إزاحة الرمزية: كيف انتقل إعلام الإخوان من تمجيد الدم إلى تخوين السلام بعد اتفاق شرم الشيخ؟

في اللحظات التي يحتفل فيها المصريون بتوقيع اتفاقٍ تاريخي لوقف الحرب على غزة، وتتوجه أنظار العالم إلى شرم الشيخ باعتبارها عاصمة السلام، انشغلت أذرع جماعة الإخوان في الخارج بتفريغ مشهد إقرار السلام من معناه. فقد قاد الإعلام المحسوب على الجماعة حملة تشويه منظمة استهدفت مصر كدولة ودور النظام المصري في آنٍ واحد. لم تكن هذه الحملة انفعالًا إعلاميًا غير محسوب، بل بدت كردٍّ إخواني يعكس أيديولوجيا فصيلٍ اعتاد التآمر على الأوطان. ومن خلال الإصرار الهستيري من عناصر الجماعة على تشويه مشهدٍ مشرفٍ أظهر مكانة مصر كوسيطٍ إقليميٍّ شريفٍ وعاقلٍ في زمنٍ تعددت فيه أصوات المزايدة الجوفاء.

في هذا السياق، أظهرت الجماعة أيديولوجيا إخوانية تتمسك بها منذ زمن البنا، حيث نتج عن رصد متابعات المنصات الإخوانية طوال عامي الحرب على غزة وحتى اليوم الأخير من المعارك، التأكيد على سردية أن الحرب معركة دينية مفتوحة بين الإيمان والكفر. وما إن تم التوقيع على اتفاق شرم الشيخ حتى انتقلت الجماعة من تمجيد الدم إلى خطاب تخوين السلام. فقد وحّدت القنوات الإخوانية (مكملين، وطن، الشرق، الشعب) العناوين، وانحصرت في “القاهرة تبيع دماء غزة”، “اتفاق العار”، “وقف النار بإملاءات ترامب”.

وعليه، يسعى هذا التحليل لبيان دلالات السردية الإخوانية، وتحليل خطاب عناصر الجماعة، وقراءة الإعلام الإخواني في فترة الأيام التي سبقت وتلت اتفاق وقف الحرب على غزة، كمحاولةٍ لفهم الدوافع الإخوانية وراء الإصرار على تشويه الصورة التي أجمع عليها كل الأطراف الدولية لبطولة الدور المصري.

سرديات مكررة:

تحليل الخطاب الإخواني خلال الأسبوعين المحيطين بالاتفاق يُظهر نسقًا لغويًا موحدًا ومكررًا، اقتصر على استدعاء رمزية “الدم” كقيمةٍ أخلاقيةٍ عليا، مقابل تصوير السلام كتنازل. بالإضافة إلى تحويل الدور المصري من وسيطٍ شريفٍ إلى طرفٍ متآمر، تعمدت القنوات الإخوانية التأكيد على هذه السردية من خلال مداخلاتٍ إخوانيةٍ مجهزة بعنايةٍ تؤكد على الفكرة. فقد تم وصف الأمن داخل مصر بأنه خدعة وزيف، ووُصفت الدولة بالهشاشة، لإعادة تدوير ادعاءات فشل الدولة، لتبرير استمرار الهجوم وإثبات أحقية وجدوى تمويل الجماعة. ومن هنا ظهر جوهر صراع الخطاب الإخواني مع الدولة المصرية؛ فالقاهرة وقادة الدول وعلى رأسهم ترامب يتحدثون عن الأمان في مصر، في ذات الوقت الذي يتحدث فيه الإخوان عن الفوضى وانعدام الأمن، وهو ما يُعرف في علم الخطاب السياسي بـ”إزاحة الرمزية” بغرض إبقاء المتلقي في حالة توترٍ وإذعانٍ تبرر استمرار نشاط التنظيم الإعلامي المحرّض.

فقد توحدت الأصوات الإخوانية ردًا على تصريحات ترامب في المؤتمر الختامي للاتفاق حين قال: “مصر أصبحت واحدة من أكثر الدول أمانًا في الشرق الأوسط”. كانت هذه العبارة كفيلةً بإشعال أستوديوهات الجماعة، وأُطلقت عناوين ساخرة: “ترامب يرى الأمن من فندق خمس نجوم”، “الأمان في مصر حراسة مشددة وليس استقرارًا”. التحليل العميق لهذا الانفعال الإخواني يُظهر خسارة فادحة لسردية التنظيم خلال السنوات الماضية، فالأمن الذي يُشاد به دوليًا هو ذاته الذي أغلق نوافذ الفوضى التي تسللت منها الجماعة في السابق. فمع كل شهادةٍ دوليةٍ إيجابية تتراجع حجج الجماعة أمام المانحين، لذلك تحوّل الخطاب من تمجيد الدم إلى التركيز على تشويه الأمن داخل مصر، لأن الأمن يوقف تدفق المال، والدم ينعشه.

الفوضى مقابل التمويل:

وراء موجة التشويه الإخوانية الأخيرة للدولة والنظام المصري تكمن الرغبة الملحّة في الحفاظ على مصادر التمويل وطمأنة الممولين بأن الجماعة لا تزال تحافظ على دورها التآمري. فكلما استقرت مصر سياسيًا تجف موارد التنظيم، وكلما اشتعلت الحملات ضدها عاد المال إلى التدفق من شبكات الإخوان في أوروبا. لذلك أطلقت المنصات الإخوانية حملات جمع تبرعات تحت لافتات “دعم المقاومة” و”الإغاثة العاجلة لغزة” تزامنًا مع اتفاق شرم الشيخ، مستخدمةً نفس الأصوات الإخوانية التي تصف مصر بانعدام الأمن. الهدف من تلك الحملات إطالة أمد التمويلات ومحاولة إثباتٍ للحلفاء أن مصر دولة فاشلة تحتاج إلى “إصلاح” برعاية إخوانية.

فقد وجدت الجماعة في حرب غزة فرصةً لمضاعفة أموال التبرعات التي تتحصل عليها تحت مسمى العمل الخيري، وقد أشارت تقارير إلى أن الجماعة اعتمدت وسيلتين في جمع التبرعات: إحداهما سرية، والثانية علنية. التبرعات السرية تُجمع بواسطة شعب الإخوان وعناصرها بصورةٍ بعيدةٍ عن الرصد والمساءلة، أما التبرعات العلنية فتم جمعها عينية ومادية عبر أذرع الجماعة وبعض الجمعيات التي تُدار من قبل أشخاصٍ منتمين إليها. وقد أظهرت تحقيقات في دولٍ إقليمية أن تلك الأموال لم يُعرف مصارف إنفاقها ولا حجمها، ولم يُعلَن عن أي تنسيقٍ مع منظمةٍ دوليةٍ أو إغاثيةٍ لنقل تلك الأموال إلى أهالي غزة.

في سياقٍ متصل، ظهرت مفارقة صارخة انعكست في تقديم جبهات الإخوان في الخارج مصر في صورتين متناقضتين؛ تارةً “دولة عميلة” تشارك في الحصار، وتارةً “وسيط ضعيف” لا يملك قرارًا. هذا التناقض مقصود لأنه يتيح توظيف الخطاب وفق الحاجة التمويلية: فعند الحديث مع جمهورٍ عربيٍ متعاطفٍ مع غزة تُصوَّر مصر كخصمٍ مباشر، وعند مخاطبة المانحين الغربيين تُقدَّم كدولةٍ عاجزةٍ تحتاج إلى تغييرٍ سياسيٍ على أعلى المستويات.

بناءً عليه، ورغم احتراف الإعلام الإخواني في صناعة الوهم، إلا أنه بات غير فعّالٍ إلا في نطاق أتباعه، حتى بعض هؤلاء الأتباع انفضّوا واحدًا تلو الآخر. فقد اعتمدت الجماعة ثلاث استراتيجياتٍ متكررة، يمكن رصدها من التحليل اللغوي لخطاب برامج قنوات مثل “مكملين” و”الشرق” على النحو التالي:

(*) الاستعارة الدموية: تصوير الاتفاق بأنه “استمرار لنزيف الدم”، حيث تُروّج تلك القنوات لأن الاتفاق خالٍ من الضمانات، ويتم استخدام صور الدماء في خلفيات القنوات لتقويض مشهد السلام.

(*) التكرار العاطفي: إعادة بث نفس الجمل القصيرة الموحية بالخيانة “باعوا الدم”، “خانوا المقاومة” لبناء وعيٍ تراكميٍ سلبي تجاه اتفاق السلام.

(*) الاستبدال الرمزي: مهاجمة الأمن الداخلي بادعاء انعدام الأمن في الشارع المصري واعتقال أصواتٍ تدعم غزة، لصناعة صورة “فوضى مستمرة” لدى المتلقي، فضلًا عن المظلومية التي تحترف الجماعة صناعتها.

في المقابل، كان الرد المصري عمليًا وفعّالًا، فقد بدا المشهد الواقعي أفضل من يتحدث عن الحقيقة متمثلًا في: أمنٍ مستتب، مدنٍ تعمل، وموانئ مفتوحة للمساعدات. أما محاولة تصوير الشارع المصري كمرتع خوف، فقد اصطدمت بمشاهد الوفود والسياح والبعثات الدبلوماسية التي تدفقت نحو القاهرة وشرم الشيخ، وهنا فقدت الجماعة سلاحها وجاء الواقع أقوى من الخطاب.

أخيرًا، بعد اتفاق شرم الشيخ لم يتغير ميزان القوى فقط في السياسة، بل تغيّر كذلك في الخطاب، حيث سقطت الأسطورة الإخوانية أن “الدم يمنح الشرعية”، وحلّ محلها خطابٌ مرتبكٌ يحاول أن يُقنع العالم بأن الأمان في مصر وهم. لكن الحقيقة الأوضح أن الأمن والسياسة المصرية هما المهددان الحقيقيان لشبكات التمويل والفوضى التي عاش عليها التنظيم لسنوات. ففي كل مرة تتموضع فيها الدولة المصرية ويظهر ثقلها الإقليمي، ترتجف منصات الإخوان، لأن السلام يجفف مواردهم كما تجفف الحرب لغتهم.

هكذا يبقى الوعي هو الصخرة التي ينكسر عليها الزيف، فلا تنهزم المجتمعات إلا حين تتخلى عن القدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف، قال تعالى: “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”.
وفي الختام، لا يُقاس وعي الشعوب بما يُقال عنها، بل بما تختاره من مواقف حين يُختبر وعيها بالفتن.

أسماء دياب

د. أسماء دياب، المدير التنفيذي للمركز، ورئيس برنامج دراسات التطرف والإرهاب، دكتوراه في القانون الدولي- كلية الحقوق جامعة عين شمس، حاصلة على ماجستير القانون الدولي جامعة القاهرة، وحاصلة على دبلوم القانون الدولى جامعة القاهرة. وحاصلة على دبلوم القانون العام جامعة القاهرة، خبيرة في شئون الحركات الإسلامية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى