أوروبا والولايات المتحدة بين لحظة ديجول ومشروع سولاريوم

مع الجدل الذى يثيره الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بشأن سحب الالتزام الأمريكى تجاه أوروبا، يجد العديد من حلفاء الولايات المتحدة فى القارة أنفسهم غير متأكدين من إمكانية الاعتماد على واشنطن بعد الأن فى الدفاع أو انهم أصبحو بمفردهم،بدا كل ذلك مع قيام الرئيس ترامب بالاتصال بالرئيس الروسى فلاديمير بوتين وطرح مبادرات بشأن أوكرانيا دون اشراك أو تنسيق مع الأوربيين، فقد تأخر الأوربيون بشكل كبير فى تشكيل منظومة دفاعية أوروبية، واستعانوا إلى حد كبير بالولايات المتحدة الأمريكية للدفاع عنهم، فقد كانت الولايات المتحدة هى القوة الرئيسية فى حلف شمال الأطلسى،وعلى مدى عقود طويلة تحملت الجزء الأكبر والثمن الباهظ لتأمين أوروبا، تمثل ذلك فى نشر أعداد كبيرة من القوات والمعدات العسكرية فى القارة، إلى الوعد بتقديم المزيد من الدعم العسكرى والمكثف فى حالة وقوع هجوم، ولكن مع عودة الرئيس ترامب يبدو أن كل ذلك قد انتهى. فكيف وصلت العلاقات الأوروبية الأمريكية إلى اللحظة التى توقعها الجنرال ديجول منذ ما يقرب من ثمانين عاماً؟،وهل يمكن أن يقدم مشروع سولاريوم الذى أنشأه الرئيس أيزنهاور عام 1953 نموذجاً يمكن لأوروبا الاستفادة منه لتقرير مستقبلها فى اللحظة الراهنة؟ وكيف بدأت العلاقات عبر الأطلسى؟ ومتى بدأ تصدعها؟ ثم ما هى استراتيجيات مستقبل العلاقات بين ضفتى الأطلسى؟
كيف وصلت أوروبا للحظة ديجول الثلاثية:
كان ديجول يرى أن القوة هى محور العالم، مهد السيادة وحصن العروش ومحور الثورات، ونحن مدينون لها بالنظام والحرية، فالقوة هى التى تُرسى القانون للشعوب وتحكم مصيرها، من هذا الاعتقاد الذى يكاد أن يكون نبوئياً بأن أوروبا والغرب لا يتطابقان بالضرورة وأن الانفصال بين الولايات المتحد والغرب قد يحدث يوماً ما، وعلى الرغم من ذلك فلم يحمل الزعيم الفرنسى عدائاً مبدئياً تجاه الولايات المتحدة، فعلى الرغم أنه اختار فى عام 1966 سحب فرنسا من القيادة المتكاملة لحلف شمال الأطلسي إلا أنه أبقاها فى الحلف من خلال التفرقة بين التحالف الجيد والتكامل السيئ، وجاء ذلك بعد رفض الجنرال أيزنهاور لمقترحاته التى بعثها له فى مذكرة 17سبتمبر 1958،وبالإضافة إلى ذلك طلب المساعدة فى تطوير القوة الفرنسية، وأعتبر أن حلف شمال الأطلسى فى شكله الحالى لا يستطيع أن يوفر أمن العالم الحر وخاصة أمن فرنسا، واقترح تعزيز التحالف من خلال منظومة ثلاثية بين فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، واختار عدم الاعتماد على المظلة الأمريكية وحدها لضمان أمن أوروبا بشكل عام وفرنسا بشكل خاص، واستند فى ذلك على اعتبارات تاريخية وجغرافية، ويرى ديجول أنه لا وجود لكلمة دائماً فى العلاقات الدولية، وأن التاريخ الأمريكى عبارة عن موجات بين الانعزالية والتدخل، بعد فرض النقاط الأربع عشر وحق تقرير المصير، وانشاء عصبة الأمم رفضت الولايات المتحدة التصديق على معاهدة فرساى فى 1920،الأمر جعل عصبة الأمم منظمة عفا عليها الزمن، ولم ينس الزعيم الفرنسى الموقف المتردد من جانب بريطانيا خلال فترة الحربين العالميتين كما لم ينس محاولات فرنسا اليائسة لإلزام سلاح الجو الملكى فى معركة فرنسا التى خسرتها عام 1940،بعد أن فهم الأسباب العسكرية وراء الرفض البريطانى، حيث أدرك فى نهاية المطاف أنه عندما تكون المصالح الحيوية على المحك، فإن الأمة ومواردها الخاصة هى القادرة على التعامل مع الأمر، وأنه لا يمكن وضع فرنسا ومستقبلها فى لعبة البوكر القائمة على الثقة، وهذا الاعتقاد الذى دفع ديجول إلى اختيار قوة ردع نووية سيادية وقوة ضاربة فرنسية تحت السيطرة الوطنية، وأنها الضمانة الوحيدة لمصالح فرنسا الحيوية، ولم يذكر بعداً أوروبياً لها إلا عام 1964 وكان يخص ألمانيا، كما رَأى ديجول أن الدول لديها سياسات جغرافية أكثر من أيدولوجية، وقد أثار قلقه تغير العقيدة العسكرية الأمريكية عام 1961 من التدمير المتبادل بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة وهو شكل من اشكال الردع المتبادل بينهم بعد دخول الأسلحة النووية ساحة الحرب الباردة إلى الاستجابة التدريجية، وهو ما أزال اليقين لدى ديجول بأن الأمريكيين مستعدين للدفاع عن أوروبا بأى ثمن حتى مع خطر نهاية العالم، ورفض ديجول رفضاً مبدئياً اعتبار المواقف والتحالفات أمر مكتسباً، فكل شيئ يتغير وغير مؤكد، وتحدث فيما يشبه قراءة المستقبل بأن الولايات المتحدة قد تنفجر بسبب الإرهاب أو العنصرية أو أى شئ آخر، وتصبح تهديداً للسلام، وقد ينفجر الاتحاد السوفيتى لأن الشيوعية ستنهار، وبعد ما يزيد عن السبعين عاما من حديث ديجول يضطر المستشار الألمانى الحالى أن يصرح بأنه لم يكن ليصدق يوماً أنه سيضطر إلى قول هذا الكلام فى برنامج تليفزيونى لقد بات واضحاً أن الأمريكيين أو على الأقل الجزء منهم، تلك الحكومة لا يكترثون إلى حد كبير بمصير أوروبا “،فقد أدى قرار بوتين منذ 2014 وسلوك ترامب منذ إعادة انتخابه إلى ميلاد عالم جديد يشبه إلى حد كبير عالماً قديماً للغاية، عالم الاستخدام غير المُقَيد للقوة والذى له الأسبقية على القانون، تلك الحالة تعيد العالم إلى لحظة ديجولية بل يعنى على حد تعبير الجنرال أن كل شيئٍ مرتبط بالنسبة لفرنسا وأوروبا.
مشروع سولاريوم:
فى عام 1952 خلال الحملة الرئاسية سَخْر المرشح الجمهورى دوايت أيزنهاور بطل الحرب من سياسة الرئيس هارى ترومان الحكيمة وإن كانت حذرة، والممثلة فى إحتواء التوسع السوفيتى، وكان أيزنهاور قائد الحلفاء فى زمن الحرب وأول قائد لحلف شمال الأطلنطى لدية فكرة نهج صارم بتشجيع من مستشاريه، تجاه موسكو مفاده أن تزيل الولايات المتحدة الستار الحديدى السوفيتى، وتُحرر الشعوب المُسْتَعبدة فى أوروبا الشرقية، ومثلت تلك الفكرة مادة دسمة للحملة الانتخابية، لكنها كانت سياسة خطرة ومشكوك فيها، وبدأ البحث عن إجابة السؤال الرئيسى، ما هى السياسة التى تحفظ الأمن القومى الأمريكى؟ بعد فوزه فى الانتخابات، تصادف أن تولى الرئيس دوايت أيزنهاور الرئاسة عام 1953 مع انتهاء فترة حكم ستالين، التى استمرت 29عاماً بعد وفاته فى مارس من نفس العام، وادرك حاجة الولايات المتحدة إلى استراتيجية جديدة للتعامل مع الاتحاد السوفيتى بعد ستالين، وكان يؤمن بالصفات التوضحية للمناظرات، فأطلق مشروع سولاريوم، حيث أنشأ ثلاث فرق عمل لتحليل العلاقات الأمريكية السوفيتية، وكانت الأولى بقيادة المفكر الاستراتيجي جورج كنان وتقديم مناهج استراتيجية مختلفة من الاحتواء أو الردع وخيار أخر متشددا يعتمد على عدد أقل من الحلفاء وعلى التفوق النووى، وكان كل فريق يضم 21عضواً،بمن فيهم خبراء ودبلوماسيون وعسكريون، يعملون فى عزلة لمدة ستة أسابيع من العمل المكثف اليومى الذى الذى يتراوح بين 12ألى 14ساعة،وكان لكل فريق الحق فى الوصول الكامل لمعلومات الحكومة الأمريكية، وبعد انتهاء المدة المحدد استمع الرئيس أيزنهاور وأعضاء مجلس الأمن القومى إلى نتائج أعمال اللجان الثلاثة وعرض كل فريق استراتيجياته المقترحة، مع توضيح نقاط القوة والضعف، وانتهى المشروع إلى تفضيل سياسة الإحتواء للفريق الذى يقوده جورج كنان، وكان الأخرون الذين يمكن وصفهم بالواقعيين، ونتج عن هذا المشروع السياسة المناهضة للشيوعية التى اتبعتها الإدارات الأميركية المتعاقبة حتى انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991،
كيف بدأت العلاقات عبر الأطلسى؟
ومتى بدأ تصدعها؟: عقب الحرب العالمية الثانية تَشْكل التحالف عبر المحيط الأطلسى بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية فيما عُرف بالتحالف الغربى، وكان أهم ما يميز ذلك التحالف عما سبقه من الامبراطوريات الاستعمارية القديمة والكتلة السوفيتية السابقة هو استعداد الولايات المتحدة الأمريكية للاستثمار فى نظام قائم على الانحياز الطوعى، حيث لم تُجبر الدول على الخضوع للنظام الذى تقوده، بل احتفظت تلك الدول بحرية وضع نفسها تحت الحماية الأمريكية، وكانت واشنطن مستعدة لاشراك الأوربيين فى الحفاظ على نظام تهيمن عليه المصالح الغربية، ورغم أنه لم يكن هناك تكافؤ كانت الولايات المتحدة تأخذ مصالح الحلفاء فى الإعتبار، فلم يكن التحالف قائماً على الخضوع بل على التكامل، تعترف فيه كل دولة بقياد الولايات المتحدة، مع الاحتفاظ بقدرة على التعبير عن مخاوفها الخاصة، بالنسبة للولايات المتحدة كان هذا التعاون الطوعى مع دول أصغر وأضعف مصدر قوة، لم تعتمد الولايات المتحدة فى هيمنتها على النظام الغربى على القوة العسكرية والاقتصادية فحسب، بل استندت إلى جاذبية مجتمع ديمقراطى قائم على القيم، وتحالف يمنح الحلفاء الاحترام والتعبير عن أراءهم، وكان بناء مؤسسات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولى والبنك الدولى ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة العالمية وحلف شمال الأطلسى(الناتو) بعد الحرب العالمية الثانية إنجاز دبلوماسي من صنع القوة العظمى الأمريكية، حيث رأى السياسيون الأمريكيون أن الدول لا ترغب فى أن تكون تحت رحمة الأخرين بل عضو فى نظام عالمي قائم على القواعد، حتى لو كانت تلك القواعد تميل لصالح الأقوياء، حيث أصغر الدول فى النظام متعدد الأطراف لها صوت، من الممكن أن لا يكون له وزن كبير، ولكنها فى ذلك النظام قادرة على السعى لاسماع صوتها بالتعاون مع الأخرين، وغالباً ما انحرف الغرب عن هذه القيم، فقد تعاملت الدول الأوروبية بفظاظة مع سكان مستعمراتها فى حروب الاستقلال، كما ساندت الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة ديكتاتوريات لمواجهة الاتحاد السوفيتى، بدءاً من الاطاحة بمحمد مصدق فى إيران، وصولاً إلى سلفادور الليندى فى شيلى، ولم تكن حقبة ما بعد الحرب الباردة أفضل حالاً كما فى غزو أفغانستان 2001،والعراق 2003، وقد كان سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتى بداية ضعف التحالف عبر الأطلسى لاختفاء العدو المشترك والخطر الأكبر الذى كانت أوروبا والولايات المتحدة تواجهه، وبدأت الولايات المتحدة توجه اهتمامها نحو أسيا والصين على وجه التحديد، وانتقدت واشنطن المؤسسات الدولية التى عملت على انشائها مثل الأمم المتحدة واليونسكو ومنظمة التجارة العالمية وأوقفت تمويلها أكثر من مرة، كما رفضت التصديق على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، كما رفضت اختصاص محكمة العدل الدولية، ورفضت دعم برتوكول كيتو مما أدى إلى تأخر الجهود العالمية لمكافحة تغير المناخ ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً، وبدأ هذا التوجه فى عصر الرئيس باراك أوباما الذى بادر بانسحاب فعلى من أوروبا والمناطق المجاورة لها، فقد اختار عدم التدخل ضد بشار الأسد فى سوريا، وفرض ترامب فى ولايته الأولى رسوماً جمركية على الصادرات الأوروبية من الصلب والألومنيوم، وهدد بفرض رسوم على السيارات الأوروبية، واختلف مع الأوروبيين بشأن المساهمات فى حلف الناتو حيث طالب بزياد الإنفاق الأوروبي الدفاعى، مع تهديدات غير مباشرة ومتكررة بالانسحاب من الحلف كما ركز على المصالح الأمريكية على حساب التحالفات التقليدية، وانسحب من اتفاقية باريس للمناخ، والاتفاق النووى الإيراني رغم المعارضة الأوروبية الشديدة، كما كان مؤيداً للخروج البريطانى من الإتحاد الأوروبى، كما أعلن دعمه للعديد من الأحزاب اليمينية فى عدد من الدول الأوروبية، وفى عهد الرئيس بايدن كان الدعم القوى لأوكرانيا محاولة لتأكيد زعامة أمريكا للغرب فى القرن الحادى والعشرين، وأبطأ دعم إدارة بايدن القوى لأوكرانيا هذا الانسحاب مؤقتاً.
مستقبل التحالف الغربى عبر الأطلسى:
تواجه أوروبا الأن نقطة تحول ممثالة لتلك التى واجهها أيزنهاور عام 1953، وعليها اتخاذ قرارات جوهرية بشأن العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأن تتولى عمليةً للتفكير الاستراتيجى، لمجموعة صغيرة من الدول ذات التوجهات المتشابهة والواعية بالمهمة الجسيمة المطروحة فى تلك اللحظة، وتشكيل مجموعة تفكير استراتيجى مشابهه لمجموعة مشروع سيلاريوم الأمريكى، للإختيار من بين الخيارات المتاحة أمامها، مع العلم أن كل استراتيجية ترسم طريقاً مختلفا لكيفية استخدام أوروبا لمواردها الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية بشكل متماسك لتحقيق مصالحها الوطنية الأساسية وتشمل الاستراتيجيات الأتية:
(*) الاستراتيجية الأولى: وتعنى أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال هى الضامن الوحيد والموثوق للأمن الأوروبى، تحافظ هذه الاستراتيجية على الوضع الراهن، لكنه يتطلب من أوروبا اتخاذ إجراءات ملموسة وجادة لمعالجة الفجوة المتزايدة بينها وبين الولايات المتحدة، والحفاظ على فاعلية الضمانات الأمنية الأمريكية الأوروبية، واهتمام الحكومات الأمريكية المتعاقبة بأوروبا، ويجب على أوروبا تلبية الشروط الأمريكية من زيادة الإنفاق الدفاعى الأوروبى واعادة تنظيم العلاقات مع الصين بما يتماشى مع الرؤية الأمريكية للصين، مع تحمل تكلفة باهظة حيث الصين أكبر مصدر للواردات بالنسبة للإتحاد الأوروبى وثانى أكبر سوق لصادراته ويبلغ حجم التبادل التجارى بين الصين والاتحاد الأوروبى مليار يورو يومياً بين عامى 2000و2019، ومع افتراض تأييد أوروبا بالإجماع تجديد التحالف مع أمريكيا، وتَحمل تكاليفه الباهظة لا يفترض الاعتقاد بأن الولايات المتحدة سوف تفكر بنفس الطريقة، حيث تشهد التطورات الداخلية تقلبات متزايدة فى السياسة الداخلية والخارجية والأمنية تجاة أوروبا، ومن المرجح أن يؤدى الاستقطاب السياسى الأمريكى إلى تحولات متكررة ودراماتيكية فى السياسة، وفى ظل المشهد الحالى بعد عودة الرئيس دوانالد ترامب إلى البيت الأبيض، تكون استراتيجية تجديد التحالف عبر الأطلسى محفوفة بالمخاطر، وتاجيل أخر للحظة ديجول.
(*) الاستراتيجة الثانية: يُعد الاستقلال الأوروبى الخيار الثانى الذى تواجهه أوروبا، والذى يعنى موقفاً أقل اعتماداً على الولايات المتحدة، ويستند فى منطقه إلى المناقشات الأخيرة فى دوائر السياسة الأوروبية وإلى إدراج هذا المصطلح فى الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي لعام2016،وتتطلب هذه الاستراتيجية أن تستثمر أوروبا فى قدراتها الدفاعية الخاصة، ولتحقيق ذلك ستحتاج أوروبا إلى اعادة هيكلية جذرية لصناعاتها العسكرية، والتخلص تدريجيا من المنصات الأمريكية الحالية واستبدالها بأخرى أوروبية، كما تشمل هذه الاستراتيجية تطوير سلاح نووى أوروبى، وأن تعمل أوروبا كوحدة سياسية واحدة متماسكة سياسياً ويمكن تحقيق ذلك من خلال تكامل سياسى واقتصادى وعسكرى أعمق للاتحاد الأوروبى (مع تصويت الأغلبية المؤهلة فى قضايا الأمن والدفاع)، أو من خلال تعاون مجموعة أساسية من الدول الأوروبية القوية فى قلبها فرنسا وألمانيا، وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجة تبدو مرهقة ومكلفة فإن لها العديد من الفوائد أهمها تحقيق المصالح الأوروبية الخاصة فى كافة المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها من المجالات، كما يمكن لأوروبا ان تنأى بنفسها عن المعارك والصراعات الأمريكية فى منطقة المحيطين الهادى والهندى والشرق الأوسط، أما فى مجال المشتريات العسكرية فستصبح أوروبا أكثر حرية واستقلالية فى اختيار شركائها دون الخضوع لأى جهة، وفى الوقت نفسة تواجه هذه الاستراتيجية العديد من التحديات، أهمها كيفية بناء وحدة سياسية تتمكن من اتخاذ قرارات أوروبية مشتركة مع انخفاض شعبية الاتحاد الأوروبى، وهو ما ظهر بشكل واضح بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وما أحدثته من انقسام داخل الاتحاد بين دول أوروبية ترى فى روسيا تهديداً وجوديا لأمنها ،ودول أخرى تراها خطراً لكن ليس وجودياً.
(*) الاستراتيجية الثالثة: وتتمثل تلك الاستراتيجية فى سعى أوروبا إلى تحيق شكل من أشكال المشاركة العسكرية العالمية المحدود، وسعى أوروبا إلى حل المشكلات الأمنية بالوسائل السلمية لا العسكرية، وفى أحيان تحاول أوروبا تجاوز بعض التهديدات الأمنية بشكل كامل من خلال اتخاذ موقف محايد فى مسرح صراع محدد، ولكن فى حالة روسيا فإن هذه الاستراتيجية من شأنها أن تدفع أوروبا إلى الدفاع عن نفسها بقوة ردع نووية، ويتم تطبيق هذه الاستراتيجية حالياً فى دول البلطيق نظراً لافتقاد أوروبا القدرات اللازمة لشن هجوم مضاد فقد ركزت على منع روسيا من التوغل فى أوروبا إلى أبعد من دول البلطيق، بعبارة أخرى سوف تحتاج أوروبا للتخلى عن دول البلطيق وبذل أقصى الجهود لحماية والدفاع عن بولندا، وهو ما قد يشمل استخدام الاسلحة النووية، ونظراً لخطورة هذه الاستراتيجية فإن أوروبا سوف تبذل قصارى جهودها لمنع أي هجوم ومحاولة حل أى توتر مع روسيا من خلال الترتيبات الدبلوماسية والمؤسسية بما فى ذلك التسويات الإقليمية، وعلى الرغم من أن الحرب الروسية الأوكرانية قد تسببت فى اهتزازٍ للنزعة السلْمية الأوروبية ولكنها لم تغير اتجاهها بشكل جذرى، ومن المرجح أن ينظر الأوربيون الأن الى روسيا باعتبارها تهديداً خطيراً أكثر بكثير من قبل الحرب، كما لا يعتقد معظم الأوروبيين أنه ينبغى لبلادهم أن تتورط فى الحرب الباردة بين الصين وأمريكا حتى داخل البلاد الأكثر انحيازاً إلى الجانب الأمريكي مثل بولندا والدنمارك قبل مطالبة ترامب بجزيرة جرين لاند.
ختاماً، فى ظل الواقع الجديد يجب على أوروبا كسر حصارها الجيوسياسى بإقامة تحالفات مع دول الجنوب العالمى البرازيل وجنوب أفريقيا والهند وإندونيسيا لمواجهة الضغوط المتنافسة من الولايات المتحدة الأمريكية فى عصر ترامب ومحور شى-بوتين، مما قد يساعد اوروبا على تجنب العزلة والحفاظ على نظام متعدد الأقطاب قائم على القواعد، وترتبط أوروبا مع العديد من دول الجنوب العالمى بعلاقات راسخة وبعود ذلك فى المقام الأول إلى التاريخ الاستعماري، ومع ذلك تشوه هذه العلاقات ندوباً من ذلك الماضى، كما يتضح ذلك من الأحداث الأخيرة فى منطقة الساحل الأفريقى، والخلاف مع الجزائر بعد ما يزيد عن ستين عاماً من نهاية الاستعمار، حيث ينبغى على الاتحاد الأوروبى وليس القوى الاستعمارية قيادة جهوداً لبناء شراكة جديدة مع دول الجنوب، ويتطلب ذلك نهاية كراهية الأجانب داخل أوروبا، والتخلى عن وهم أوروبا الحصينة التى تحافظ على التجانس العرقى، والتعامل مع أمريكا اللاتينية والمغرب العربى وأفريقيا جنوب الصحراء كشركاء متساويين، مما ينقذ أوروبا من من استراتيجية اليمن والذى جاءت على لسان أحد زعماء اليمين فى أوروبا فيكتور أوربان الذى لم يعد حصان طروادة لبوتين فى أوروبا فحسب بل أصبح أيضاً حصان ترامب عند تحدث فى مؤتمر العمل السياسى المحافظ الذى عقد نهاية الشهر الماضى فى بودابست عاصمة المجر، وحضره زعماء الأحزاب اليمينية فى أوروبا وأمريكا اللاتينية عن ضرورة تحرير بروكسيل كما تم تحرير واشنطن فى اشارة إلى فوز الرئيس ترامب بالانتخابات الرئيسية، عن طريق مساندة ضرورة مساندة الأحزاب اليمينية فى الانتخابات القادمة فى أوروبا لهزيمة التقديمين وأنصار العولمة والدولة اللبرالية العميقة فى أوروبا وأمريكا مما يؤكد وجود سيناريو رابع لمستقبل العلاقات بين أوروبا وأمريكا يتمثل فى تحرير بروكسيل كما تم تحرير واشنطن، وانتصار أحزاب اليمين فى أوروبا، فى تماهى لافت لأفكار الرئيس ترامب ونائبه دى فانس والمفاجأة التماهى مع أفكار الرئيس الروسى فلاديمير بوتين.