احتواء مربح: تقييم سياسات دمج الاقتصاد غير الرسمي في مصر

حبيبة صلاح-باحثة مساعدة

لعب القطاع غير الرسمي دورًا محوريًا في الاقتصاد المصري، خاصة خلال فترة تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي ذات الطابع التقشفي في الفترة ما بين 1991 و1997، وكذلك في أعقاب ثورة يناير 2011. ويُعزى هذا الدور المتنامي إلى محدودية قدرة القطاعين العام والخاص الرسميين على استيعاب الأعداد المتزايدة من الداخلين الجدد إلى سوق العمل.

يُعرف الاقتصاد غير الرسمي بأنه كافة الأنشطة الاقتصادية المولدة للدخل التي لا تدخل ضمن حسابات الناتج المحلي إما لتعمد إخفائها تهربًا من الالتزامات القانونية المرتبطة بالكشف عن هذه الأنشطة، وإما لكونها بحكم طبيعتها تعد من الأنشطة المخالفة للنظام القانوني السائد في البلاد[1].

مؤشرات القطاع غير الرسمي في الاقتصاد المصري

بحسب دراسة لمنظمة العمل الدولية بعنوان “القطاع غير المنظّم والتحول الهيكلي في مصر والعراق والأردن”[2] شهدت مساهمة العمالة في الاقتصاد غير الرسمي بمصر نموًا ملحوظًا خلال العقد الماضي، حيث ارتفعت من 55.9% في عام 2012 إلى 66.7% بحلول عام 2020، مدفوعة بشكل أساسي بتزايد انخراط الذكور في سوق العمل غير المنظّم. ويُلاحظ أن العمالة غير الرسمية تتركز بشكل كبير بين أكثر الفئات العمرية هشاشة، إذ يعمل نحو 90% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عامًا، و93% من كبار السن فوق 65 عامًا، في وظائف تفتقر إلى التنظيم الرسمي، وهو ما يرتبط ارتباطًا مباشرًا بارتفاع معدلات الفقر، ما يعكس الأثر الاجتماعي العميق لهذا النمط من التشغيل.

ويُقدّر حجم الاقتصاد غير الرسمي في مصر بنحو 50% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقًا لتقرير صادر عن وزارة التخطيط بنهاية عام2022[3]، ما يشير إلى أن نصف ما تنتجه الدولة من سلع وخدمات يتم خارج الإطار الرسمي، دون رقابة ضريبية أو تنظيمية مباشرة من الجهات الحكومية. وتشير بيانات التعداد الاقتصادي الخامس الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2017/2018 إلى بلوغ عدد المنشآت غير الرسمية نحو 1.9 مليون منشأة، وهو ما يمثل حوالي 53% من إجمالي المنشآت الخاصة الصغيرة غير الزراعية. ويعكس هذا الانتشار الواسع مدى تعقيد التحديات البنيوية والتنظيمية التي تحول دون دمج هذه المنشآت في الاقتصاد الرسمي[4].

ويُعزى هذا الحجم الكبير من النشاط غير الرسمي إلى ثلاثة أسباب رئيسية؛ أولها، أن الاقتصاد المصري (الرسمي) يواجه تحديات في توليد فرص عمل رسمية كافية تتلائم مع الوافدين الجدد لسوق العمل سنويًا، خاصة في ظل تقليص العمالة في القطاع العام، إلى جانب الاعتماد المتزايد على تقنيات إنتاج كثيفة رأس المال بدلًا من تلك كثيفة العمالة، ما أدى إلى تفاقم معدلات البطالة وارتفاع مستويات التشغيل غير الرسمي. وثاني تلك الأسباب، أن المستويات المعيشية المتدنية دفعت العديد من الأسر إلى إشراك أفرادها، بمن فيهم الأطفال، في سوق العمل في سن مبكرة من أجل زيادة دخل الأسرة، وهو ما عزز من انتشار العمل في أنشطة غير رسمية منخفضة المهارة.

كما تواجه المنشآت الرسمية العديد من التحديات المتعلقة ببيئة الأعمال، مثل صعوبة الحصول على التراخيص، وارتفاع تكاليف التشغيل، وضعف القدرة التنافسية، والتقلبات السوقية، ما يجعل المنشآت الصغيرة تفضل العمل خارج الإطار الرسمي.

وتُظهر بيانات التعداد الاقتصادي لعام 2017/2018[5] مؤشرات القطاع غير الرسمي امتداد القطاع غير الرسمي عبر عدد من الأنشطة الاقتصادية الحيوية. ففي قطاع الزراعة واستغلال الغابات وصيد الأسماك، بلغت نسبة المنشآت غير الرسمية نحو 73%، حيث سُجلت 98038 منشأة غير رسمية مقابل 36258 منشأة رسمية. وفي قطاع الصناعات التحويلية، بلغ عدد المنشآت غير الرسمية 280623 مقابل نظيرتها الرسمية 242138 منشأة، بنسبة 54%، مع تركّز النشاط غير الرسمي بشكل خاص في صناعة الأثاث والمنتجات الخشبية بعدد 89288 منشأة.

في المقابل، يُظهر قطاع التشييد والبناء نسبة أقل من النشاط غير الرسمي (20%)، إذ بلغ عدد المنشآت الرسمية 8808 مقابل 2199 منشأة غير رسمية، وهو ما يُعزى إلى ارتباط هذا القطاع بمشروعات تتطلب تصاريح قانونية. أما في قطاع تجارة الجملة والتجزئة وصيانة المركبات، فقد مثلت المنشآت غير الرسمية 54% من إجمالي المنشآت، وهو ما يُفسَّر بسهولة الدخول إلى السوق وضعف الرقابة التنظيمية.

كما سُجّلت 103385 منشأة غير رسمية في قطاع الإقامة وتقديم الطعام، بنسبة 57% نتيجة انتشار المقاهي والمطاعم غير المرخصة.

أما القطاعات المرتبطة بالخدمات الحيوية مثل التعليم والصحة، فتميل بشكل واضح إلى الرسمية؛ ففي قطاع التعليم، بلغت المنشآت الرسمية 11691 مقابل 9012 منشأة غير رسمية، بنسبة 56% لصالح القطاع الرسمي. وبلغت الفجوة أكبر في قطاع الصحة والعمل الاجتماعي، حيث سُجّلت 136336 منشأة رسمية مقابل 19811 غير رسمية، أي ما يعادل 87% للقطاع الرسمي، نتيجة طبيعة هذه الأنشطة التي تتطلب التزامًا بالمعايير القانونية والمهنية.

بشكل عام، تعكس هذه المؤشرات الهيمنة النسبية للقطاع غير الرسمي في الأنشطة ذات الطابع الحرفي والتجاري والخدمي منخفضة التكاليف، مقابل تفوق القطاع الرسمي في المجالات ذات الحساسية التنظيمية العالية. ويؤكد هذا التفاوت الحاجة الماسة إلى تبني استراتيجية وطنية متكاملة لدمج الاقتصاد غير الرسمي من خلال تبسيط الإجراءات، وتوفير الحوافز، وتحسين بيئة الاستثمار، بما يسهم في تحقيق نمو اقتصادي مستدام وتوسيع القاعدة الضريبية.

دور جهاز تنمية المشروعات

وفقًا لتقرير متابعة الأداء الاقتصادي والاجتماعي خلال العام المالي 2022/2023 [6]، تُظهر المؤشرات الكمّية والنوعية لأداء المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر تطورًا متسارعًا في حجم التمويل، وتوسعًا في خدمات الدعم الفني، وتنوعًا في آليات التمكين الاقتصادي، لا سيما للمرأة. ويؤكد هذا الأداء فاعلية السياسات التنموية التي ينتهجها الجهاز، ودوره في تحقيق أهداف النمو الشامل والمستدام، من خلال سياسات دعم المشروعات الصغيرة وجهود تقليص الاقتصاد غير الرسمي، وتوسيع القاعدة الإنتاجية، وخلق فرص عمل لشرائح واسعة من المجتمع.

  • التمويل ودعم فرص العمل: في 2022، موّل الجهاز 367.6 ألف مشروع بـ6.8 مليار جنيه، مولدًا 221.8 ألف فرصة عمل، تركز نصفها في الوجه القبلي. بلغ إجمالي حجم التمويل في الفترة من يناير إلى سبتمبر 2023 نحو 3.7 مليار جنيه استفاد منه 199 ألف مشروع، مع استمرار نفس التوزيع الجغرافي.
  • الخدمات غير المالية: قدّم جهاز تنمية المشروعات أكثر من 136 ألف خدمة في 2023، منها تراخيص وتأمينات وسجلات تجارية، إلى جانب 2588 دورة تدريبية لدعم رواد الأعمال.
  • التسويق والتصدير: نظم الجهاز 238 معرضًا حققت مبيعات بـ28.8 مليون جنيه في 2022، ودعم تصدير سلع ومنتجات بقيمة 5.9 مليون دولار. وفي 2023، أبرم 192 صفقة تكامل بقيمة 26.5 مليون جنيه، وأهّل 484 مشروعًا للتصدير.
  • دعم القطاعين الزراعي والصناعي: قدّم الجهاز آلاف الخدمات الفنية والدراسات لمشروعات الإنتاج الزراعي، ودعم أكثر من 100 مشروع صناعي عبر نقل التكنولوجيا والدعم الفني.
  • التحول الرقمي: سُجل أكثر من 1000 مشروع على المنصات الإلكترونية، مع دعم حلول الدفع والتوصيل، تعزيزًا للتحول الرقمي.
  • تمكين المرأة: في 2022، ضخ الجهاز 2.3 مليار جنيه لدعم 99.2 ألف مشروع نسائي، وتوليد 145.3 ألف فرصة عمل. سجلت النساء نسب مشاركة مرتفعة في التسويق الإلكتروني (86%) والتدريب المهني (90%).
  • برامج تمكين المرأة: استفادت أكثر من 700 سيدة من تدريبات الحرف اليدوية، مع توظيف أكثر من 600 منهن، بجانب تطوير برامج تصدير للمنتجات الحرفية النسائية.

تقييم آثار سياسات الدمج والاحتواء

اتبعت الحكومة المصرية خلال السنوات الأخيرة حزمة من السياسات متعددة الأبعاد لمحاولة احتواء الاقتصاد غير الرسمي ودمجه في المنظومة الرسمية، وذلك في ظل اتساع نطاق هذا القطاع وتأثيره المتزايد على الاقتصاد الوطني. وتنوّعت هذه السياسات بين تنظيمية، وتشريعية، ومالية، وأخرى تتعلق بالحماية الاجتماعية، إلا أن تقييم تأثيرها على أرض الواقع يكشف عن فجوة بين الأهداف المعلنة والنتائج المحققة فعليًا [7].

رغم تنوع السياسات التي تبنتها الدولة المصرية عبر جهاز تنمية المشروعات، سواء في مجالات التمويل والتدريب والتمكين الاقتصادي للمرأة وتعزيز التجارة الإلكترونية، إلا أن تأثير هذه السياسات على أرض الواقع ظل متفاوتًا، ولم يحقق تحولًا جذريًا في خريطة الاقتصاد غير الرسمي كما كان مأمولًا.

فيما يتعلق بالتمويل، ضخ جهاز المشروعات مبالغ ضخمة لتيسير المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، وتوليد فرص عمل خاصة في المناطق المهمشة، وهو توجه إيجابي من حيث العدالة الجغرافية. ومع ذلك، يوضح تقرير الأمم المتحدة أن هذا التمويل، وإن ساهم في التوسع الكمي للمشروعات، لم يقترن بزيادة مماثلة في التوجه نحو التسجيل الرسمي .وقد بقي عدد كبير من المستفيدين خارج المنظومة القانونية، إذ لم تكن هناك حوافز كافية تدفعهم إلى الترسيم، كما لم يصاحب التمويل تدخلات تشريعية وإدارية تحفزهم على الانتقال الطوعي نحو الاقتصاد الرسمي.

أما برامج التدريب وبناء القدرات، فقد مثلت أحد أبرز محاور التدخل، وغطت شرائح واسعة من النساء والشباب ورواد الأعمال. غير أن التقرير الأممي أشار إلى أن أثر هذه البرامج بقي محدودًا من حيث المخرجات العملية، حيث لم يكن هناك ربط فعال بين التدريب وفرص التشغيل الرسمية، كما افتقرت البرامج إلى آلية متابعة تقيس مدى تحول المتدربين إلى أنشطة رسمية بعد انتهاء فترة التأهيل.

فيما يخص التمكين الاقتصادي للمرأة، فقد أظهرت البيانات الرسمية نسب مشاركة مرتفعة للنساء في مجالات التسويق الإلكتروني والتدريب والمشروعات الخدمية. ومع ذلك، يلفت تقرير الأمم المتحدة النظر إلى أن المرأة تظل ممثلة بدرجة كبيرة في القطاعات الأكثر هشاشة داخل الاقتصاد غير الرسمي، مثل أعمال الرعاية المنزلية والخدمات الهامشية، ما يجعل استفادتها من البرامج الحكومية مرهونة باستدامة الدعم واتساقه مع احتياجاتها الواقعية، لا بمجرد أرقام المشاركة.

وفيما يتعلق بتعزيز التجارة الإلكترونية، تشير المؤشرات الحكومية إلى إحراز تقدم واضح في تسجيل المشروعات الصغيرة على المنصات الرقمية، وتقديم الدعم الفني المرتبط بالتجارة عبر الإنترنت. ومع ذلك، يُبيّن التقرير الأممي أن هذا التحول الرقمي، وإن كان واعدًا، لا يمكن اعتباره حلًا سحريًا لدمج القطاع غير الرسمي، ما لم يُستكمل بمنظومة قانونية مرنة، وبنية تحتية رقمية قوية، وإجراءات مبسطة لتسجيل الأنشطة الإلكترونية.

في المجمل، تُظهر التجربة المصرية في السنوات الأخيرة أن النية السياسية لتقليص حجم الاقتصاد غير الرسمي موجودة بوضوح، لكن الترجمة على الأرض لا تزال تعوقها فجوات مؤسسية وتشغيلية. فغالبية السياسات جاءت منفصلة أو محدودة النطاق الزمني، ولم تُبنى على رؤية استراتيجية شاملة تدمج بين الحوافز، والحوكمة، وبناء الثقة مع الفئات المستهدفة.

يُعَدُّ دمج القطاع غير الرسمي في الاقتصاد الرسمي من أهم التحديات التي تواجه الدول النامية، نظرًا لما يمثله هذا القطاع من نسبة كبيرة من النشاط الاقتصادي. وقد خلصت الدراسات الحديثة إلى أن تعزيز هذا الدمج يتطلب مجموعة من السياسات والإجراءات الشاملة التي تركز على تهيئة بيئة مواتية للأعمال، وتسهيل إجراءات التسجيل، وتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية، وتحفيز الشمول المالي. كما أكدت الدراسات على أهمية إنشاء كيانات مؤسسية متخصصة، وتبني إصلاحات تشريعية وإدارية لضمان استدامة هذا التحول.


[1] الشامى، محمد حسن محمد (2017)، محددات الاقتصاد غير الرسمي وأثره على التنمية الاقتصادية في مصر، رسالة الدكتوراه، جامعة الإسكندرية – كلية الاعمال – الاقتصاد.

[2] International Labour Organization. , Informality and structural transformation in Egypt, Iraq and Jordan: A framework for assessing policy responses in the MENA region, (August 2024), Link: https://2u.pw/T1kXj

[3] Andersen Egypt , The Role of Egypt’s Informal Economy in National Growth, (july 2024), Link: https://2u.pw/6qNUt

[4] Elmahdy, A., Eldeeb, S., (2021) Determinants of informality in micro and small enterprises in Egypt. Ministry of Planning and Economic Development, Link: https://2u.pw/fSsRZ

[5] التعداد الاقتصادي 2017/2018 مؤشرات القطاع غير الرسمي، الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء، (2019).

[6] تقرير متابعة الأداء الاقتصادي والاجتماعي خلال العام المالي 2022/2023، وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، (2023).

[7] Ibid

[8] قائمة ببليوجرافية عن الاقتصاد غير الرسمي وخلاصة توصيات الدراسات، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القـرار، (أغسطس 2024).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى