عبدالسلام فاروق يكتب: القيادة والرؤية.. ومشروع مصر الحضاري

تمر مصر اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها الحديث؛ لحظة تحول استثنائية تنتقل فيها من منطق “النجاة” إلى منطق “النهضة”، وتتحول من الدفاع عن الوجود إلى صناعة المستقبل. تجاوزت مصر مرحلة البحث عن مكان تحت الشمس إلى مرحلة السعي لتكون مصدرًا للإشعاع الحضاري نفسه.

هذه النهضة تتجسد في مشروع حضاري شامل يعيد تشكيل الإنسان والمجتمع والدولة في منظومة واحدة متماسكة. بعد عقود من دفع الأثمان الباهظة، تكتب مصر الآن فصلًا جديدًا من تاريخها، لتنهض بعقل متجدد ورؤية استراتيجية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتوازن بين الوعي بالتراث والانفتاح على المستقبل.

نسيج متكامل لا خيوط منفصلة:

تتبنى الرؤية المصرية نهجًا تكامليًا لا يفصل بين المشروعات العملاقة. فالمتحف المصري الكبير يمثل امتدادًا طبيعيًا لمبادرة “حياة كريمة”، ووساطات السلام الإقليمية تشكل جزءًا من استراتيجية بناء شبكة الطرق المتطورة. هذه الرؤية الموحدة تصوغ الإنجازات في إطار مشروع حضاري متكامل. إنها فلسفة تقوم على ربط الداخلي بالخارجي، والاجتماعي بالاقتصادي، والسياسي بالثقافي، والخاص بالعام.

أساس النهضة:

بيقين راسخ ، تقوم رؤية مصر الحضارية على مبدأ أساسي يؤكد أن جوهر النهضة لا يكمن في الخرسانة والطرق، وإنما في “العقل” المفكر المبتكر المؤمن بأن التنمية تبدأ من الداخل. أدركت القيادة المصرية أن شرط النهضة الأول هو تحرير العقل من قيود الخرافة والجمود، وأن طريقها الوحيد يمر عبر تبني منهج التفكير العلمي القائم على السؤال النقدي والفعل المنتج. تمثل هذه الرؤية ثورة في طرائق التفكير تسبق ثورة العمران؛ فالعقل المصري المعاد تشكيله يصبح أكثر قدرة على التحليل وأكثر استعدادًا للإبداع وأعمق إيمانًا بأن التقدم نتاج للتخطيط المحكم والتنظيم الدقيق والإرادة الصلبة.

حيث تشير المشروعات القومية العملاقة المنتشرة في أرجاء البلاد – من العاصمة الإدارية الجديدة وعلمين الجديدة إلى مبادرة “حياة كريمة” – إلى تحول جوهري يتجاوز مجرد التشييد إلى التحول الذهني. فالمتحف المصري الكبير ليس مبنى فخمًا فحسب، وإنما هو تجسيد لعقل جديد يدرك أن الثقافة استثمار استراتيجي، وأن الحضارة طاقة حية توظف لبناء المستقبل.

بالتأكيد تعبر هذه المشروعات عن عقلية جديدة تؤمن بالتراكم البناء والخطوات المتسقة، وتتبنى التخطيط القائم على قراءة الواقع. حولت هذه الرؤية السؤال الجوهري من “لماذا تخلفنا؟” إلى “كيف نتقدم؟”، محولة التركيز من التبرير إلى المبادرة.

كانت إشكالية العلاقة بين التراث والحداثة تمثل تحديًا كبيرًا للنهضة في العالم العربي. غير أن التجربة المصرية المعاصرة تقدم نموذجًا للتوازن الواعي. لا ترفض الحداثة باسم الحفاظ على التراث، ولا تهمل التراث باسم مواكبة العصر. وإنما تخلق حوارًا بناء بين الأصالة والمعاصرة.

من المتحف الكبير وقمم السلام إلى إحياء التراث وتمكين المرأة والشباب، يظهر هذا التكامل بين الهوية والعصر كسمة مميزة للنموذج المصري. إنها فلسفة لا تستورد نماذج جاهزة ولا تنسخ ماضيًا مثاليًا، وإنما تصنع نموذجها الخاص من صميم خصوصيتها الحضارية المتجذرة عبر آلاف السنين.

ففي القرن الحادي والعشرين، لم تعد القوة تقاس بالعدة العسكرية وحدها، وإنما بقدرة الدولة على تقديم رواية مقنعة عن ذاتها. تدرك مصر أن “الحضارة” تمثل أعظم أدوات النفوذ، وأن القوة الناعمة – المتمثلة في الفنون والتعليم والدبلوماسية الثقافية – أصبحت الجسر الأهم لعبورها إلى العالم. عندما نفتتح متحفًا عالميًا أو نستضيف قمة دولية، فإننا نعيد تحديد موقعنا في الخريطة الذهنية العالمية كدولة صانعة للأحداث ومركز إشعاع ثقافي. لذلك تستحضر مصر أمجادها القديمة كمصدر للقوة الرمزية والسياسية والاقتصادية، مقدمة نفسها للعامل كمنارة للسلام والاستقرار وحاضنة للتراث الإنساني.

تكامل بين الداخل والخارج:

تقوم النهضة المصرية على تفاعل عضوي خلاق متجانس بين الداخل والخارج. فالإصلاح الداخلي يمنح الدبلوماسية مصداقيتها، والنجاح الخارجي يهيئ البيئة الملائمة للاستثمار والتنمية. لذلك نرى أن الدولة المصرية لا تفصل بين سياستها الخارجية ومشروعاتها الداخلية. تمثل الدبلوماسية أداة للبناء الحضاري، ووساطة مصر في صراعات الإقليم تمثل استمرارًا لدورها التاريخي وتؤكد أن التنمية تتطلب السلام، وأن الدولة البانية للجسور داخليًا قادرة على بنائها بين الأمم.

المبادرة الكبرى:

بالطبع يمكن فهم فلسفة النهضة المصرية من خلال ثلاثة مبادئ أساسية: الأول تكامل الوسائل والأهداف: تدمج مصر الثقافة والاقتصاد والسياسة في رؤية موحدة. فالمتحف الكبير يمثل استثمارًا ثقافيًا واقتصاديًا وسياحيًا، والسلام يشكل شرطًا أساسيًا للتنمية، والتعليم يصنع العقول ويحرر الطاقات. والثاني الجمع بين الثوابت والمتغيرات: تحافظ مصر على ثوابتها الحضارية مع التعامل بمرونة مع متغيرات العصر. تثبت الجذور في التربة بينما تتجه الأغصان نحو مستقبل مشرق. أما المبدأ الثالث فهو التوازن بين الوطني والقومي والدولي: تخدم المشروعات المصرية الداخل وتعزز الدور الإقليمي والدولي. ترى مصر نفسها مركزًا حضاريًا يربط الشرق بالغرب، وتستعيد موقعها الطبيعي كقاطرة للعالم العربي وعمود استقرار في المنطقة.

وفي تقديري، إن جوهر النهضة الراهنة يتمركز حول الإنسان كغاية للتنمية. حيث أدركت القيادة أن البنية التحتية العملاقة تحتاج إلى بنية بشرية واعية. لذلك تركز على تطوير التعليم وتمكين الشباب وتحسين الريف والرعاية الصحية كأسس لبناء الإنسان المصري الجديد: الواثق بدولته، الفاعل في مجتمعه، المشارك في صنع مصيره.

ويمثل مشروع “حياة كريمة” إعادة توزيع للكرامة الإنسانية، وإقرارًا بأن النهضة الحقيقية تشمل الجميع. واجهت مصر عبر تاريخها تحدي أزمة الوعي، حيث شكلت الجهل واللامبالاة عقبات أمام أي إصلاح. لكن الوعي الجديد القائم على المشاركة يتحول إلى قوة دافعة للنهضة.

تعود الروح المصرية بأفضل صورها: روح النقد البناء، والعمل الجاد، والإيمان بأن الفكرة والطوبة يشكلان معًا أدوات النهضة.

لكن، يواجه الطريق تحديات جسامًا – من نمو سكاني وضغوط اقتصادية إلى تحولات مناخية وجيوسياسية. لكن هذه المرحلة تتميز بامتلاك مصر رؤية واضحة واستراتيجية محكمة وإرادة صلبة. انتقلت مصر من رد الفعل إلى الفعل، ومن انتظار الحلول إلى صناعتها.

كما تواجه مصر تحدياتها ومشكلاتها بعقلية علمية واقعية ورؤية فلسفية عميقة وإرادة سياسية تعتبر التنمية حقًا سياديًا. تمثل النهضة عملية مستمرة من المراجعة والبناء، وتدرك أنها لا تستورد من الخارج ولا تمنح كهدية، وإنما تصنع بالجهد والإيمان بالقدرة على التغيير.

حضارة متجددة:

في عالم مضطرب ، تقف مصر بثبات جديد، تجمع بين جذورها الحضارية وطموحاتها المستقبلية. تتحول من “ذاكرة حضارة” إلى “صانعة حضارة”، وتقدم هويتها للعالم بثقة. تمثل النهضة المصرية ضرورة وجودية ومسئولية تاريخية ورسالة ثقة للأجيال القادمة بأن هذا الوطن قادر على التجدد المستمر. وكما كانت في فجر التاريخ منارة للعلم والفن، تعود اليوم لتعلن أن الحضارة تتجدد عندما تقرر الأمم النهوض.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى