لواء أحمد زغلول يكتب.. الفن الذي علّمنا الانتماء

من عبدالحليم إلى محمد ثروت •• كيف غيّر “فن الزمن الجميل” وجدان الأمة؟…حين كانت الأغنية تنبض وطناً
في زمنٍ ليس بالبعيد، لم تكن الأغنية مجرد لحنٍ شجيّ، ولا المسلسل مجرد تسلية، ولا الفيلم مجرد حكاية تُروى، بل كانت الأعمال الفنية أداة توعية وسلاح مقاومة ومحرّك مشاعر ورسالة وطنية خالدة.
في زمن الفن الجميل تشكّل وجدان أجيالٍ على كلماتٍ وُلدت من رحم الوطن، وألحانٍ خُطّت بماء الإخلاص، وأصواتٍ صدحت لا لتُطرب فحسب، بل لتُعلّم وتُلهم وتُحرّك الوعي.
كان الفن بكل أشكاله مدرسةً وطنية تخرّج منها الملايين، لا تُعلّمهم الغناء فقط، بل الكرامة والانتماء والصدق والحب والبذل والشرف والتضحية.
الفن حين يُهذّب الذوق •• ويُعيد صياغة الوعي الجمعي
في كل مرحلةٍ من تاريخ مصر الحديث، لعب الفن دورًا مركزيًا في تشكيل المزاج العام، وتعديل الذوق الجمعي، وتثبيت الهوية الثقافية.
ليس غريبًا أن تخرج الجماهير بعد نكسة يونيو 1967 وتُردّد أغنية عبدالحليم حافظ:
“عدى النهار.. والمغربية جاية.. تتخفّى ورا ضهر الشجر”،
فتبكي، ثم تنهض.
وليس مستغربًا أن يكون صوت فنانٍ مثل محمد عبدالوهاب أو أم كلثوم محفورًا في ذاكرة جيلٍ كامل، لأنه ارتبط بالوطن لا بالمهرجانات أو المناسبات فقط.
لقد كان الفن في تلك الفترة سلطةً وجدانية موازية للسلطة السياسية، يُعيد تشكيل السلوك، ويُهذّب الذوق، ويوجه الجمهور نحو قيمٍ عليا:
حب الوطن
التضحية في سبيله
تقدير الأم والمعلم والجندي والمزارع
الاعتزاز بالهوية المصرية والعربية
الانحياز إلى الحق والخير والجمال
دراما ومسلسلات صنعت وعيًا لا يُنسى
من لا يتذكّر الاختيار الحقيقي في مسلسل مثل رأفت الهجان أو جمعة الشوان، أو الرسائل الاجتماعية الراقية في ليالي الحلمية والشهد والدموع؟
ومن لا يستعيد الدفء الوطني في مسلسل مثل أم كلثوم أو العندليب؟
تلك الأعمال لم تكن مجرد دراما، بل وثائق وجدانية ومعارك وعيٍ ناعمة ساهمت في بناء حصانةٍ فكرية ضد الانحدار الأخلاقي والانفصال المجتمعي.
محمد ثروت •• صوت من ذهب يُعيدنا إلى الأصل
وسط الضجيج والابتذال والزيف الذي اقتحم الساحة الفنية في العقود الأخيرة، يظل الفنان الكبير محمد ثروت أحد القلاع الحصينة التي لم تهتز، وأحد أصوات الزمن الجميل التي ما زالت تُقاوم الانحدار.
هو ليس مجرد مطربٍ ذي صوتٍ عذب، بل صوت وطنٍ وفنانٌ صاحب رسالة، ومُعلّم أجيال بأغانيه التي صنعت وجدانًا وطنيًا راسخًا في قلوب المصريين.
أغنياته الوطنية كانت مدارس انتماء متنقلة، ومنها:
“مصر يا أول نور في الدنيا”: التي تحوّلت إلى نشيدٍ وجداني ينفذ إلى القلب مباشرة.
“بلدي يا بلدي”
“الله على مصر”
“في حب مصر”
وغيرها من الأغاني التي غرس بها حب الوطن في أجيالٍ نشأت في أحلك الظروف.
وقد أثبت محمد ثروت في الاحتفالية الوطنية الكبرى الأخيرة بدار الأوبرا المصرية أنه ما زال قادرًا على إشعال مشاعر الجماهير، ليس بصوته فقط، بل بثباته على الخط الوطني ونقائه الفني وولائه لهذا الوطن العظيم.
إن تلك الاحتفالية لم تكن مجرد عرضٍ فني، بل رسالة صريحة مفادها:
أن الفن ما زال بخير ما دام يحمل في قلبه حب مصر.
ولا يمكن إغفال الدور التربوي والثقافي لمحمد ثروت، فهو من القلائل الذين لم يغنّوا للشارع بل غنّوا للإنسان المصري في أسمى تجلياته.
علّم الأطفال حب الوطن قبل أن يعرفوا معاني السياسة، وذكّر الكبار بقيمٍ كانوا على وشك نسيانها، وأعاد للفن وظيفته الحقيقية:
أن يسمو بالروح، لا أن يُغرقها في الضوضاء.
يستحق محمد ثروت أن يُكرّم على مستوى الدولة والمؤسسات الثقافية كرمزٍ للفن الأصيل، ومنارةٍ للأجيال الجديدة، وحارسٍ مخلص لذاكرة الطرب والوجدان.
عبدالحليم حافظ •• حين تغني الأمة بلسان فنان
لا يمكن الحديث عن الفن الوطني دون ذكر العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، الذي لم يكن فنانًا فقط، بل ظاهرةً وجدانيةً مصريةً خالصة.
أغنياته مثل:
“أحلف بسماها”
“عدى النهار”
“صورة”
“بالأحضان”
لم تكن مجرد ألحانٍ، بل تحفيز معارك، وصدى انتصارات، وعزاءً للمنكسرين، وتحفيزًا للمناضلين.
لقد مثّل عبدالحليم، كما يمثل محمد ثروت اليوم، صوتًا للشعب لا على الشعب؛ فالفن عنده ليس رقصًا على جراح الناس، بل تضميدٌ لها، وتحريضٌ على الأمل.
لماذا نطالب اليوم بعودة “فن الزمن الجميل”؟
لأن الفن اليوم في جانبٍ كبيرٍ منه صار منفصلًا عن القيم، مبتعدًا عن الرسالة، ومتصلاً بمنصاتٍ تفتقر إلى المعايير.
نحن لا نرفض الحداثة، لكننا نرفض الانحدار.
نريد فنًا:
يُعلّم لا يُسطّح
يُهذّب لا يُبتذل
يُبني لا يُهدم
يُشبه مصر العظيمة لا يسخر منها
يستلهم من محمد ثروت لا من ثقافة الاستسهال:
دعوة وطنية لبعث الفن من جديد
إن الأمم لا تنهض فقط بجيوشها ومصانعها، بل بثقافتها وفنها وموسيقاها وأغانيها ودرامتها.
ولذا فإننا ندعو بكل محبةٍ وصدق إلى:
1. دعم الفن النظيف الذي يخاطب الروح والعقل.
2. إعادة بث أعمال الزمن الجميل على المنصات والشاشات.
3. تمكين الأصوات الوطنية مثل محمد ثروت لتكون قدوةً لجيلٍ جديدٍ يتوق للانتماء.
4. وقف دعم الأعمال الهابطة التي تكرّس ثقافة العنف والابتذال والسطحية.
5. إطلاق مشروعٍ قومي لإحياء ذاكرة الفن المصري الوطني.
إن فن الزمن الجميل لم يكن مجرد ترفٍ، بل كان رافعةً وطنيةً حقيقية ساهمت في تثبيت دعائم الوعي والوحدة والانتماء والأخلاق.
ولعل صوت محمد ثروت في زمنٍ متخبّط، يظل شاهدًا على أن الفن يمكن أن يكون بوصلة أمةٍ، ومشعل ضوءٍ، وصرخةَ حبٍّ في قلب العتمة.