حسابات غير معلنة: لماذا ظهر “الجولانى” بالبدلة العصرية في لقاء مارتن سميث؟
آثار ظهور قائد “هيئة تحرير الشام”، أبومحمدالجولانى مع الصحفى الأمريكى مارتن سميث فى إدلب مطلع الشهر الجاري، ردود فعل متباينة فى الوسائط السياسية والإعلامية، خاصة مع ظهوره هذه المرة بشكل غير معتاد، مرتديا بدلة عصرية على غير المألوف لما أعتاد عليه قادة الجماعات المتطرفة.
وفي ظل لقاء الطرفين، وقدرة ” سميث” للوصول وإتمام لقاءه مع إرهابي بهذا الحجم، يبقى السؤال: كيف وصل الصحفي الأمريكي للجولاني في ظل إعلان مؤسسات أمريكية مسئولة عن مكافأة مالية كبيرة لمن يعلن عن مكان اختفاء زعيم جبهة النظرة؟، ولماذا سعت وسائل الإعلام الأمريكية إلى انتشار صورة ” الجولاني” مرتدياً بدلته؟، وهل يمكن أن يكرر زعيم جبهة النظرة نموذج مدني مزراق، القائد السابق “للجيش الإسلامي للإنقاذ” في الجزائر، عندما طالب بعد إنزاله للسلاح مؤسسة الرئاسة الجزائرية بتأسيس حزب سياسي، وما هي حدود قبول الأطراف المحلية والدولية لهذا السعي غير المعلن؟.
معطيات بين السطور:
بداية؛ يبدو أن هناك محاولات من أطراف دولية تسعى لتلميع صورة “الجولانى” على المستويين المحلى والدولي في الفترة الأخيرة، تُظهرها عدة دلالات، منها ما يؤكده تحليل اللقاء بين “الجولاني” و”سميث”، ومظاهر السعادة التي تبدو على ملامح الشخصين. فالمشاهدات الدقيقة للصور المنتشرة عبر مواقع إلكترونية دولية، تشير إلى تمكن الصحفي الأمريكي من الوصول إلى “الجولانى” بسهولة، ربما عبر أجهزة أمنت وصوله وخروجه حتى توقيت إعداد اللقاء، خاصة وأن لقاء صحفي معروف مع شخصية بثقل “أبو محمد” من المستحيل أن يتم دون التنسيق مع بعض الأطراف المتصارعة داخل سوريا، هذا بالإضافة إلى استحالة إجراء حوار مع شخصية مطلوبة أمريكياً ودولياً، دون علم مسبق من المخابرات الأمريكية، وهو ما يبرر عدم منطقية قبول “الجولانى” الظهور عبر وسائل الأعلام الأمريكى، والتجول علنا فى شوارع إدلب، وهو يعلم أنه ملاحق ومطلوب من قبل الولايات المتحدة.
عليه؛ فإن كل المعطيات تؤكد، أن ثمة تنسيق مستتر، قد يحدث بين الإدارة الأمريكية الجديدة، وجبهة تحرير الشام، بحيث تبدو ادارة بايدن أنها تحارب الإرهاب، من خلال الإعلان عن مكافأة مالية ضخمة، لمن يدلى بمعلومات عن مكان الجولانى، فى حين أنها تجرى تنسيق عبر أجهزتها لإستخدام جبهة تحرير الشام، لإعادة هيكلة التحالفات فى المنطقة. من جانب آخر؛ تسعى واشنطن لإعادة تصدير صورة جديدة للجولانى، على أنه القائد السياسي ربما تمهيدا لرفع أسمه من على قائمة الإرهابين، فالجولانى أعتاد على الظهور فى الفترات الأخيرة، في وسط المخيمات، وتقديم المساعدات للأهالي، بذلك تحول في نظر البعض داخل إدلب من إرهابى إلى صورة الزعيم السياسي.
تغيير الصورة النمطية:
على الجانب الآخر، تحاول “هيئة تحرير الشام” ، خلال الفترة الآخيرة تقديم نفسها للمجتمع الدولى فى صورة الفصيل المعتدل، بل وحركة تحرير وطنية، على شاكلة بعض الحركات الوطنية، التى تناضل ضد المحتل، كحركة “حماس وطالبان”. فقد سعت الهيئة إلى تشكيل مجلس عسكري موحد بإدلب، ترتدى من خلاله ثوب الإعتدال وتنزع عنها ثوب الإرهاب، كمحاولة لغسل سمعتها الدولية كجماعة إرهابية، وقامت على دعم سياستها الجديدة من خلال مساريين: الأول سياسي، والثانى عسكرى، بالنسبة للمسار السياسي، عبر تجنب الصدام مع العقائد المختلفة فى المناطق التى تسيطر عليها الهيئة، كما سعت للترويج الإعلامى للهيئة باعتبارها ممثل للسوريين، من خلال الظهور المكثف لزعيمها أبو محمد الجولانى، ومشاركته في فاعليات شعبية، والظهورإلى جانب المدنيين والمرضى ووجهاء العشائر.
أما عن المسار العسكري، فقد حدث تطور نوعى فى العمليات العسكرية للهيئة، تمثلت فى عدم استخدام الأراضي السورية، للقيام بعمليات عسكرية خارج سوريا، لإيصال رسالة مفادها أن عمليات الهيئة، الغرض منها محاربة النظام السوري، ومقاومة الاحتلال، وليس الجهاد ضد قوى دولية، وغير طامعة أن تكون تنظيما عابرا للحدود، راغبة فى ذلك تدويل أنها مجرد جماعة معارضة داخل الدولة السورية.
ففى إطار سعى الهيئة للاعتراف بها دوليا، أعلنت إدلب دولة متكاملة الأركان، خلال اجتماع لقياديين من الهيئة مع وسائل الإعلام، ولم تكتفى الهيئة بالتصريحات، بل أكدت على ذلك من خلال مجموعة من الإجراءات منها؛ تفكيك الجماعات الجهادية فى أماكن سيطرتها، ومنعها من القيام بإى عمليات عسكرية أو فتح مقرات دون إذن، استبعاد المتشددين الرافضين للحلول السياسية وعلى رأسهم أبو اليقطان المصرى، الذى ترك الهيئة اعتراضا على اتجاهاتها المتساهلة، تجاه بعض القضايا في المرحلة الأخيرة، محاولة طرح نفسها كطرف فاعل فى حل مشكلة الجهاديين في سوريا. وقد ظهر ذلك في اعتقال القيادى سراج الدين مختاروف المطلوب من الإنتربول، واعتقال القيادي عمر ديابي الذى يقود مجموعة من المجاهدين الفرنسيين، والمسئول عن تجنيد الفرنسيين، وجلبهم إلى سوريا والعراق، لإرسال رسالة الى الدول الغربية أن الهيئة تصلح لتكون ذراعها في تنفيذ مصالحها.
حسابات غير معلنة:
تاتى هذه السياسات الجديدة، لهيئة تحرير الشام، في ظل اعتقاد الهيئة، بأن جهات استخباراتية دولية تراقب سلوكها وأداءها، وتسعى إلى تعديل مسارها، طمعا فى الوصول الى اعتراف دولي بها، يبدأ برفع أسمها من قائمة الإرهاب الدولى على غرار جماعة الحوثين فى اليمن، وإعادة طرح نفسها على أنها جزء من الحلول، والمرونة تجاه التفاعلات السياسية في المنطقة. وعليه، هل تصل الهيئة في ظل هذه الترتيبات إلى لمسعاها، في ظل إعادة تشكيل التحالفات بعد وصول إدارة بايدن إلى السلطة فى الولايات المتحدة، وهل ستتمكن بعض الجماعات الإرهابية، من طرح نفسها كأطراف سياسية قادرة على تشكيل احزاب، والمشاركة فى العمل السياسي، وربما خوض انتخابات.
قراءة دلالات الصورة التي ظهر بها ” الجولاني” في هذا التوقيت، الذي تتشكل ملامحه الدولية والإقليمية من جديد، تشير إلى أن زعيم جبهة تحرير الشام يفكر جيداً في أن يكون هو وجماعته جزء من المعادلة السياسية، وهذا ربما يجعله يفكر مبكراً في تأسيس حزب سياسي يمهد له الطريق لخلع رداءه القديم، ويسمح له بتموقع جديد في المشهد المقبل. فمن المحتمل أن يكرر ” الجولاني” نموذج قديم حدث في دولة الجزائر، وهو نموذج مدني مزراق القائد السابق “للجيش الإسلامي للإنقاذ”، الجناح المسلح سابقا لحزب “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” المنحل، وإعلانه عن تأسيس حزب سياسي في سبتمبر 2015.
وبالتالي قد يفكر ” الجولاني” ومن المرجح أن يسعى إلى تأسيس حزب سياسي، كما واصل سابقه “مزراق”، من منطلق أن ظهوره بالشكل الجديد العصري، ودوره المدني في بعض المناطق- وإن كان “الجولاني” غير ظاهر-، قد يمنحه تسوية ذات بعد دولي، ربما قد تسمح له بالتمتع بما يطمئنه فيما يسعى إليه، وإن ذلك سيلقى رفضاً من الشعب السوري، كما ارتفع صوت ضحايا الإرهاب في الجزائر رافضا سعى سابقه “مدنى مزراق”.