عبدالفتاح الجبالي يكتب.. «بريتون وودز» جديدة

تأتى الإجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين المنعقدة حاليا فى واشنطن. بعد مرور ثمانين عاما على نشأتهما، وفى ظل ما يسود الإقتصاد العالمى من حالة عدم اليقين الشديدة بعد أن أخذت الأزمات تضرب كافة جنباته وامتدت بآثارها لتشمل معظم الأقطار، بدرجات متفاوتة بالتأكيد. ومن المفارقات أن هذه الأزمات تتعاقب مع أزمات عديدة، منذ جائحة كورونا وحتى الآن، وإزاء شراسة هذه التغييرات وفجائيتها ضاعت المقاييس وتراكمت الشكوك، وأصبحت البشرية على مسار جديد وهكذا يشهد الإقتصاد العالمى أزمات كبرى وتحولات مهمة تشير إلى أننا فى مرحلة جديدة تختلف تماما عما سبق.

إذ اعتمد النظام الإقتصادى الدولى الذى كان سائداً حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي، والذى اصطلح على تسميته «نظام بريتون وودز» على نظام سعر الصرف الثابت، الذى يرتكز على الدولار كقاعدة، أو كعملة أساسية، وذلك عن طريق تحديد سعر صرف كل عملة على أساس محتواها الذهبى مقارنة بمحتوى الدولار الذهبي، وطبقا لهذه القاعدة كانت أسعار الصرف ثابتة عند قيمة معينة بالنسبة للدولار، لا يجوز تغييرها، إلا فى أضيق الحدود وبعد موافقة صندوق النقد الدولي. وذلك لضمان تدفق التجارة الدولية دون اللجوء إلى ممارسات تمييزية تحاشيا للإجراءات التى كانت سائدة قبل تدشين هذا النظام، وخاصة خلال الفترة «29-1932» أى فترة الكساد الكبير، والتى أدت إلى اهتزاز الثقة فى التعاملات الدولية، واللجوء الى سياسة «إفقار الجار» عبر التخفيض التنافسى للعملات الوطنية، مع ما أثارته من ردود أفعال انتقامية من جانب البلدان الأخرى الشريكة فى التجارة والأسواق، مما أدى إلى اختلال العلاقة بين النقود وقيمة السلع، ثم بين العملات وبعضها البعض، وأدت هذه الظروف إلى إصابة الإقتصاد العالمى بالوهن والضعف، الأمر الذى تطلب العمل على الحيلولة دون تجدد هذه الأحداث من جديد.

وقد سار هذا النظام سيرا حسنا قرابة عشرين عاما، وهى فترة من النمو المتواصل فى الإقتصاد الدولى والتزايد السريع فى التجارة الدولية، وكانت مستويات العمالة فى البلدان الأعضاء مرتفعة، ومعدلات التضخم موحدة نسبياً. ولكن كان المصدر الرئيسى للسيولة الدولية هو العجز المتتالى فى ميزان مدفوعات الولايات المتحدة، وكانت البلدان ذات الفائض فى مدفوعاتها على استعداد لتجميع الدولارات، لأن الولايات المتحدة من جانبها كانت على استعداد لتحويل حيازات الدولارات إلى ذهب، مقابل ما كان يعد قيمة ثابتة للدولار، ولكن الظروف والتغيرات التى حدثت بعد ذلك أدت إلى فشل هذا النظام، خاصة مع تحركات رؤوس الأموال الدولية، والتطورات السريعة والمتلاحقة للبلدان الرأسمالية الغربية واليابان والصين والهند، مما افقد الإقتصاد الأمريكى قدرته التنافسية واحتدام الصراع التنافسى بين الأطراف الرئيسية فى النظام الدولي.

كل هذا أدى إلى انهيار النظام الإقتصادى القديم، حيث تركت الحرية للبلدان المختلفة فى تطبيق نظام الصرف الذى ترتئيه، وتم التخلى عن مبدأ التعادل الثابت للعملات، أصبحت البلاد حرة فى الإرتباط بأى نظام صرف يلائمها، وبالتالى انتهت الإلتزامات التى كانت مقررة فى اتفاقيات « بريتون ووذر».

ومع انهيار التجربة الإشتراكية فى أوروبا الشرقية، وتفكك هذه الدول إلى عدة دويلات صغيرة، وسقوط جدار برلين والإندماج بين شطرى الدولة الألمانية، وغيرها من العوامل، كل هذا أدى إلى تبدلات جذرية فى النظام العالمى ككل، وأدت إلى تحولات مهمة فى التوازن الإستراتيجى العالمي، الأمر الذى ترتب عليه تحديات اقتصادية جديدة. كما توسع دور المصارف الخاصة فى إيجاد السيولة الدولية التى انفكت أواصرها بنمو التجارة الدولية بحيث أصبحت الصفقات تتم خارج إطار رقابة البنوك المركزية، ولذلك تغيرت العلاقة بين تدفقات رؤوس الأموال وأسعار الصرف وحركة التجارة الدولية.

إذ إن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان يهدف إلى ضمان أن تكون أسعار الصرف مرآة تعكس القدرة التنافسية فى التجارة الدولية وضمان عدم حدوث تذبذبات فى الأسعار نتيجة لانتقال رؤوس الأموال بغرض المضاربة أو المنافسة، وهو ما تلاشى تماما، وتراخت الصلة بين النظام النقدى من جهة، والنظام التجارى من جهة أخري.الأمر الذى يشير إلى حقيقة واحدة وهى الإنفصال التام بين الاثنين، ويؤكد على فشل نظرية التجارة الدولية التقليدية والتى ترى فى حركة التجارة، المحرك الرئيسى لرأس المال الدولي. إذ أصبحت عملية السيولة تحدد أساسا وفقا لعمليات السوق الخاصة، التى لا تخضع لأى إشراف وتتعامل مع كافة أطراف الإقتصاد العالمي. ناهيك عن التغييرات فى الأهمية النسبية لعوامل الإنتاج، مما يعنى ابتعاداً عن المنتجات والعمليات ذات الكثافة فى اليد العاملة غير الماهرة، وفى المواد الأولية والطاقة، نحو منتجات وعمليات كثيفة المعرفة. وبالتالى انتقلت المنافسة من مجال ابتكار منتجات جديدة، كما كان عليه الحال فى القرنين الماضيين، إلى القدرة على الدخول فى عمليات تكنولوجية جديدة. ولذلك تضاعف نصيب السلع التكنولوجية المتطورة وحدها فى التجارة السلعية العالمية.

وفى الوقت ذاته انخفض نصيب المنتجات الأولية. وزادت مدفوعات الإتاوات وزادت عمليات الترخيص الدولية ومدفوعات حقوق الملكية على النطاق العالمى وهكذا أدت الثورة العلمية إلى تخفيضات كبيرة فى استخدام الموارد الطبيعية النادرة بالنسبة إلى وحدة الناتج المحلي. وغدت المعرفة أهم عامل يقرر مستوى المعيشة. وأصبح الإنفاق على البحث والتطوير هو النقطة الحاسمة فى الصراع الحالي. وأصبح الوضع مختلفا تماما فهناك لاعبون جدد، وقواعد تعمل على خلق شكل اقتصادى مختلف يتطلب إعادة النظر فى بريتون وودز.

نقلا عن جريدة الأهرام المصرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى