النموذج التشغيلي: كيف أدار “الجولاني” السلطة في إدلب؟

منذ أن دشنت فصائل المعارضة السورية المسلحة وعلي رأسها “هيئة تحرير الشام”، عملية “ردع العدوان”في نهاية نوفمبر الماضي 2024، في ظل ما يسمي “إدارة العمليات العسكرية”، بقيادة أحمد الشرع الملقب (أبو محمد الجولاني) والتي آلت إلي سيطرة المعارضة علي العديد من المدن السورية واختُتمت بدمشق بعد فرار بشار الأسد وأسرته إلي خارج البلاد، لتكتب نهاية 53 عاما من حكم عائلة الأسد. ثم توالت العديد من التساؤلات حول زعيم الهيئة، أحمد الشرع، الذي أصبح اليوم العنوان العسكري والسياسي الأبرز في سوريا، ما من شأنه أن يُعيدنا بالذاكرة إلي الوراء قليلاً، عما كان عليه حكم الشرع في “إدلب”، حينما كان يعرف بمحمد الجولاني، طوال السنوات الماضية، خاصة بعد انفصاله عن تنظيمي الدولة والقاعدة، وانضمام العديد من الفصائل المسلحة للهيئة التابعة له.
وعليه، سنتطرق في هذا التحليل إلي، من هو أحمد الشرع؟، وكيف كان شكل قيادته ل إدلب؟ وهل يمكن إسقاط فترة الحكم تلك علي الشكل المتوقع لقيادة سوريا في المرحلة المقبلة؟، في ظل وجود الكثير من التحديات، بالإضافة إلي تعدد الفصائل المسلحة علي الأرض والحديث حول دمجها؟
التحولات في شخصية الشرع:
يبلغ الشرع من العمر اثنين وأربعين عاماً، وبدأمسيرته كمقاتلحينما ترك بلاده سوريا للالتحاق بصفوف المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي للبلاد في 2003، ومع اندلاع الثورة السورية في 2011 وتفاقم الوضع، قاد الشرع جهود تأسيس “جبهة النصرة”، حيث أسسها بتوجيهات من قيادة تنظيم الدولة في العراق والذي كان تابعاً لتنظيم القاعدة حينها، وذلك لمواجهة قوات الأسد في سوريا. ومع وقوع الشقاق بين تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة بالعراق في عام 2013، انفصل الشرع بجبهة النصرة عن تنظيم الدولة. ثم في عام 2016، قرر الشرع الانفصال عن القاعدة أيضاً بشكل كامل، وقام بتغيير اسم التنظيم من “جبهة النصرة” إلي “هيئة تحرير الشام” والتي انضمت إليها لاحقاً فصائل مسلحة أخري مثل (أنصار السنة، لواء الحق،جبهة أنصار الدين، حركة نور الدين الزنكي) في مطلع عام 2017.
وبعد تصدر الشرع المشهد السياسي في سوريا عقب سقوط نظام الأسد، اتضح أنه يمتلك حضوراً إعلامياً ملفتاً، محاولاً تصدير صورة مختلفة عن تلك الصور النمطية الخاصة بالتنظيمات الجهادية المسلحة، فهو متحدث هادئ ولبق، ما مكَّنه من تقديم نفسه بشكل يبدو مقبولاً مؤخراً. ففي مقابلته الأخيرة مع شبكة “سي إن إن”، حرص الشرع على تقديم تلك الفترة بوصفها “حقبة ولَت من حياته”، مؤكداً أن “أفكاره الحالية لا تتشابه مع التنظيمات التي انتمى إليها يوماً ما”.وبالطبع يبدو في ذلك رغبة منه لإعادة تقديم نفسه وتقديم تنظيمه في صورة مغايرة للصورة التقليدية للتنظيمات الجهادية. وهذا ليس مستحدثاً عقب الإطاحة بنظام الأسد فقط، بل هناك مقابلة سابقة في أبريل 2021، مع الصحفي الأمريكي “مارتن سميث”، خرج فيها الشرع مرتدياً ملابس رسمية حديثة “بدلة” مختلفة عن الزي العسكري أو العمامة التي اعتاد الظهور بها. كما فاجأ المجتمع الدولي بتوجيه رسائل له مطالباً”إعادة النظر في إدراج هيئة تحرير الشامعلى قائمة التنظيمات الإرهابية”، ونافياً نيته محاربة الولايات المتحدة والغرب، وأشار في اللقاء نفسه إلى أن “مقاتلي الهيئة لم يترددوا في مواجهة تنظيم الدولة عسكرياً”.
نموذج قيادة الشرع في إدلب؟:
تعد إدلب أكبر معقل للمعارضين في شمالي غرب سوريا وموطن لحوالي أربعة ملايين شخص، ومنذ عام 2017، وتحت قيادة أحمد الشرع، أصبحت هيئة تحرير الشام القوة المهيمنة في إدلب، وسعي الشرع إلى تحويلها إلى نموذج عملي لرؤيته لمسائل الحكم والسلطة، حيث أظهر اهتماماً كبيراً بالحكومة وبناء مؤسسات وسلطات محلية وسياسية في الأراضي التي استولت عليها الهيئة علي النحو التالي:
١. علي الصعيد السياسي: في 2017 تشكَّلت في إدلب حكومة “الإنقاذ السوري”، بدعم من “هيئة تحرير الشام”، وذلك كجبهة مدنية لمعالجة مخاوف المواطنين بشأن وجود جماعة مسلحة تحكم المنطقة، وأصبحت هذه الحكومة هي الذراع السياسي والإداري للهيئة. ما ترتب عليه صراعاً بينها وبين الحكومة السورية المؤقتة المدعومة من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، حيث قامت هيئة تحرير الشام من جانب واحد بحل العديد من المجالس المحلية التابعة للحكومة الثانية. كما أصدرت حكومة الإنقاذ، تحذيراً دعت فيه الحكومة المؤقتة إلى إخلاء مكاتبها من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة لتتولى هي السلطة بصورة فعلية. وقامت حكومة الإنقاذ بمهام الإدارة المدنية ومن بينها إدارة جهاز الشرطة. وفي أبريل عام 2022 شكَّلت حكومة الإنقاذ ما عُرف باسم “إدارة الشئون السياسية” لتكون مختصة بالتعبير عن المواقف السياسية التي تُمثل الحكومة.
٢. علي الصعيد المجتمعي: سعت حكومة الإنقاذ إلى تعزيز وجودها المجتمعي عبر تنفيذ عدة مشروعات خدمية وقام الشرع بافتتاح بعض منها، مثل: إنشاء مدينة صناعية، وإصلاح الطرق، ووإصلاح وتطوير شبكات المياه والصرف الصحي، وتقديم قروض زراعية لدعم المزارعين، كما قاد الشرع جهود الإغاثة بعد زلزال 2023.
٣. علي الصعيد العسكري: كانت الناحية العسكرية هي الأكثر استغلالاً لإثبات قيادة أحمد الشرع انفصالها قلباً وقالباً عن تنظيمي الدولة والقاعدة من حيث الإدارة والرؤية، وتعاملها بنهج مختلف عن تلك التنظيمات، ففي البداية عمل الشرع علي إضفاء الصبغة العسكرية النظامية علي فصائله المسلحة داخل إدلب، فقام إنشاء كلية عسكرية. وفي عام 2019 بدأ أيضاًفي توحيد الفصائل التي لجأت إلى إدلب وكانت حينئذ في حالة اقتتال داخلي عقب هزيمتها أمام القوات التابعة لنظام الأسد، فأسس الشرع غرفة عمليات “الفتح المبين” لتكون مسئولة عن تنسيق العمليات العسكرية، وفي منتصف عام 2020، اتخذ قراراً بتوحيد الجهد العسكري، ومنع تشكيل أي فصيل أو غرفة عمليات أخرى في المناطق الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام.
وسعي الشرع كثيراً من خلال المنظور العسكريأن يصدر صورة مغايرة تماماً لرؤية التنظيمات الجهادية المعتادة، حيث لم تظهر خلال السنوات الماضية أية دلائل علي أن الشرع حاول تنفيذ عمليات عسكرية خارج سوريا، وحتي لو كانت ضد الدول التي تدخلت لدعم نظام الأسد مثل روسيا وإيران، وتعمد إرسال رسائل هادئة بأن هدفه هو مواجهة نظام الأسد فقط عبر المقاومة المسلحة، دون الإضرار بمصالح أي أطراف أخرى، محاولاً بذلك تفادي تصنيفه ضمن تنظيمات “الجهاد العالمي”. وعلي الرغم من أن الشرع وتنظيمه بقيا مصنفين على قوائم الإرهاب الأمريكية، إلا أنه كان في مستوى دون القاعدة والدولة. لذا يمكن القول إن الشرع وهيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ قد حاولوا تقديم نموذج إداري بشكل نسبي، وذلك بالنظر إلي محدودية الموارد وتكدس اللاجئين وصعوبة الأوضاع الأمنية في إدلب، فضلاً عن العزلة عن العالم.
انعكاسات النموذج:
يشير بعض الخبراء والباحثين إلي أن خطاب أحمد الشرع مع أداءه الميداني الحالي بالإسقاطعلي نموذح قيادته لإدلب، ربما يثبتان بشكل كبير جدية تحولاته الفكرية وتطور مهاراته السياسية والعسكرية والإدارية، بينما يتشكك آخرون في مدى وصول هذه التحولات إلى درجة من الثبات والاستمرارية في المرحلة المقبلة، وأنها لم تكن مجرد “عملية تكيُّف براغماتية مؤقتة”. فمن المؤكد أن الشرع يعي جيداً ما ينتظره من تحديات في الداخل والخارج، ما جعله يحرص علي توجيه رسائل سياسية هادئة بشكل متكرر مفادها، محاولة طمأنة كافة الأطراف والتعبير عن الرغبة العارمة فقط في الإصلاح السياسي والإداري داخل البلاد.
وفي لقاء للشرع مع “سي إن إن” في مطلع ديسمبر 2024، حرص فيه بشكل لافت على الابتعاد عن الخطاب العقائدي، مركزاًعلى انتقاد السلوك السياسي لنظام الأسد، قائلاً أن “عقل النظام لا يتقبل حلولاً سياسية”، وإن “الفساد قد انتشر بشكل هائل في جسد الدولة والحكومة”. كما قارن أيضاًفي اللقاء ذاته، بين سلوك قوات الحكومة وسلوك فصائل المعارضة، فأكد أن “المدن التي دخلتها الفصائل المعارضةلم تعانِ من تدمير أو يتعرض أهلها إلى تنكيل، بعكس المدن التي استعادتها قوات النظام سابقاً، حيث تعرضت لإجراءات عقابية تجاه الأهالي”.
كما حرص الشرع كذلك علي توجيه رسائل طمأنة إلي المواطنين السوريين المسيحيين في حلب وأكد أنهم بأمان بعد سيطرة المعارضة على المدينة، وتوجيه رسائل طمأنةإلى العلويين والدروز والإسماعيليين، على مستقبلهم، وشدد على أنه “لا يحق لأحد أن يلغي وجود طوائف أخرى أو يهمشها، وأن حكم القانون يُفترض أن يسود على الجميع”، ووجَه في بيان إلي الأكراد بمدينة حلب يدعوهم إلى “البقاء في المدينة للعيش فيها بحرية وكرامة، ويدين ما تعرضوا له سابقاً من تنكيل على يد تنظيم الدولة”. كما قام بتهنئة المسيحيين بشكل رسمي مع بداية العام الجديد 2025.
تحديات محتملة:
مما لاشك فيه أنه في ظل الأوضاع الراهنة في سوريا ما بعد الأسد، أنه سيكون هناك العديد من التحديات أبرزها ما يلي:
١- قد يكون من الصعب الحصول على الاعتراف الدولي الذي يُمكّن سوريا من ربط اقتصادها بالعالم والخروج من حقبة العقوبات المالية والاقتصادية، وعلي الرغم من أن أحمد الشرع قد أبدي في العديد الخطابات السابقة له، المرونة في التعامل مع المنظومة الاقتصادية العالمية، لكن هذه الخطوات لم تُقابل بخطوات مماثلة في حالة حكم إدلب، ومن المرجح ألا تجد أيضاً قبولاً سريعاً فيما بعد إدلب –سوريا ما بعد الأسد- حيث أنه سيكون من المحتمل عدم حصول السلطة الحالية علي اعتراف دولي.
٢- تعدد الأطراف في الأزمة السورية وتضارب مصالحهم، فضلاً عن غياب التجانس في صفوف المعارضة، جميعها أمور تعكس صعوبة مهمة السلطة في المرحلة المقبلة.
٣- ربما يؤدي تخلى هيئة تحرير الشام عن الأيديولوجية السلفية الجهادية التي تأسست عليها، إلي فقد شرعية وجودها من وجهة نظر عناصرها ومؤيديها، فكلما تم تأصيل مظاهر الحداثة بداية من ارتداء الشرع للبدلة الحديثة وتهذيب اللحية وانتهاءبتفعيل حقوق الروافض الشيعة والدروز إرضاءً للغرب، كلما تم تعميق الشقاق بين قيادة الجبهة وقواعدها والتنظيمات المتحالفة معها.
اندماج الفصائل المسلحة (تكوين الجيش السوري الجديد)
يشير العديد من مراقبي المشهد السوري إلي وجود تعقيدات كبرى في مسألة حل الفصائل المسلحة المنتشرة على مساحة البلاد التي تبلغ أكثر 185 ألف كم مربع، معتبرين أن “تشكيل جيش جديد يتبع لوزارة الدفاع هو أمر صعب بحُكم التباين في التوجهات وتاريخ الخلافات، وجدل التبعية”. لكن بالمقابل يرى آخرون أن “عملية الحل والدمج ستكتمل رغم العوائق، لأنها من ضرورات ترسيخ عهد جديد للبلاد، كما أنها خطوة مهمة في مسار طمأنة الداخل السوري والمجتمع الدولي”. وقد عقد الشرع في الأيام الماضية سلسلة لقاءات في العاصمة دمشق، مع وزعماء الفصائل المسلحة، وتم الإعلان عن الاتفاق بين كافة الأطراف على حل الفصائل ودمجها في الجيش السوري الجديد، مع الانخراط تحت مظلة وزارة الدفاع.
وتداولت الأنباء في الداخل السوري بأن “هذا الاتفاق تم التوصل إليه بعد حل الخلافات العالقة بين قادة الفصائل، وبعد ما حصلوا عليه من أحمد الشرع من ضمانات، بأن يكونوا ضمن جيش جديد غير محسوب على أي طرف، وأن تُراعى أوضاعهم وأدوراهم في إسقاط نظام الرئيس السابق بشار الأسد”. وذُكر أن الشرع “كان حاداً ومباشراً وواضحاً معهم، في مسألة حل الفصائل والانضمام إلى الجيش الجديد”، كما لوّح بخيار “استخدام القوة العسكرية مع الفصائل التي قد ترفض هذا التوجه”.
وأعلنت الإدارة السورية الجديدة فيما يخص الشمال السوري، أي إدلب وحلب، إلي أن “اليد الطولى هُناك لـهيئة تحرير الشام، التي تقود مشروع الدمج في الجيش الجديد، لكن توجد بالمنطقة فصائل أخرى مثل (الجبهة الشامية، وفيلق الشام، وجيش الأحرار، وحركة أحرار الشام، وجيش العزة).
وفيما يتعلق بالجيش الوطني، فقد صرحت مصادر مطلعة بوزارتي الدفاع والداخلية السوريتين، إن “الجيش الوطني المدعوم من تركيا، ينخرط الآن في عمليات عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال وشرق البلاد، لكنه مع ذلك، وافق على حل نفسه والانخراط في الجيش الجديد”.
أما عن قوات “قسد”، فوفقاًلتصريحات الإدارة السورية الجديدة، فإن الشرع قد أوصل رسالة إلى قسد بأنه “لن يقبل منها غير حل نفسها، وإلا فإنه سيرسل تعزيزات عسكرية إلى الرقة والحسكة، ويخوض حرباً ضد قوات سوريا الديمقراطية”. ما جعل قوات قسد تصرَحبأنها سترسل وفداً إلى دمشق للتفاوض، مع إعلانها عن رغبتها في أن يكون مقاتلوها ضمن الجيش السوري الجديد، علماً بأن “قسد” تشكلت عام 2015 بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية لمكافحة تنظيم “داعش”، وعدد مقاتليها يتراوح ما بين 50 إلى 60 ألفاً.
وختاماً، فإن سوريا التي عانت لمدة أربعة عشر عاماً من الصراعات والاقتتال والانقسامات الطائفية والمناطقية، هي الآن أمام مرحلة انتقالية حرجة. فعلي الرغم من الانهيار السريع للأسد وقواته، فإن العديد من الأطراف لديها مصالح متضاربة داخل سوريا، ولديها مساحات نفوذ وسيطرة لم تُحسم حتى بعد فرار الأسد. كما أن الصراعات البينية التي وقعت بين فرقاء الثورة، والاختلافات الأيديولوجية وتضارب المصالح والرؤى، وظهور تيارات التطرف، كل ذلك يُلقي بظلال ثقيلة على مستقبل البلاد التي تعد محط تنافس إقليمي ودولي.