“ترامب”.. رجل المستحيل

ياسين غلاب- كاتب مصري
قد يتهم ترامب بالجنون أو بالتناقض أو بعدم توقع ردود أفعاله، أو حتى باللامبالاة الشديدة للقانون الدولي؛ لكن ذلك لا ينفي أن هناك سردية متماسكة قد ترقى لتكون استراتيجية قائمة على أبعاد أيدولوجية، عرقية، سياسية واقتصادية؛ لها أهداف وعرابون وسيناريوهات وخطط محددة. هنا يلعب ترامب في هذه الاستراتيجية دور رجل المستحيل الذي يجعل كل تلك الأبعاد والأهداف ممكنة الحدوث. بيد أن هذه الاستراتيجية في رأيي الشخصي هي صفقة من نوع آخر بالنسبة لترامب: يدخل بها التاريخ من وجه، ويحقق داعموه ما يريدون من وجه آخر.
إنها استراتيجية المقامرة أو السلاح الأخير في جعبة الولايات المتحدة، فإما الاستمرار في الهيمنة لقرن كامل، أو هدم المعبد على الجميع، والانكفاء على الداخل. لهذا جيء بترامب من خارج كل المدارس الأمريكية في السياسة، فلا هو من مدرسة “ويلسون” التي تهدف إلى نشر النفوذ عبر القيم الأمريكية، ولا من مدرسة “هاملتن” التي تمنع أي دولة من منافسة أمريكا، ولا تتبع بالكامل مدرسة “اندروجاكسون” التي تستبدل بالحرب التجارة، بل هو يستفيد من الجميع بغلاف من مدرسة “الجنون” في السياسة، فلا سقف لتصريحاته ولا حساب لكلماته ولا قيمة لتعهداته ولا التزام بوعوده. ما يحافظ عليه ترامب الفظاظة والفجاجة مع الحلفاء والخصوم على السواء، يطلق النار في كل الاتجاهات ثم يجلس مع الجميع لكن على انفراد.
ترامب الرقم الصعب في الاستراتيجية:
هو الآمر الناهي وصاحب القرار في اختلافاته مع الجميع في الداخل؛ وهو الذي يمثل “الاستثنائية الأمريكية” في طرح الحلول في الملفات الدولية الساخنة.
أيدولوجيا، هو القائد المرجو حسب وصف “جاك هيبز” أحد كبار الإنجليين عقب اغتياله في يوليو الماضي؛ وهو بالنسبة للجماعات المسيحية الصهيونية المتطرفة المنضوية تحت ما يسمى بـ “The New Apostolic Reformation” القائد الذي سيقود “جيش الله” نحو النصر العظيم؛ وهو بالنسبة للوبي الإسرائيلي “مبعوث العناية” لإنقاذ تل أبيب وتأمينها.
عرقيًا هو ممثل الفئة البيضاء التي تعرضت لفقد وظائفها وتهميشها لصالح الملونين والزنوج و”الآخرين” وهو “رمز حركة الماجا” فهو ” الإنسان المختار من الله” كما وصف نفسه في حملته الانتخابية لإنقاذ أمريكا واستعادة أمجادها.
السلام بالقوة:
سياسيًا، يعود ترامب بالعالم إلى الوراء؛ إلى زمن الاستعمار البدائي الصريح؛ لا سيادة لدولة ولا محرمات سياسية في التعامل؛ كابوي جامح على حصانه يختار من يطلق عليه رصاصته؛ فقط ما يحكمه هو الاستفادة: ادفع لكي تمر.
يدخل على خط الحرب على غزة ويوقف إطلاق النار ثم ينكث وعده ويترك حرب الإبادة مستمرة ويدعو إلى تهجير الفلسطينيين؛ وفي حالة الهند وباكستان؛ قفز على وقف إطلاق النار ونسبه لنفسه لأن اشتعال الحرب سيؤذي مصالحه؛ يهين زيلينسكي على الشاشات ثم يعود ليلتقيه بعد الموافقة على مطالبه؛ يمعن في تحقير أوروبا وقادتها، ثم يعود ليعلن وحدته معها في قمة الناتو الأخيرة. الترغيب والترهيب؛ هو الأسلوب الأمثل في التعامل مع الجميع.
في حرب الـ 12 يومًا، كان ترامب منحازًا ومشاركًا لنتنياهو فيما عرف “بالخيانة الدبلوماسية”، وعندما أدرك إن إطالتها تهدد إسرائيل، سارع بإنهائها وهي أول حرب يعلن الجميع فيها انتصاره.
مع الصين وروسيا ومصر اختلف الأمر بعض الشيء؛ فالقادة الثلاثة تجنبوا لقاء ترامب وتعاملوا معه بسياسة الخطوة خطوة وبكل هدوء وصبر استراتيجي ودبلوماسية صارمة حازمة. الوحيد الذي لم يتطرق إليه ترامب سياسيا حتى الآن هو “كيم جونج”؛ زعيم كوريا الشمالية.
الرسوم الجمركية:
تبقى الرسوم الجمركية السلاح الأساسي في مقامرة ترامب كلها؛ لكنها في الواقع جزء من خطة كبرى تمر بعدة مراحل.
يشرح “يانيس فاروفاكيس في موقع Unherd الفكرة فيقول: ترامب رغم بساطته يدرك أن القوة الاقتصادية الفجة هي التي تجعله يفعل ما يريد بمن يريد، وكان يدرك مسألة قوة الدولار المهيمن ويراها عبئًا يثقل كاهل واشنطن رغم أنه يحقق لها سلطانًا لا يضاهى، كسلطان البوارج الحربية.
يذكر فاروفاكيس مقولة قديمة لترامب عندما كان يروج لكتابه فن الصفقة في برنامج لاري كينج وبرنامج أوبرا وينفري ” أمريكا أمة مدينة، ولا بد أن يحدث شيء يغير ذلك في السنوات المقبلة وأنه من المستحيل أن تخسر الولايات المتحدة 200 مليار دولار سنويا وتريد في نفس الوقت أن تبقى القوة الكبرى في العالم”. في لقاءه الإعلامي الأخير، هاجم ترامب رئيس الاحتياطي الفيدرالي بفجاجة مطالبا إياه بخفض الفائدة.
إن جوهر استراتيجية ترامب وفريقه هي أنهم لا يعترفون بوجود ما يسمى بالأسواق التنافسية حيث يكون المال عنصرًا محايدًا والأسعار تتحدد حسب توازن العرض والطلب؛ وأن ترامب “يؤمن” بأن العالم يستغل “الولايات المتحدة”، وأنه “لا بد من نظام عالمي جديد تستعيد فيه أمريكا “عظمتها” والأهم أن هناك خطة لذلك.
يرى ترامب كما يقول “فاروفاكيس”، أن الدول الأجنبية تستخدم الدولار القوي بطرق يضمن انحدار الولايات المتحدة في النهاية؛ فهذه الدول عبر بنوكها المركزية لا تسمح بهبوط الدولار إلى مستواه “الصحيح”، الذي يسمح بانتعاش الصادرات الأمريكية وتقليل وارداتها، وبالتالي فالسوق الأمريكية التي تمثل 29% تقريبا من الواردات العالمية؛ سلاح بوجه المنتجين.
وبالتالي فترامب يرى أن الولايات المتحدة بمثابة “المواطن الصالح” الذي يزود العالم بالدولار القوي فيما تتراجع الصناعة الأمريكية ويتألم عمالها وتنحدر طبقتها الوسطى البيضاء.
ورغم أن قوة الدولار هي ما يجعل أمريكا تتحمل هذا الدين المهول البالغ 36 تريليون دولار وهي ما يجعلها تمول هذا الجيش الذي ينتشر عبر العالم بأكمله؛ فهي ذاتها ما يجعل الولايات المتحدة تقوض نفسها بنفسها لرغبتها في استمرار الهيمنة والنفوذ. لكن ترامب يرى أن هذه الفائدة تصب في جيب فئة معينة من المجتمع الأمريكي على حساب من انتخبوه مرتين، والأهم أن استمرار هذا الوضع سيجعل الأجانب مضطرين عاجلا أم آجلا إلى بيع أصولهم المقومة بالدولار في الولايات المتحدة وغيرها والاحتماء بعملة أخرى أكثر أمانًا.
لذلك يحتاج ترامب إلى سلاح يسبب صدمة تشبه صدمة نيكسون، بحيث يحقق ترامب المستحيل؛ نظام عالمي جديد يدور حول دولار أرخص مع احتفاظه بمكانته كعملة احتياط عالمية. السلاح هو الرسوم الجمركية التي تؤدي إلى تأثير مزدوج: الأول تخفيض أسعار الاقتراض الأمريكي طويل المدى، بعبارة أخرى، فرض جزية على الدول الدائنة للولايات المتحدة، الثاني؛ توجيه صدمة للبنوك المركزية الأجنببية تجعلهم يخفضون أسعار الفائدة على عملات مثل اليورو والين واليوان، فتتلاشى الزيادة في أسعار السلع المستوردة ولا يتحمل المستهلك الأمريكي ارتفاعها.
المرحلة الثانية في هذه الخطة هي التأني والترقب حتى يشتد الأمر على الدول المفروض عليها الرسوم الجمركية فتسعى إلى الحوار والتفاوض مع الولايات المتحدة كما حدث ولا يزال يحدث.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة فهي المساومة الكبرى مع كل دولة على حدة، على سبيل المثال، بالنسبة لبعض الدول الآسيوية سيطلب ترامب منها بيع جزء من أصولها الدولارية قصيرة الأجل لترتفع عملاتها المحلية، بينما قد يطلب من الدول الأوربية استبدال سنداتها بسندات ذات مدد أطول، ونقل الصناعات الألمانية إلى الولايات المتحدة أو شراء مزيد من الأسلحة الأمريكية، والسلاح المستخدم هنا بجانب الرسوم الجمركية، التهديد بسحب المظلة الأمنية.
النجاح المستحيل:
إذا نجحت خطة ترامب؛ سيتحول العالم إلى معسكرين: معسكر يحتمي بالمظلة الأمنية الأمريكية لكن بثمن باهظ – عملة مرتفعة القيمة، خسارة المصانع وإجبار على شراء الصادرات الأمريكية وفي مقدمتها السلاح- ومعسكر رافض؛ يميل ناحية الصين وروسيا استراتيجيًا لكنه يظل مرتبطًا بتجارة محدودة مع الولايات المتحدة لكن مفروض عليها رسوم جمركية عالية تدر دخلا منتظما ينفقها ترامب كيف يشاء فلا سلطة للكونجرس على مثل هذه الأموال.
داخليا، وحتى مع نجاح هذه الخطة وبدأ العجز التجاري بالانكماش كما هو مخطط له، سيتدفق المال الأجنبي إلى الولايات المتحدة وسيجد ترامب نفسه مضطرًا إلى خيانة أحد الفريقين الذين أوصلوه للحكم: إما فريقه من رجال المال وسماسرة العقارات وعمالقة التكنولوجيا؛ أو الطبقة العاملة التي انتخبته مرتين.
خارجيًا، ستؤدي الرسوم الجمركية – وأدت بالفعل – إلى فتح خصومات متعددة ومستمرة، ينتج عنها، مفاجآت مثل أن تقوم الصين بتحويل “البريكس” إلى نظام “بريتون وودز جديد”؛ يكون فيها اليوان بديلا للدولار.