رصاص الغدر في وجه الأسرة .. والضابط صامد في خندقه

قصة حقيقية من قلب الوطن حين تصبح بيوت الشرفاء ساحاتٍ للمعركة
في زحام الأحداث الكبرى لا تُروى دائمًا الحكايات الصغيرة التي تحمل في طياتها المعنى الأعمق للبطولة، وتكشف أثمانًا لا تُحصى تُدفع في صمت، في لحظةٍ كان فيها الوطن بأسره يتقلب على صفيح ساخن، تراجعت الحياة الشخصية والراحة والأمان إلى الصفوف الخلفية، وبرزت مهمة واحدة: الدفاع عن هذا الوطن حتى النفس الأخير.
هذه قصة ضابط حمل السلاح لا من أجل منصب أو جاه، بل لأنه آمن أن هذا الوطن يستحق التضحية. لكنها لم تكن تضحياته وحده، بل كانت دماء أسرته وصحة والدته وطفولة بناته هي التي كُتبت على جدران البيت الذي تحوّل فجأة إلى ساحة استهداف.
كنتُ أدافع عن الوطن فاخترق الرصاص منزلي:
في 14 أغسطس 2013 تغيّرت حياة هذا الضابط إلى الأبد. في خضم فضّ اعتصام رابعة العدوية، بينما كانت البلاد تمرّ بأخطر مراحلها، وفي وقتٍ كان هو فيه في موقعه الأمني يتابع كل شبرٍ من أرض الوطن، تعرّض منزله الكائن بمنطقة قريبة من قسم شرطة حلوان لهجومٍ مسلح.
عناصر إرهابية استغلت الفوضى واختارت الانتقام من الضباط بطريقة جبانة باستهداف أسرهم. ومن منزلٍ مقابلٍ أطلقوا النيران صوب شقته، في استهدافٍ مباشرٍ ومخططٍ له، اعتقادًا منهم أن الضابط رب الأسرة كان متواجدًا بالداخل.
لم يكن موجودًا، لكن في الداخل كانت هناك أمانته الأغلى: بناته الصغيرات، ووالدته العجوز، وزوجته.
لعبة عفوية تحولت إلى خطة نجاة:
قبل الهجوم بساعات قليلة زار الضابط أسرته زيارةً خاطفة. الزمن لم يكن في صالحه، فالواجب يناديه دائمًا، لكنه أراد أن يمنحهم لحظة فرح، فطلب من بناته أن يلعب معهن، فاخترن لعبة غريبة لم تكن معتادة: الزحف على الأرض. اعترضت الزوجة خوفًا على نظافة الملابس، لكنه أصرّ، وضحك الجميع.
ما لم يعرفه أحد أن هذه اللحظة العابرة كانت تدريبًا سماويًا لموقفٍ مميت.
حين بدأ إطلاق النار تذكّرت البنات “اللعبة”، وزحفن على الأرض من أماكن نومهن واخترن الطريق الذي يقودهن إلى المطبخ، المكان الوحيد الآمن في الشقة، وكانت الزوجة بالمصادفة هناك.
لكن والدة الضابط التي كانت تزورهم لقضاء وقتٍ معهم، ولم تكن تقوى على الحركة وحدها، كانت في قلب منطقة الاستهداف. لم تستطع الهرب، ولم يكن لديها سوى الصدمة.
جلطة من الرعب ثم رحيل في صمت:
لم تكن الرصاصات هي وحدها القاتلة؛ كانت مشاهد الخوف، والصوت المدوي، والرعب الذي لم تعرفه هذه السيدة من قبل، سببًا في إصابتها بجلطة في المخ، فقدت جزءًا من وعيها وأصيبت بصدمة عصبية ظلت تلاحقها لعامين.
وفي 21 أكتوبر 2015 رحلت الأم، أغلى ما أملك في هذا الكون الفسيح. رحلت بصمت، لكن سبب الرحيل لم يكن المرض فقط، بل كان الإرهاب الذي اقتحم البيت وترك داخله ألمًا لا يُشفى.
النجاة بمساعدة جيرانٍ شرفاء:
حين تسربت الأخبار في العمارة التي أسكن فيها عن الاستهداف، لم يتأخر الجيران. مجموعة من الرجال الشرفاء خاطروا بأنفسهم وساعدوا في إخراج الأسرة من المنزل المحاصر بالنيران. لم يكن طريق الخروج آمنًا، لكن لم يكن هناك بديل. خرجت البنات والزوجة والأم المصابة من شقةٍ تحولت جدرانها إلى شاهدٍ على خيانةٍ لا تُغتفر.
حتى التكييف نطق بالرصاص:
بعد هدوء العاصفة بدأت محاولات الإصلاح. إحدى الشركات التي حضرت لإصلاح أجهزة التكييف – كانت شركة LG – اكتشفت عند فكّ الأجهزة وجود بقايا الرصاص بداخلها. تساءل الفنيون في دهشة: “من أطلق هذا؟”
وحين عرفوا القصة عرضوها على رئاستهم التي رفضت تمامًا تقاضي أي أجر، حيث قالوا: “أنتم كاد أن يُكتب عليكم الشهادة هنا. نحن فخورون بأن نكون جزءًا من إصلاح ما أفسده الإرهاب.”
هذا هو المعدن المصري الأصيل الذي يظهر وقت الأزمات. تحية تقدير واحترام لشرفاء الوطن.
من موقع القتال إلى عجز الأب أمام أطفاله:
الضابط الذي ظلّ واقفًا في موقعه يتابع المخططات ويحبطها، كان في تلك اللحظة يشعر بعجزٍ نادر؛ لم يكن قادرًا على حماية بناته في اللحظة التي احتاجوه فيها. كان وحيدًا في مكتبه، والرصاص يمزق أثاث بيته، وشقيقه لم يستطع الوصول بسبب الظروف الأمنية، حيث إن المنطقة كلها كانت تحت تهديد جماعةٍ إرهابية قررت أن تضرب كل ما يمثّل الدولة. ومع ذلك لم يهتزّ، لم يتراجع، لم يطلب نقلاً ولا حماية، وظلّ في موقعه شامخًا يُدير معركة الوطن وهو يعلم أن قلبه وبيته في خطر.
على هذا الطريق نمضي •• ولو بقلبٍ مجروح:
هذه القصة ليست استثناءً، لكنها واحدة من آلاف القصص التي لا تُروى؛ قصص رجالٍ دفعوا الثمن لا بأجسادهم فقط، بل بأسرهم وأمهاتهم وأطفالهم.
الضابط الذي لا يزال حتى هذه اللحظة في خدمته لم يطلب جزاءً ولا شكرًا، كل ما يطلبه هو أن يعرف المجتمع أن “الضابط ليس فقط من يقف على الكمائن”، بل هو من يضع رأسه على الوسادة وهو لا يعلم إن كانت زوجته وبناته بخير.
هو من يعيش الحياة دائمًا على حافة الخطر،
هو من يُستهدف لا لأنه ارتكب جرمًا، بل لأنه يدافع عن وطن.
هذه القصة رسالة للأجيال وللمجتمع، ولمن ينسى سريعًا، أن الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ليسوا رموزًا بلا مشاعر، بل آباء وأبناء وأزواج يتركون كل شيء في سبيل حماية وطنٍ لا بد أن يبقى.
وإلى كل إرهابيٍ ظنّ أن رصاصه سيكسر عزيمتنا، اعلم أن النار التي وجهتها إلى بيت الضابط لن تطفئها دموع البنات، بل ستحولها إلى عهدٍ جديدٍ من الإصرار على حماية هذا الوطن، حتى وإن دفعنا قلوبنا ثمنًا.
تحيا مصر بمن أحبها حتى التضحية والفداء.