ماذا بعد اقتحام “جنين”؟

د. إبراهيم ربايعة- الخبير الفلسطيني في شئون العلاقات الدولية
مع فجر الثالث من يوليو 2023، شرعت قوات الاحتلال الإسرائيلي بعملية عسكرية واسعة في جنين ومخيمها شارك فيها وفق صحيفة “يدعوت أحرنوت” العبرية حوالي 8200 عسكري، مدعومون بغطاء جوي من المسيرات والطائرات المروحية، تتقدمهم جرافات الـ D9 التي كانت سلاح الاحتلال بهدم المخيم عام 2002، وجاءت هذه العملية بعد اجتماع سياسي أمني إسرائيلي رأسه نتنياهو، وسبقه نقاش خرج للعلن حول مستقبل العلاقة مع الفلسطينيين وشكل التعامل مع المقاومة ومستقبل المشروع الاستعماري الاستيطاني في الضفة المحتلة.
شكل تفجير مركبة عسكرية إسرائيلية مصفحة، وإعطاب عدد من المصفحات في المخيم، يوم 19 حزيران نقطة تحول مركزية في رؤية الاحتلال لجنين وما تمثل، إذ لم تشهد الضفة الغربية تفجير مركبات واستخدام للعبوات الأرضية الناسفة شديدة الانفجار منذ نهاية انتفاضة الأقصى قبل عقدين تقريباً. فلسطينياً، أدى هذا الحدث لرفع الحالة المعنوية لدى المقاومة في جنين، وحاضنتها الشعبية.
الجيش الإسرائيلي، وبضغط من حكومة الاحتلال القابعة في أقصى اليمين الصهيوني، أصبح منذ تلك اللحظة مطالباً بتفعيل أدوات عسكرية مختلفة تخفف الضغط عنه وترمم صورته الداخلية، فاستخدم الطيران بعدها بأيام، لأول مرة منذ حوالي عشرين عاماً أيضاً في الضفة، لاغتيال ثلاثة مقاومين من كتيبة جنين وكتائب شهداء الأقصى، قبل أن يشرع بعمليته الواسعة.
خلفية عامة:

يتصل مخيم جنين بمدينة جنين، شمال الضفة الغربية، وهي مركز محافظة تحمل ذات الاسم والسمات، تقع على بعد كيلومترات من الخط الأخضر، وجدار الفصل المحيط بالضفة الغربية، والذي يفصلها عن مدن ومناطق الداخل. المخيم ذو كثافة سكانية كبيرة حيث يقطن حوالي 15 ألف نسمة على مساحة تزيد عن نصف كيلو متر مربع بقليل.
تمتاز منطقة جنين بشكل عام، بحالة المقاومة الدائمة، إذ حاولت الوقوف بوجه جيوش نابليون عام 1799، فأحرق أهلها حقول الزيتون محاولين عرقلة تقدم الجيش الغازي، واستمرت هذه الحالة المقاومة مع الاحتلال، ثم الانتداب البريطاني، بعد العام 1918، رسخت ذاكرة اشتباك الشيخ عز الدين القسام واستشهاده على أرضها عام 1935، فيما كانت أبرز أدوارها في الثورة الكبرى (1936-1939)، إذ فجر ابنها الشيخ فرحان السعدي الثورة باستهدافه قافلة سيارات يهودية قرب طولكرم، كما كانت جنين شاهدة على معارك رسخت في ذاكرة الثورة، أهمها معارك اليامونوجبع، وهي ثورة برز فيها أبناء جنين فكان من قادتها يوسف أبو درة، والشيخ عطية عوض.
في العام 1948، سجلت جنين حالة مقاومة مختلفة عن عموم فلسطين، إذ تمكنت مقاتلوها، بإسناد من الجيش العراقي، من استعادة المدينة وتحريرها من العصابات الصهيونية، بعد احتلالها، موقعين في هذه العصابات خسائر فادحة، لتكون هذه المعركة هي التي أخرت احتلال شمال الضفة الغربية 19 عاماً.
شكلت جنين حاضنة مبكرة للحركة الوطنية، فمع العام 1967، وصل الشاب ياسر عرفات لجنين، وبدأ بتنظيم مجموعات مقاومة في جبال قباطية، جنوب شرق المدينة، فكانت جنين الحاضنة المثالية لولادة المقاومة، وهذا ما ترسخ مع انتفاضة الحجارة عام 1987، حين كانت جنين قاعدة ولادة التشكيلات العسكرية لحركة فتح في الداخل “الفهد الأسود” وللجبهة الشعبية “النسر الأحمر”، فشكلت المحافظة مساحة اشتباك مركزية مع الاحتلال ورأس مثلث الانتفاضة الذي اكتمل بنابلس وطولكرم.
لم يغب هذا الدور عن انتفاضة الأقصى (2000-2005)، فكانت جنين، إلى جانب نابلس، مركز ولادة كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، ومركز عمليات سرايا القدس التابعة للجهاد الإسلامي في الضفة الغربية، ومع تقدم الانتفاضة، تعزز دور مخيم جنين تحديداً في العمليات التي استهدفت المدن الإسرائيلية، ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون لتسميتها بـ “عش الدبابير”. لينفذ الاحتلال خلال عملية اجتياح الضفة الغربية – السور الواقي – عام 2002، أوسع عملية تدمير للمخيم، بعد معركة مع مقاتلي المخيم استمرت لحوالي 11 يوماً، أسفرت عن مسح أحياء واسعة من المخيم بشكل كامل، واستشهاد حوالي 54 فلسطينية وفلسطينياً، واعتقال العشرات. فلسطينياً، ورغم المجزرة والتدمير الهائل، إلا أن صمود المقاتلين محدودي الإمكانيات أمام جيش الاحتلال بإمكاناته الكبيرة، شكل حالة اعتزاز راسخة بتلك المعركة، والتي تبعها بعد انتهاء الانتفاضة حالة من الهدوء طويل المدى.
نقطة التحول:
منذ العام 2015، بدأت الحالة في جنين تعود للاشتباك بالتدريج، فبعد حوالي عشر سنوات من الدخول الروتيني لدوريات الاحتلال للمخيم،ظهر جيل جديد من الشباب عاد لحمل السلاح بمواجهة الاحتلال، تدرجت هذه الحالة وصولاً لظهور نواة شبه منظمة، دون تراتبية فصائلية تقليدية، حملت اسم كتيبة جنين، شكلت حاضنة عابرة للفصائل لشباب المخيم، رغم ارتباطها لاحقاً بحركة الجهاد الإسلامي.
الحالة في جنين، كانت ككرة ثلج متدحرجة جذبت مزيداً من الشباب حول الخطاب المقاوم الرافض لحالة الانسداد وتغول المشروع الاستعماري على حساب الفلسطيني، ومنذ بداية العام الحالي، استشهد في جنين أكثر من 130 شهيداً نتيجة إجراءات الاحتلال القمعية واستهدافها المتصاعد، وبالتوازي مع ارتفاع مستويات القمع ازدادت اعداد المنتسبين للكتيبة، والأذرع المقاومة ككتائب شهداء الأقصى، المنتسبون من شبان لا تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرون لم يعايشوا تجربة المخيم عام 2002، إلا أنها سكنتهم كذاكرة حية متوارثة غذت تجربتهم.
دوافع العملية وحدودها:

حاول الاحتلال اعتماد استراتيجية مختلفة لتلافي أية خسائر بشرية، فاعتمدت على المباغتة من خلال ضربات جوية مركزة للمخيم ومحيطه تلاه اجتياح بعدد كبير من الآليات العسكرية التي تقدمت ببطء على أكثر من محور تقدمتها الجرافات التي حرثت الشوارع المؤدية للمخيم لتحاشي العبوات الناسفة المزروعة بالأرض، قبل أن تضرب القوات المقتحمة طوقاً على المخيم وتبدأ بالتقدم البطيء بعد تقسيم المخيم لمربعات متتالية.
عمد الاحتلال لإحداث دمار كبير في البنية التحتية واستهداف واسع للمباني السكنية، في شكل من أشكال العقوبات الجماعية وضرب الحاضنة الشعبية في المخيم والمدينة،وهذا ما يفسر استخدام جرافات الـD9 ذات القدرة التدميرية الكبيرة، كما يفسر إجبار حوالي 3000 من سكان المخيم إخلاء منازلهم تحت التهديد، وخلق حالة تشريد تعيد إلى الأذهان تجربة 2002.
ومع تقدم القوات المهاجمة ووصولها لعمق المخيم، تفاجأت بكمائن وشكل مقنن ومدروس من المقاومة، وانسحابات تكتيكية لم تسمح باعتقال المقاومين أو قتلهم، وهذا ما وضعها أمام خيارات معقدة: إما عملية طويلة المدى بقوة تدميرية أكبر وقتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين والمخاطرة إسرائيلياً بخسائر بشرية أعلى، أو الاكتفاء بالعملية المحدودة وإيجاد مخرج مقبول سياسياً.
ذهبت إسرائيل للخيار الثاني، بناء على التزامها للولايات المتحدة بألا تتجاوز العملية 48 ساعة، وسحبت قواتها مع انتصاف ليل الرابع من تموز/ يوليو، فيما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقياداته العسكرية عن أن العملية مستمرة وستعود القوات لجنين في مراحل لاحقة ولن تقتصر على جولة واحدة، مدعياً أن العملية حققت أهدافها في هذه المرحلة.
نتج عن العدوان، وهو الأكبر منذ عقدين، 12 شهيداً، و120 جريحاً، فيما اعترف الاحتلال مع انتهاء عمليته بمقتل جندي، وخسارة عدد من الآليات وفق اعترافه، فيما قالت كتيبة جنين أن خسائر الاحتلال أكبر بكثير.
ماذا بعد؟:
لم تنجح إسرائيل بتحقيق هدفها المركزي من العملية، وهو استعادة ضبط الميدان الذي يسمح لها بحرية السيطرة المطلقة على المخيم، ومنع استمراره كحاضنة وقاعدة آمنة تسمح بتطور حالة المقاومة، بل على العكس أدى العدوان إلى انخراط مدينة جنين وريفها “كامل المحافظة” في الحالة المقاومة، وحول المقاومة من محددة جغرافياً إلى شاملة اجتماعياً. أيضاً، أظهرت المواجهة أن كتيبة جنين والمقاومة أصبحت تمتلك قدرات تنظيمية وإدارة ميدانية واقعية بناء على قدراتها المحدودة، وهذا مرشح للتطور والتصاعد.
بالمقابل، لن تقبل إسرائيل بمشهد النصر، وهذا ما بدأ يأخذ مساحته في الإعلام الإسرائيلي الذي شرع بانتقاد الحكومة والجيش، وهذا ضغط مرشح بالتصاعد خاصة في حال رفع الحظر الأمني عن أنباء الخسائر التي تشير التقديرات الفلسطينية إلى كونها كبيرة. هذه الظروف إلى جانب تعقيدات المشهد السياسي الإسرائيلي على مستوى الحكومة اليمينية المتطرفة من جهة، وفي علاقتها مع المعارضة من جهة أخرى، يجعل من احتمالات تكرار هذه الجولة بجولات قادمة وأكثر قسوة احتمالات مرجحة، بهدف محاولة إنهاء حالة جنين التي تعرقل بشكل أو بآخر تقدم المشروع الاستيطاني، خاصة بعد قوننة عودة المستوطنات إلى المحافظة، بعد أن كانت قد أخليت عام 2005.