ما دلالات التصعيد الحوثي تجاه إسرائيل؟

لقد خاض الحوثيون حملة هجومية بحرية وجويةمناصرة للشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، عبر استهداف السفن في البحر الأحمر التابعة لهذا الكيان أو حتى المتجهة إليه، وكذلك موانئ ومطاراتداخل الأراضي المحتلةفي أوقات متفرقة، بما يوسع جغرافياً النزاع من غزة إلى خليج عدن وباب المندب والبحر الأحمر، حيث يردالاحتلال بعمليات جوية وبحرية قوية ومباشرة باستهداف مواقع حوثية وأخرى مدنية في اليمن.ومؤخراً اغتيال أحد كبار المسؤولين في صنعاء وهو رئيس وزراء الحكومة الحوثية، ما دفع إلى تصعيد حوثي جديد، حيث في 7 سبتمبر الجاري 2025، أكد المتحدث العسكري باسم جماعة الحوثي، يحيى سريع، في بيان متلفز له”تنفيذ عملية عسكرية واسعة بثماني طائرات مسيّرة، استهدفت النقب وأم الرشراش وعسقلان وأسدود ويافا المحتلة، وإن طائرة مسيّرة أصابت مطار رامون بشكل مباشر وتسببت في إيقافه ووقف حركة الملاحة فيه”. كما توعد سريع بتصعيد العمليات العسكرية وعدم التراجع عن الموقف المساند لغزة مهما كانت التبعات والعواقب، كما حذر جميع شركات الملاحة الجوية بأن “المطارات داخل فلسطين المحتلة غير آمنة وسيتم استهدافها بشكل مستمر”.
واستناداً إلى ما سبق، سيتناول هذا التحليل قراءة تفصيلية في التصعيد الحوثي ضد الاحتلال الإسرائيلي، من حيث الاستمرار، أسبابه، حدوده، ومردوداته، إلى جانب السيناريوهات المحتملة في هذ الملف.
تسلسل زمني وعملياتي:
في نوفمبر 2023،عقب العدوان الإسرائيلي الدموي على قطاع غزة، بدأت بعض فصائل “محور المقاومة” الإيراني في المنطقة العربية بإظهار التضامن مع غزة سياسياً وعسكرياً. فكان تنظيم الحوثي اليمني في المقدمة، حيث بدأ بالدخول تدريجياً إلى جبهة الدفاع عن القطاع ومحاولة الوقوف ضد آلة الموت الإسرائيلية، وذلك باستهداف السفن التي تُعتبر مرتبطة بإسرائيل أو تمر عبر طرق شحن حيوية قرب باب المندب والبحر الأحمر مما دفع إلى تشكيل مهام دولية بحرية أمريكية/بريطانية بحُجة حماية الملاحة. وكذلك بدءاً من يوليو 2024 اتجه التنظيم إلى توجيه ضربات لبعض موانئ ومطارات الأراضي المحتلة (جولات صاروخية من حين لآخر) وكان آخرها في 7سبتمبر الجاري 2025 حيث تم استهداف مطار رامون بطائرة مسيّرة وإيقاف جزءاً منه عن الخدمة، وهذا يُعد تطور دال على قدرة الحوثي على الوصول إلى أهداف داخل عمق الأراضي المحتلة بكفاءة متزايدة.
هذه الهجمات الحوثية على اختلاف أوقاتها وقدرتها على إصابة الأهداف، إلا أنها لم تكن بمثل قوة الهجمات الإسرائيلية العنيفةعلى الأراضي اليمنية، حيث كان الاحتلال في تدخله العسكري في اليمن يركز على استهداف البنية التحتية الحيوية التي يعتمد عليها المدنيون بشكل مباشر، مثل محطات الكهرباء والمياه في محاولة لإضعاف قدرة المجتمع اليمني عامة، وإجباره على الانهيار الداخلي. وأيضاً قصف الأسواق الشعبية والأحياء السكنية والمخازن والموانئ التي تستخدم لإدخال الغذاء والدواء، واستهداف مصافي النفط ومناطق إنتاج وتخزين الوقود. كما تم قصف مواقع عسكرية تابعة للحوثيين ومستودعات للأسلحة والذخيرة ومراكز القيادة، وفي أواخر أغسطس 2025، أسفرت الضربات الإسرائيلية عن مقتل مسؤولين حكوميين كبار لدى التنظيم (من ضمنهم رئيس وزراء حكومتهم)، في سابقة هي الأولى من نوعها من حيث اغتيال القيادات الحوثية.
وعلى الرُغم من ذلك تظل الهجمات الحوثية في البحر الأحمر أوعلى الأراضي المحتلة، هي بمثابة غصّة في حلق الاحتلال، لم يستطع إلى الآن التخلص النهائي منها. ومن هُنا يأتي التساؤل حول ما هو سر هذا الإصرار والاستمرار من قبل تنظيم الحوثي في الوقوف ضد الكيان الصهيوني؟
لماذا يستطيع الحوثي الاستمرار؟
الإجابة على هذا السؤال، عبر بُعدين هامين، هما:
(*) القدرات العملياتية للتنظيم: حيث أن الحوثي يمتلك تنوع في الوسائل إلى جانب مرونة تكتيكية في التنفيذ، من زوارق مفخخة وألغام بحرية، إلى طائرات وقنابل مُسيّرة وصواريخ باليستية/كروز، وكذلك القدرة على إطلاق هجمات متزامنة أو متقطعة لإرباك رصد الاعتراض. هذا التنوع يُقلل الاعتماد على نوع واحد من الذخيرة ويزيد من فرص اختراق الدفاع. كما أن التنظيم يستفيد بشكل كبير من خصائص المسار البحري، حيث أن البحر الأحمر وباب المندب نقطة اختناق تجارية تُمكّن الحوثيمن تهديد خطوط الشحن العالمية.كما أنه يتبع مع الاحتلال سياسة “الاستهداف الرمزي”، والتي تعني هجمات محدودة الخسائر البشرية لكنها مرتفعة الرمزية كاستهداف المطارات والموانئ، التي تُثبت القدرة على القصف وتولّد ردود فعل سياسية واقتصادية مؤثرة، وهذا نمط أقل تكلفة ولكن له أثر سياسي ودبلوماسي كبير.
ويمكن الرجوع إلى مقال سابق عبر الرابط التالي، لمعرفة القدرات العسكرية للحوثي وتأثيره في معادلة الحرب
(*) المنطق الاستراتيجي للتنظيم: نجد أن قدرة الحوثي على إطلاق هجمات ضد إسرائيل متجددة، وعلى الرغم من أن الرد الإسرائيلي يتجه بالفعل لتدمير البنية التحتية اليمنية نظراً لقوته، إلا أن لم يستطع القضاء على هذه القدرة، فالتجربة أظهرت أن التنظيم قادر على إعادة التمركز والتصنيع المحلي حتى في ظل تكبده للخسائر. وربما ما يدعمه في ذلك هو أن فائدة التعاطي مع الوضع على هذا النحو -دعم غزة سياسياً وعسكرياً-من وجهة نظره قد تفوق تكلفة الخسائر المكانية. كما أن الأمر برمته منح الحوثي قبولاً في الأوساط الداعمة للقضية الفلسطينية محلياً وإقليمياً ودولياً. وخلق له مناخاً سياسياً مناسباً في الداخل اليمني، حيث أن تبني التنظيم مناصرة فلسطين استُخدم لتوحيد الصف والحشد السياسي والشعبي. ولعل هذه العوامل هي التي تدفع التنظيم للتصعيد بشكل أكبر كل مرة عن الأخرى.
حدود التصعيد:
هناك تساؤل آخر حول، ما هي حدود تصعيد الحوثي تجاه إسرائيل ومتي قد يتوقف هذا التصعيد؟ ويمكن الإجابة من خلال عدة محاور وهي:
(-) المحور العسكري: ويرتبط بقدرة الحوثي على استنزاف الذخيرة وقطع الإمداد أو بلوغ مستوى يجعل الاحتلال الإسرائيلييفرض حصاراً بحرياً أو ضربات شاملة ومدمرة على الموانئ الرئيسية في اليمن ما قد يعرقل إمدادات التنظيم ويؤثر سلباً على قدراته.
(-) المحور الاقتصادي: نظراً لأن تصاعد الهجمات في البحر الأحمر يسبب أضراراً بالغة للاقتصاد العالمي (تعطل سلاسل الإمداد، ارتفاع تكلفة تأمين الشحن)، ما قد يحفز ضغوطاً دولية على كافة الأطراف لخفض التصعيد، وقد يخلق جهوداً عسكرية بشكل مختلف لمنع الحوثيين من مواصلة استهداف السفن.
(-) المحورالإنساني: فكما ظهر للعالم اجمع أن الاعتداءات الإسرائيلية السافرة على اليمن هي اعتداءات واسعة ومدمرة وتشمل المدنيين وكافة المرافق الحيوية، ما قد يؤدي إلى أزمة إنسانية كبيرة وربما تخلق استجابة إقليمية ودولية قد تُعقد أو تُوقف كافة أشكال التصعيد.
مردودات التصعيد:
هناك مردودات عدة لهذا التصعيد، فمن جهة،تُعطي دفعة معنوية قوية للتنظيم للمضي قدماً فيما بدأ، مثل تعطّل رحلات، إيقاف موانئ، زيادة تكاليف الشحن، انزعاج سياسي لدى دول الغرب وخاصة الداعمين للاحتلال الإسرائيلي بشكل مطلق ومعلن، وإشغال كبير للقوات البحرية الدولية. هذا فضلاً عن تقوية صورة الحوثي في الخطاب الإعلامي كحاميٍ للقضية الفلسطينية لدى جزء كبير من الجمهور الإقليمي خاصة وأنه أعلن أن عملياته في البحر الأحمر وعلى الأراضي المحتلة لن تتوقف إلا بتوقف العدوان الإسرائيلي على غزة وخروج جيش الاحتلال منها بشكل كامل.ومن الجهة الأخرى، هناك عُزلة دولية متزايدة على الحوثيين وباتوا هدفاً لسلسلة ضربات استخباراتية وعسكرية تهدف لتقويض قيادتهم وانهيارهم داخلياً.
سيناريوهات محتملة:
(-) السيناريو الأول- التصعيد المتقطع (الأكثر ترجيحاً): في هذا السيناريو، تسير المواجهة على إيقاع من الهجمات والردود المتقطعة التي تتكرر على فترات، حيث يواصل تنظيم الحوثي استهداف السفن، وكذلك الهدف الرمزي داخل العمق الإسرائيلي عبرصواريخ وطائرات مسيّرة، بينما يرد الاحتلال بضربات جوية دقيقة تستهدف المرافق الحيوية، منصات إطلاق ودوريات بحرية، ومواقع لوجستية داخل اليمن. هذه الجولة من التبادل لا تتحول إلى مواجهة موسعة أو برية، لأن كل طرف يختار ضبط مستوى التصعيد، فمن ناحية نجد الحوثي يريد توجيه رسالة انتقام ودعم سياسي للقضية الفلسطينية بدون أن يجرّ نفسه أو أنصاره إلى حرب شاملة، وإسرائيل من الناحية الأخرى تحاول إضعاف قدرات الهجوم دون الدخول في حملة برية أو احتلال لأنه صعب ومكلف للغاية لعدة اعتبارات. مع ذلك، يبقى (التصعيد المتقطع) خطراً حقيقياً إذا تزامن مع تدخل حلفاء إقليميين أو إذا فشلت الوساطات الدبلوماسية.
(-) السيناريو الثاني: المحاصرة/التقويض (مُرجح): هذا السيناريو قد ينطلق في مراحل القلق الاقتصادي الدولي القصوى، وفيه سيسعى المجتمع الدولي المهتم بحماية حركة التجارة العالمية إلى تركيز عسكري دبلوماسي بفرض تحركات وقواعد أكثر صرامة بشأن حركة السفن، وربما قد يشمل شنّ عمليات استباقية تستهدف قدرات الحوثي البحرية بشكل موسع على غير المعتاد. كما سيواكب ذلك ضغوطاً سياسية (عقوبات، قطع تمويل، قطع إمدادات تقنية) على الحوثي، ومحاولات تقويض شبكات الدعم الخارجية.
(-) السيناريو الثاني: اتساع إقليمي متدرج (مُحتمل): في هذا السيناريو يتم افتراض أن التصعيد الحوثي لا يبقى معزولاً، بل يتحول إلى عنصر ضمن معركة أوسع تضم أطرافاً إقليمية أخرى، سيما مع استمرار آلة الحرب الإسرائيلية دون توقف بالتزامن مع خطاب حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي حول أوهامهم بقيام إسرائيل الكبرى. والتكتيك هنا يُغيّر قواعد اللعبة، حيثتصبح المواجهة متعددة الجبهات. وهو سيناريو مُكلف وغاية في الخطورة، وقد يجر المنطقة نحو حرب موسعة.
ختاماً، فإن التصعيد الحوثي ضد إسرائيل انتقل من (تهديد للملاحة) إلى (القدرة على ضرب أهداف داخل عمق الأراضي المحتلة) بموجات من المسيرات والصواريخ، وهذا يعطي الحوثي دفعة معنوية سياسية وإعلامية كبيرة، لكنه يضعه أيضاً تحت ضغط انتقامي من إسرائيل وتحالفات بحرية دولية. لذا الأرجح أن نرى استمرارَ هجمات متكررة ومنتظمة (بحرية وجوية) كرد على اغتيال قيادات، مع احتمال بقاء الصراع في نطاق تبادل محدودومتقطع، ما لم تتخذ جهة ما خطوات تؤدي إلى انزلاق إقليمي أوسع. والمؤشر الحاسم هنا سيكون مستوى وتواتر الهجمات المتزامنة، وردود فعل الجانب الإسرائيلي الذي يعربد في المنطقة العربية دون رقيب أو حسيب.