عبدالسلام فاروق يكتب: من شرم الشيخ إلي الجيزة.. استراتيجية مصر الجديدة

لا يسعني وأنا أتأمل هذه المشاهد الجليلة التي تشهدها مصر اليوم، إلا أن أستحضر رؤية تنموية شاملة تضع الثقافة في صلب الاستراتيجية الوطنية. ما يحدث في أرض الكنانة يتجاوز كونه حدثاً ثقافياً عابراً، إنه إعادة تأسيس للدور المصري في الخارطة الحضارية العالمية.
المتحف المصري الكبير يمثل ركيزة أساسية في مشروع تنموي طموح، يربط بين عراقة التاريخ وضرورات الاقتصاد. هذا الصرح العملاق ليس تكريماً للماضي فحسب، بل استثماراً في مستقبل الأجيال القادمة، حيث تلتقي السياحة بالثقافة، والاقتصاد بالهوية.
لقد أدركت الدولة المصرية أن التنمية الحقيقية هي التي تجمع بين بناء الإنسان وصون التراث. هذا المشروع الضخم يشكل نواة لاقتصاد معرفي جديد، قائم على الاستثمار في الرأسمال البشري والثروة الثقافية، في إطار رؤية متكاملة تضع الثقافة في خدمة التنمية المستدامة.
الحضور الدولي الكبير له دلالات عميقة، فهو يؤكد أن العالم بدأ يدرك قيمة النموذج التنموي المصري القائم على التوازن بين الأصالة والمعاصرة. إنه اعتراف بأن مصر تمتلك مقومات النهضة الشاملة، التي تجعل من تراثها الحضاري رافعةً للتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
إنني أرى في هذا المشروع تجسيداً لفكر تنموي متكامل، حيث يصبح التراث الثقافي محركاً للتنمية الاقتصادية، ومصدراً للإشعاع الحضاري، وأداة لتعزيز المكانة الدولية. إنها معادلة تنموية ناجحة تثبت أن الاستثمار في الثقافة هو استثمار في المستقبل.
فما تشهده مصر اليوم هو تأكيد على أن الطريق إلى التنمية المستدامة يمر عبر الحفاظ على الهوية الثقافية، واستثمار الطاقات البشرية، وبناء اقتصاد معرفي قادر على المنافسة العالمية. إنه نموذج تنموي يستلهم الحكمة من الماضي، ويواجه تحديات الحاضر، ويستشرف آفاق المستقبل.
وهكذا تظل مصر منارة للحضارة، وشاهداً على عظمة الإنسان عندما يجمع بين إرث الماضي وطموح المستقبل، في رؤية تنموية متكاملة تضع الثقافة في صلب عملية البناء الوطني.
الحق إن ما تشهده القاهرة اليوم هو أعظم عملية تسويق سياسي واقتصادي واستراتيجي تشهدها مصر في العصر الحديث. فمن ينظر إلى حفل افتتاح المتحف المصري الكبير على أنه مجرد “حفلة” فإنه يعيش في قصر النظر بعيداً عن رؤية الدولة المصرية العميقة. إن ما يحدث هو إعادة رسم لخريطة المكانة الدولية لمصر، وإعلان صريح للعالم بأن مصر عادت بقوة إلى المقدمة، ليس فقط بحضارتها القديمة، بل بإرادتها الحاضرة ومستقبلها الواعد.
كما أن الحضور غير المسبوق الذي نراه اليوم – تسعة وسبعون وفداً رسمياً بينهم تسعة وثلاثون وفداً برئاسة ملوك وأمراء ورؤساء دول وحكومات – ليس مصادفة. إنه إشارة واضحة بنهاية عزلتها الإقليمية والدولية التي فرضتها أحداث السنوات الماضية. هذا الحشد العالمي على أرض الجيزة هو اعتراف عملي بمكانة مصر واستعادتها لدورها المحوري كقاطرة للاستقرار والثقافة في المنطقة.
هذه الوفود لم تأت فقط لمشاهدة تمثال رمسيس الثاني أو كنوز توت عنخ آمون، بل جاءت لتوقيع اتفاقيات اقتصادية واستملاك رؤية مستقبلية تقودها القاهرة. إنه حشد للعلاقات الدولية في أبهى صورها، حيث يصافحك ملك بلجيكا في بهو المتحف، ويجلس بجوارك رئيس وزراء اليونان، وتبادل أطراف الحديث مع أمراء الإمارات والسعودية واليابان. هذه اللقاءات على هامش الحفل قيمتها تفوق قيمة الكثير من المؤتمرات الرسمية الجافة.
إن الدولة المصرية تضع قدماً في الماضي العريق والأخرى في المستقبل الاقتصادي الواعد. فالمتحف الكبير هو محور استثماري ضخم تبلغ تكلفته ملياراً ومئتي مليون دولار، لكنه في الحقيقة مفتاح لفتح صناديق الخزينة المصرية من خلال:
دفع قطاع السياحة إلى آفاق غير مسبوقة: فتتوقع الحكومة أن يستقطب المتحف خمسة ملايين زائر سنوياً. هذه الأعداد ليست أرقاماً وهمية، فخلال الفترة التجريبية وحده اجتذب المتحف ثمانمائة ألف سائح. وحسب تقديرات وكالة “فيتش”، فإن عائدات السياحة في مصر قد ترتفع إلى نحو تسعة عشر مليار دولار بحلول عام 2029.
خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة: فيستوعب قطاع السياحة وحده عشرة بالمئة من الأيدي العاملة المصرية. المتحف الجديد سيدعم هذه النسبة بشكل كبير، من خلال الوظائف داخل المتحف نفسه، والخدمات المساندة من فنادق ومطاعم ومواصلات وحرف يدوية.
تحفيز الاستثمار في البنية التحتية: فشبكة الطرق الجديدة، محطة المترو التي تحمل اسم “المتحف الكبير”، تطوير مطار سفنكس القريب، كلها مشاريع حيوية تدعم الاقتصاد الكلي وتوفر بيئة جاذبة للاستثمارات الأجنبية.
وفي لحظة تشهد فيها المنطقة توترات واضطرابات، تختار مصر أن تتحدث إلى العالم بلغة الحضارة والجمال. هذه هي القوة الناعمة في أصدق تجلياتها. فبينما تتصارع الأيديولوجيات وتتصاعد النزاعات في محيطنا الإقليمي، ترفع مصر راية الثقافة والتراث الإنساني المشترك.
هذا الحدث هو رسالة واضحة: مصر دولة تحافظ على التراث الإنساني العالمي، وتقدم نفسها كجسر للتواصل بين الشعوب، وليس كطرف في الصراعات. إنه إعادة تموضع ذكي للهوية المصرية في العقل الجمعي العالمي، من دولة تواجه التحديات الأمنية والاقتصادية، إلى حاضنة لأعظم مشروع ثقافي في القرن الحادي والعشرين.
بالتأكيد الاستثمار في المتحف المصري الكبير هو رهان استراتيجي على المستقبل. إنه مشروع لجيل جديد من السياح الثقافيين الذين يتميزون بارتفاع مستوى التعليم والدخل، مما يؤدي إلى زيادة الإنفاق خلال الزيارة وإطالة مدة الإقامة. كما أنه استثمار في الوعي المصري، بتأكيده على الاستمرارية الحضارية التي تربط بين عظمة الأجداد وطموحات الأحفاد.
رسالة مصر للعالم
بينما تدشن القاهرة المتحف المصري الكبير، أعظم مشروع ثقافي في القرن الحادي والعشرين، تتجلي ذكرى قمة شرم الشيخ للسلام التي عقدت قبل أسابيع قليلة لتؤكد على حقيقة استراتيجية واحدة: مصر تعود إلى المقعد الأمامي بقوة وحكمة وبرؤية شاملة. فما حدث في شرم الشيخ لم يكن مجرد اجتماع دبلوماسي لإنهاء حرب غزة، بل كان عرضاً عالمياً لأدوات القوة الناعمة المصرية، وهو نفس المنطق الذي تقف وراءه استراتيجية افتتاح المتحف المصري الكبير. إنها معادلة مصرية جديدة تجمع بين عمق التاريخ وضرورات السياسة، بين سلطة الحضارة وقوة الدبلوماسية.
فقد أثبتت القمة أن مصر هي “الفاعل المركزي” في معادلة السلام والحرب في الشرق الأوسط. نجحت الدبلوماسية المصرية في قيادة مسار وساطة معقد جمع بين الولايات المتحدة وقطر، مستفيدة من مزيج فريد من الشرعية التاريخية والمكانة الجغرافية. تبنت مصر ما يسمّى “استراتيجية الوساطة المركبة”، التي جمعت بين الضمانات الأمنية، والحوافز الاقتصادية، والرموز الدبلوماسية لبناء أرضية مشتركة بين الأطراف المتصارعة. هذا الدور لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتاج رؤية سياسية ثابتة للرئيس عبد الفتاح السيسي، تقوم على دعم الحقوق الفلسطينية واعتبار إنهاء الاحتلال أساس أي تسوية عادلة.
وفي مشهد ذي دلالة عميقة، منحت مصر “قلادة النيل” للرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال القمة. هذا التكريم كان رسالة سياسية بالغة الأهمية مفادها أن القاهرة لا تزال تمتلك أدوات التأثير الناعمة لتكريس “دبلوماسية الرموز” في مواجهة “سياسة القوة”. إنها إشارة ذكية إلى أن مصر، صاحبة أقدم حضارة، هي من يملك مفاتيح الشرعية والتكريم في المنطقة، وقادرة على مكافأة حلفائها وعزل خصومها بأساليب لا تمتلكها غيرها من الدول.
المؤكد أن السلام استثمار استراتيجي في الاستقرار والتنمية. ومصر أدركت هذه المعادلة جيداً. فنجاح القمة وترسيخ الهدنة في غزة يعنيان فتح الباب أمام مرحلة جديدة من الاستقرار الإقليمي، وهو البيئة المثلى لانتعاش الاقتصاد والسياحة. وفي هذا الإطار، تؤكد التقارير أن استضافة شرم الشيخ لمثل هذه المؤتمرات العالمية “تزيد حركة السياحة الوافدة” وتؤكد للعلم مدى “الجاهزية والأمن” اللذين تتمتع بهما المدينة. وهو انعكاس مباشر لصورة الاستقرار التي تروج لها مصر، وهي نفس الصورة التي سيعززها افتتاح المتحف المصري الكبير.
فقد جاءت القمة بمشاركة قادة أكثر من عشرين دولة، بينهم رؤساء دول عظمى، لترسل رسالة مفادها أن “العالم بات يدرك أن أمن غزة هو جزء من أمن العالم”، وأن مصر هي الشريك الأساسي في تحقيق هذا الاستقرار. هذا الحضور الدولي الكثيف، برئاسة مشتركة بين الرئيس السيسي ونظيره الأمريكي، هو اعتراف عملي بمكانة مصر واستعادتها لدورها المحوري الذي قد يغيب أحياناً لكنه لا يغيب أبداً. لقد نجحت مصر في تحويل أزمات المنطقة إلى فرص لتعزيز نفوذها وإعادة تشكيل التحالفات.
خيط استراتيجي واحد
الخيط الاستراتيجي الذي يربط بين قمة شرم الشيخ للسلام وافتتاح المتحف المصري الكبير هو “القوة الناعمة”. فكما استعادت مصر دورها السياسي عبر الوساطة المركبة في شرم الشيخ، فإنها تستعيد دورها الحضاري عبر بوابة المتحف المصري الكبير. كلاهما مشروع تسويق ضخم للدولة المصرية: الوساطة في السلام تثبت أن مصر هي حصن الاستقرار الإقليمي، أما المتحف المصري الكبير فيثبت أن مصر هي منارة الحضارة العالمية.
كلاهما يخاطب العالم بلغة تفهمها كل الدول: لغة المصالح المشتركة والتراث الإنساني. وكما أن القمة هدفت إلى “تحويل التعهدات إلى خطوات عملية”، فإن المتحف يحول التراث إلى قوة اقتصادية وسياسية ملموسة.
الرئيس السيسي لا يبني متاحف ولا ينظم مؤتمرات سلام من فراغ. إنه يضع لبنات مصر الجديدة، مصر التي تتحدث بلغتين: لغة السياسة الواقعية التي أوقفت حرباً طاحنة في غزة، ولغة الحضارة الخالدة التي ستُعرض للعالم في المتحف الكبير.
لقد أكدت قمة شرم الشيخ أن الدبلوماسية المصرية، عندما تمتلك الإرادة والرؤية، يمكنها أن تفرض منطق التهدئة على طاولة مشتعلة. واليوم، يذكرنا المتحف المصري الكبير بأن الحضارة المصرية، عندما تقدم للعالم بإتقان، يمكنها أن تسوق لصورة دولة بكاملها.
والدرس الأكبر هو أن مصر، بقدراتها الذاتية وإرادة قيادتها وشعبها، قادرة على صناعة مستقبلها بيدها، مستندة إلى ماضيها العريق، ومتوجهة نحو غدها الواعد بثقة واقتدار.
abdelsalamfarouk@yahoo.com