إعادة التموضع.. كيف تعزز تركيا نفوذها بالعراق؟

التقى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، بنظيره العراقي نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية السيد فؤاد حسين، على هامش اجتماعات منظمة التعاون الإسلامي بالمملكة العربية السعودية أغسطس 2025،. وناقش الطرفان الملفات المشتركة في مجال النفط والمياه مع التطرق لملف حزب العمال الكردستاني باعتباره مهددًا لاستقرار كلا الطرفين. ويأتي ذلك في ظل تصاعد الدور التركي بالعراق نتيجة لتراجع النفوذ الإيراني في الفترة الأخيرة، لا سيما بعد الضربات التي استهدفت تعطيل المشروع النووي لإيران.
ويتطرق التحليل في السطور القادمة إلى طبيعة الدور التركي بالعراق، وما يواجهه من تحديات وقيود قد تؤثر على نفوذ أنقرة بالداخل العراقي.
أبعاد الدور التركي
تتجه أنقرة إلى تعزيز دورها بالداخل العراقي من خلال الاعتماد على أكثر من أداة، وهو ما يمكن توضيحه في السطور القادمة:
(*) الأمن والنفوذ: تُعد العراق ولا سيما إقليم كردستان في شمال البلاد، مصدر اهتمام دائم للدولة التركية، باعتباره يضم قوى معادية (حزب العمال الكردستاني) لم تستطع أنقرة التعامل مع تهديدها طوال الفترات المتلاحقة. وعلى الرغم من إعلان حزب العمال الكردستاني استعداده تسليم السلاح والتوجه للعمل السلمي في مايو 2025 في إطار عملية السلام المأمولة، احتفظت القوات التركية بتواجدها بالعراق مع الاعتماد على التدخل العسكري المباشر إن تطلب الأمر كما هو الحال في إعلان أنقرة استمرار ضرباتها الجوية والبرية بمارس 2025، وما لحق ذلك من ضربات داخل أربيل ودهوك في يونيو 2025.
وبالنظر إلى طبيعة التدخل التركي الدائم بالعراق، نجد أن الهدف هو اعتبار الجغرافيا العراقية دعامة رئيسية للأمن القومي التركي بناء على وجود موقع جغرافي مشترك يفرض على أنقرة تحجيم نفوذ حزب العمال الكردستاني بالاعتماد على التدخل العسكري المباشر، والذي يؤثر بدوره على قوات سوريا الديموقراطية المدعومة من الحزب والتي تتخوف أنقرة من رغبتها في الاستقلال وتكوين دولة كردية على حدود العراق وسوريا وتركيا وإيران. علاوة على ذلك، تمتاز العراق بكونها تحوي فرص اقتصادية وتجارية هائلة، إضافة إلى كونها فاعل أساسي بمشروع طريق التنمية المستهدف تمرير الطاقة من الخليج إلى أوروبا عبر تركيا.
(*) الورقة السنية: طالما وظفت أنقرة ورقة الإسلام السياسي بهدف تعزيز دور الدولة التركية إقليميًا، من خلال خلق وكلاء داخليين منتمين إلى المشروع التركي الكبير المعتمد على إحياء العثمانية. ولذلك تبرز أهمية المكون السني بالدول العربية بالشرق الأوسط باعتباره متوافقًا مع الحلم التركي القائم على ضرورة توظيف العامل الديني لخلق حلفاء داخليين بالمنطقة مثلما هو الحال بالدعم التركي لجماعة “الإخوان المسلمين” بعد أحداث الربيع العربي أو حتى دعم هيئة تحرير الشام وزعيمها أحمد الشرع في الوصول لدمشق وإسقاط نظام الأسد.
وفي العراق، تتجه الدولة التركية في الفترة الأخيرة نحو اللعب على كافة الخيوط من خلال تعزيز العلاقات مع المكون الشيعي الذي يترأس الحكم في بغداد، ولا سيما في ملفات ذات أهمية كبيرة مثل الطاقة، إضافة إلى التوجه نحو إعادة ترميم المكون السباسي السني الذي واجه انقسامات حادة بعد انهيار حكم صدام حسين، في ضوء حاجة الدولة التركية إلى تعزيز جبهة إسناد داخلية قادرة على إعطاء تركيا مزيد من النفوذ بالداخل العراقي. والذي كان واضحًا من خلال توجه تركيا في العام 2021 إلى التوسط بين خميس الخنجر، زعيم حزب السيادة، ومحمد الحلبوسي، زعيم حزب التقدم بهدف إعادة توحيد الجبهة الداخلية للسنة بالعراق مما قد يساهم فيما بعد بتكوين تحالف سني قادر على تغيير المعادلة السياسية بالعراق على عكس الانقسام الحالي الذي يجعل السنة ليس إلا صوت تكميلي يؤدي انحيازه لأحد الأطراف إلى تغيير المعادلة.
(*) دعم التركمان: سعت الدولة التركية في الفترة الأخيرة إلى إعادة النظر في دور القيادات التركمانية بالعراق، بناء على تنامي الدور التركي الذي يجب مواكبته من الداعم الأول لأنقرة بالداخل العراقي، حيث إن زيادة النفوذ السياسي للتركمان بالعراق، قد يؤدي إلى توطيد النفوذ التركي بشكل كبير بناءً على الصلات الوثيقة بين الطرفين. وفي إطار ذلك، استقال حسن توران من منصب رئيس الجبهة التركمانية العراقية، وعُين بدلًا منه محمد سمعان آغا أغلو بإيعاز من الدولة التركية كنتيجة لعدم رضا أنقرة حول أداء الجبهة التركمانية بكركوك في ظل تصاعد دور الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يعتبر أحد أبرز حلفاء حزب العمال الكردستاني الذي نجح في الحصول على منصب محافظ كركوك.
ولذلك، تسعى الدولة التركية في الفترة الحالية لمنع تكرار الخطأ السابق من خلال الإسراع بتعيين أرشد الصالحي كرئيس قائمة الجبهة التركمانية في انتخابات البرلمان المقبلة المقرر عقدها 11 نوفمبر 2025، بهدف حشد الدعم للتركمان بشكل أكبر من المعتاد، إضافة إلى خلق مزيد من التنظيم بالداخل التركماني. ومن جانب آخر، تكثف الدولة التركية مساعيها الدبلوماسية التي تهدف لوضع كوتة لعدد النواب التركمان بالبرلمان العراقي من خلال المطالبة بحماية التوازن الديموغرافي للانتخابات في مناطق مثل كركوك، في ضوء رؤية أنقرة ضرورة زيادة التمثيل التشريعي للتركمان لتعزيز الثقل السياسي للطائفة وحاجتها الدائمة للاعتماد على تحالفات أكبر لضمان مقعد في البرلمان العراقي.
التحديات والقيود
على الرغم من سعي الدولة التركية إلى تعزيز دورها بالداخل العراقي من خلال أكثر من آلية، إلا أنها تواجه عدة تحديات قد تعيق ذلك، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
(&) عقيدة متباينة: يُعد العامل الطائفي أحد المحددات الرئيسية للعلاقات بين السلطة التنفيذية التي يسيطر عليها المكون السياسي الشيعي، وبين الدولة التركية تحت قيادة رجب طيب أردوغان منذ توليه الحكم، وسعيه لتوطيد المشروع التركي القائم على إرث الدولة العثمانية. ومن خلال النظر في الاستراتيجية التركية للتعامل إقليميًا، نجد أنها تعرضت لدرجة كبيرة من التغيير في الفترة الأخيرة، ولا سيما بعد ثبات فشل مشروع “الإخوان” بمصر.
وبناءً على ذلك، أخذت العلاقات بين الدولة التركية والحكومة العراقية منحنى جديد يسعى فيه الطرفان إلى تحقيق طموحات وأهداف سياسية من خلال التعامل ببراجماتية تستهدف الحد من التوترات، إضافة إلى تعزيز نقاط التعاون بين البلدين في مجالات الطاقة والمياه والحد من نفوذ حزب العمال الكردستاني بشمال العراق.
وعلى الرغم من ذلك، تظل قدرة أنقرة على التغلغل في المؤسسات ذات النفوذ الشيعي محدودة نظرًا للخلاف المتأصل بين الطرفين، وذلك على العكس من إيران التي لا تزال تمتلك تأثيرًا ملحوظًا على تلك القوى بالداخل العراقي قادرة على استغلالها إن تطلب الأمر، ولا سيما في كركوك والموصل وتلعفر وسنجار.
(&) واقع معقد: في ضوء ما تشهده العراق، يواجه الدور التركي بالعراق مأزق حقيقي نتيجة لحاجته إحداث توازن بين كافة القوى المختلفة لتحقيق أكبر قدر من المكتسبات. ويظهر ذلك بشكل واضح من خلال التنافس الدائم بين سلطتي بغداد وأربيل وما يتبع ذلك من حاجة الدولة التركية إلى التحرك بشكل حذر دائمًا، خاصة داخل إقليم كردستان الذي يقع في دائرة الخلافات الدائمة مع السلطة الموجودة ببغداد حول مسائل هامة مثل إرادات النفط أو حصتها من الموازنة.
ومن جانب آخر، تحتاج أنقرة أيضًا إلى الحفاظ على التوازن حتى داخل إقليم كردستان المُنقسم سياسيًا بين أكثر من حزب، والذي يتضح بشكل كبير من خلال سعي أنقرة الحفاظ على علاقاتها الوطيدة بالحزب الديموقراطي الكردستاني دون الإضرار بالمساعي التركية لاحتواء الاتحاد الوطني الكردستاني، لا سيما بعد إعلان حزب العمال الكردستاني العزوف عن الكفاح المسلح في مايو 2025.
(&) صدام نفوذ: بالنظر إلى التراجع الإقليمي للمشروع الإيراني باعتباره فرصة مثالية سعت أكثر من دولة لاستغلالها بهدف التموضع بدلًا منها بالمناطق التي فقدت بها بعض من نفوذها، يمكن إدراك محاولات الدولة التركية لإعادة التموضع إقليميًا مثلما هو الحال بسوريا، إضافة إلى محاولات تعزيز النفوذ التركي بالداخل العراقي من خلال إصلاح العلاقات بين أنقرة والمكون السياسي الشيعي بالاعتماد على التعاون البراجماتي، إضافة إلى تقديم مزيد من الدعم لكافة الطوائف التي تدعم نفوذ أنقرة بالداخل العراقي.
ومن المؤكد أن التحركات التركية الأخيرة لم تلق استحسان النظام الإيراني الذي يعتبر العراق من أبرز مناطق نفوذه، مما قد يشير إلى ردود فعل إيرانية قد تستهدف عدم فقدان النفوذ بالعراق بشكل كامل كما هو الحال بالدولة السورية. ومن جانب آخر، لا يمكن توقع التحركات الإيرانية في الفترة القادمة بهدف مواجهة مساعي تقليص نفوذها من خلال تعزيز تواجد الجانب التركي إلا في ضوء مستقبل العلاقات الإيرانية- الأمريكية التي تهدف لحلحلة أكثر من خلاف مستعصي مع الجانب الإيراني، وعلى رأسها الملف النووي والدعم لأذرع إيران بالمنطقة.
وبالتالي تبقى خيارات الرد الإيراني على محاولات التموضع التركي بمناطق نفوذها غامضة في ظل غياب الرؤية الكاملة حول شكل الدور الإيراني في الفترة القادمة والذي من الممكن أن يتعارض مع الدور التركي، مما يزيد من مساحة التراشق بين الطرفين من خلال اعتماد الجمهورية الإيرانية على تمويل أذرعها بالعراق ودعمهم ماديًا.
مستقبل مجهول
في واقع الأمر، تمتلك الدولة التركية في الفترة الحالية فرصة مثالية لتوسيع نفوذها بالعراق من خلال الاعتماد على تعزيز تواجدها السياسي والاقتصادي والعسكري، إضافة إلى تعزيز دائرة التحالفات مع الطوائف الموجودة بالداخل العراقي وهو ما قد يساهم في سد الفراغات الناتجة عن الانسحاب الأمريكي التدريجي من جانب والتراجع الإيراني من جانب آخر.
وتتجه أنقرة في الفترة الحالية نحو الحصول على الدور الأبرز في عملية إعادة الإعمار، إضافة إلى توفير الدعم الاقتصادي والأمني لبغداد من خلال توقيع مذكرات تفاهم بين البلدين مثلما هو الحال بزيارة أردوغان لبغداد بشهر أبريل 2024 التي نتج عنها توقيع 26 مذكرة تفاهم في التجارة والطاقة والبنية التحتية والأمن والتعليم، إضافة إلى توقيع مذكرة أخرى فيما بعد بمايو 2025 خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى أنقرة، التي وقع فيها الطرفان 10 مذكرات تفاهم في الصناعة الدفاعية وتوسيع التبادل التجاري وإنشاء هيئة خاصة للإشراف على طريق التنمية.
وعلى الرغم من وجود فرصة مثالية لأنقرة في الفترة الحالية لتعزيز دورها إقليميًا ولا سيما بالعراق، لا تزال مجموعة من العقبات تعيق ذلك أبرزها الأزمة التي تواجه الاقتصاد التركي والتي قد تعيق قدرتها على الاستثمار بالداخل العراقي بأكثر من طريقة. علاوة على ذلك، لا تخلو المعادلة الإقليمية من تراشق مصالح دائم بين القوى الإقليمية مثلما يجري الآن من تراشق بالساحة السورية بين تركيا من جانب وإسرائيل من جانب آخر.
وختامًا، ترتبط قدرة تركيا على تعزيز نفوذها بالداخل العراقي بعدة عوامل داخلية وخارجية متشابكة، قد تؤدي في نهاية المطاف إما لزيادة النفوذ التركي إقليميًا، أو تراجعه لصالح قوى أخرى أكثر قدرة على ملء الفراغ الموجود بالمنطقة، وهو ما قد يزيد من مساحة الخلاف بين أنقرة وبين أكثر من دولة بالشرق الأوسط.