتعت سلطنة عُمان بدور شديد الأهمية بالنسبة لدول الخليج باعتبارها وسيط يعتمد على الحياد والتهدئة كمسار دائم لمواجهة مختلف التوترات، وهو ما مكنها من التوسط بمختلف الأزمات التي عصفت بمنطقة الخليج. بعد اندلاع الحرب الأهلية باليمن عام 2015، توجهت القيادة العُمانية نحو عدم الانحياز لأي من الطرفين مع الحفاظ على قنوات تواصل فعالة مع جميع الفصائل بما فيهم الحوثيين، إضافة إلى الاعتماد على محافظة ظفار الملاصقة للحدود اليمنية كممر رئيسي لإيصال المساعدات الإنسانية. ومن جانب آخر، تمكنت عمان من التعامل مع التوترات السعودية الإيرانية من خلال لعب دور الجسر بين الطرفين لتسهيل التواصل وتقريب وجهات النظر ضمن مسار دبلوماسي ممتد أثمر عن توقيع اتفاق سعودي إيراني لاستئناف العلاقات الدبلوماسية في العام 2023 بوساطة الصينية. ولم يتوقف دور مسقط عند حد حلحلة الخلافات وتهدئة التوترات بين الجانب الإيراني ودول الخليج، وإنما امتد أيضًا للسعي نحو حل الأزمة التي نشبت داخل البيت الخليجي نفسه في العام 2017، وأتى توقيع بيان العلا في العام 2021، لإنهاء ذلك الخلاف في ظل جهود دولة الكويت وعُمان لإعادة ترميم العلاقات الخليجية التي مرت بمنعطف غير مسبوق.
مبادرات مُقترحة
في ظل التوجس الدائم من القيادة الإيرانية على المستويين الإقليمي والدولي، ظهرت أكثر من مبادرة تستهدف تهدئة التوتر بين طهران ومختلف الأطراف، إلا أن النجاح لم يكن حليف أي منها، وهو ما سيتم إيضاحه في السطور التالية:
(-) اقتراحات متقاربة: أعلنت الجمهورية الإيرانية من خلال وزير خارجيتها الأسبق محمد جواد ظريف عام 2019، مبادرة تستهدف تحقيق الأمن والسلام بمنطقة الخليج وأُطلق عليها آنذاك “مبادرة هرمز” باعتبار الأخير عامل أساسي ومشترك لتلك الدول وفيه تجتمع مصالحهم المختلفة. ووفق وزارة الخارجية الإيرانية، تطلعت المبادرة لتحقيق 4 أهداف رئيسية وهي: عدم التدخل في الشئون الداخلية، عدم الاعتداء، الالتزام بأمن المنطقة والاحتكام إلى القانون الدولي. وعلى الرغم مما تحمله المبادرة من تأكيد إيراني واضح على الرغبة في إعادة تصور العلاقات بين الخليج وطهران، إلا أنها كانت بعيدة كل البعد عن إمكانية تطبيقها على أرض الواقع نتيجة للتباين الكبير بين الطرفين في ظل اختلاف الرؤى والتطلعات الإقليمية لكل جانب، لا سيما من الجانب الخليجي الغير راضي عن السلوك الإيراني الذي يُعد مهددًا لأمن واستقرار تلك المنطقة.
وفي ظل ارتفاع درجة التفاعل الدولي لما يجري في منطقة الخليج من توترات، كان للجانب الروسي دور بارز في الدعوة لمبادرة في شهر يوليو من نفس العام تحت شعار “مفهوم الأمن الجماعي في منطقة الخليج”، تستهدف إنشاء منظومة أمنية جماعية تشمل دول مجلس التعاون الخليجي إلى جانب إيران والعراق واليمن مع وجود رقابة من روسيا والصين وأمريكا والاتحاد الأوروبي والهند. واستندت تلك المبادرة إلى تحقيق أكثر من هدف وهي على الترتيب: احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شئونها، رفض استخدام القوة أو التهديد بها، ضمان حرية الملاحة في مضيق هرمز وبحر عمان، إنشاء منظمة للأمن والتعاون في الخليج على غرار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، الشروع في إجراءات تستهدف بناء الثقة بين جميع الأطراف، والدعوة لعقد مؤتمر دولي للأمن والتعاون في الخليج تمهيدًا لإطار دائم. وعلى الرغم من ذلك، لم تنجح أيضًا تلك المبادرة في ظل تعقد الأزمة الخليجية الإيرانية مع عدم تشجع الأطراف الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة للدخول كطرف فاعل في ظل توجسها من تزايد الدور الروسي أكثر مما كان عليه من قبل بتلك المنطقة في ظل علاقة الأخيرة الوثيقة بالإدارة الإيرانية.
(-) تخصيب مشترك: في إطار المفاوضات التي دائمًا ما تواجه العراقيل بين الجانبين الأمريكي والإيراني، اقترحت طهران في المفاوضات التي جرت في شهر مايو 2025، تشكيل تحالف نووي إقليمي يتضمن دول الخليج، مُستهدفًا تخصيب اليورانيوم بشكل مشترك في إطار متعدد الأطراف بهدف تأمين إمدادات الوقود النووي المدني مع تقييد مستوى التخصيب كي لا يزيد عن 3,67%. وعلى الرغم مما يبديه ذلك المقترح هو الآخر من مثالية قادرة على تقليل مساحة التوتر بين إيران من جانب، ودول الخليج والولايات المتحدة من جانب آخر، إلا أنه لا يبدو في الآفق أنه قد يتطور فيما بعد حتى يُنفذ كما هو مطروح حاليًا في ظل عدم اعتباره حلًا حقيقيًا للملف النووي الإيراني، وإنما مراوغة جديدة من القيادة الإيرانية تستهدف تخفيف العقوبات مع إعطائها مساحة أكبر تستطيع التحرك من خلالها لتخصيب اليورانيوم داخل أراضيها إلى جانب عملية التخصيب السلمي المشتركة بينها وبين دول الخليج، وهو ما لم يجد حيزًا على أرض الواقع نظرًا للرفض الأمريكي الحازم لأي عملية تخصيب داخل إيران.
تباينات خليجية
في واقع الأمر، لا يمكن النظر لرد الفعل الخليجي ضمن إطار واحد في ظل اختلاف رؤى كل طرف لمدى خطورة الجانب الإيراني، وكيفية التفاعل مع ذلك منعًا للعواقب غير الحميدة التي لن يقتصر تأثيرها على دولة دون غيرها من دول المنطقة. وبتفصيل الموقف الخليجي تجاه تلك الفكرة بناءًا على إدراك رؤية كل دولة لطبيعة السلوك الإيراني، نجد أن المملكة العربية السعودية تُعد أشد الدول رفضًا على الرغم من هدوء التوترات بين الطرفين في الفترة الأخيرة في ظل سعي طهران الدائم لإنجاح مشروعها الإقليمي الذي يستهدف زيادة نفوذها على حساب القوى الأخرى من خلال مختلف الأدوات، ولا سيما الفصائل المسلحة الشيعية التي تلقت ضربة غير مسبوقة في الفترة الأخيرة من الجانب الإسرائيلي.
وإلى جانب السعودية، تدرك دولة البحرين مدى خطورة طهران على وقع التدخلات الإيرانية بالداخل البحريني في 2011 والذي بدوره قد يؤدي إلى فرض حالة من التوتر نتيجة للمشروع الإيراني العابر للحدود.
وتدرك الإمارات أيضًا مدى خطورة “التهديد الإيراني”، إلا أنها ترى في ذلك فرصة إلى جانب اعتبارها أزمة تهدد أمن الخليج، والذي يمكن ملاحظته بشكل كبير بتتبع حجم التبادل التجاري بين البلدين، ولا سيما في العام 2024 الذي كانت فيه الإمارات واحدة من أكبر الشركاء التجاريين لـ”الجمهورية الإسلامية”، إلى جانب الخلافات الإقليمية التي تحجم من تفاعلاتها بشكل كبير.
وعلى الجانب الآخر، يمكن النظر لإطار تعامل كل من قطر والكويت وعُمان وفقًا لمحددات أخرى تميل في طابعها إلى درجة أقل من التخوفات، ورغبة أكبر في الاعتماد على الحوار في ظل عدم وجود حالة من تصادم المصالح بشكل يؤثر على إطار العلاقة بشكل كبير كما هو مثلًا الحال بين طهران والرياض. وفي ظل التوترات التي شابت العلاقات القطرية الخليجية، نجد أنها تميل نتيجة لذلك لدرجة أقل من العداء مع إيران، والذي حُفز أيضًا بوجود أكبر حقل غاز مشترك في العالم بين البلدين “حقل الشمال”.
وعلى وتيرة ليست مختلفة كثيرًا عن الجانب القطري، ترى الكويت أهمية الميل نحو التهدئة مع الجانب الإيراني وعدم اللجوء للتصعيد لما له من تداعيات إقليمية خطيرة، إضافة إلى أخرى داخلية عليها نتيجة لمحاولات طهران اختراق المكون الشيعي بالدولة. وأما الطرف الآخر، والذي يمكن اعتباره الوسيط الهادئ المحايد دائمًا، فهو عُمان التي دائمًا ما تفضل الوقوف على الحياد مع الدعوة لحلحة الأزمات اعتمادًا على الحوار بين كافة الأطراف.
وختامًا، لا يمكن النظر إلى الاقتراح العماني دون إدراك أنه سيكون بعيد المنال، إلا إن وُجدت آليات فعلية لتحقيق ذلك على عكس المبادرات السابقة التي كانت غير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، مع رفع مستوى التوافق داخل البيت الخليجي في ظل ما يواجه منطقة الشرق الأوسط من توترات. وبحدوث الطرحين السابق ذكرهم، قد نرى في المستقبل المنظور أن الاقتراح العماني قد يتحقق فيما بعد، والذي يُرى كتعبير دائم عن الواقع الدولي المتقلب في ظل التحالفات المغايرة على مدار الفترات المختلفة، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط التي تشوبها حالة من التوتر الشديد في ظل الانتهاك الإسرائيلي الغاشم لسيادة كثير من دول الإقليم دون وجود قوة ردع تحول دون ذلك.