د. أشرف عبدالدايم يكتب.. الآثار هوية وطنية أم مورد سياحي ؟

في مصر تم دمج وزارتي السياحة والآثار في كيان إداري واحد باسم “وزارة السياحة والآثار”، وذلك في إطار إعادة هيكلة الجهاز الحكومي بهدف تعزيز التكامل بين القطاع السياحي وحماية التراث الأثري. ويُبرر البعض هذا الدمج بأن هناك دولًا عديدة اختارت دمج الوزارات المعنية بالسياحة والآثار لتسهيل الإدارة وتوحيد السياسات ،ولكن من المؤكد أن هذه المقارنة ليست منصفة، فببساطة لا توجد دولة في العالم تملك ما تملكه مصر من آثار، ولا أعلم ما العلاقة المباشرة التي تربط بين السياحة والآثار، فالسياحة نشاط اقتصادي خدمي يقوم على الترويج وجذب الزوار وزيادة العوائد، بينما الآثار مجال علمي وثقافي وأمني يحتاج إلى سياسات دقيقة لحماية التراث وترميمه وتوثيقه وضمان نقله للأجيال القادمة. والسياحة في مصر ليست آثارًا فقط، فهي تضم أنماطًا متعددة مثل السياحة الشاطئية والترفيهية والدينية والعلاجية وسياحة المؤتمرات وغيرها، وهو ما يؤكد أن لكل قطاع أولوياته المختلفة وطبيعته الخاصة. والجمع بين المجالين في وزارة واحدة جعل الأولويات متداخلة وأحيانًا متناقضة، وهو ما يثير تساؤلات حول جدوى هذا الدمج ومدى تأثيره على كفاءة الحوكمة وحماية الإرث الحضاري الفريد لمصر.
المسألة لا تتعلق فقط بالهيكل الإداري بل تمتد إلى الرؤية الاستراتيجية، فاعتبار الآثار مجرد عنصر من عناصر الجذب السياحي يحجب حقيقة أنها ثروة وطنية تمثل هوية الدولة وذاكرتها التاريخية، وأن دورها لا يقتصر على زيادة العائد الاقتصادي بل يتعداه إلى تعزيز الانتماء الوطني والهوية الثقافية، بل ويمثل مسؤولية دولية لمصر تجاه التراث الإنساني بأسره، وهو ما يتطلب استقلالية في صنع القرار وإدارة متخصصة لا تخضع لضغوط الحملات الدعائية أو الأهداف التجارية السريعة.
من هنا يبرز التساؤل الجوهري: هل التكامل بين السياحة والآثار يتحقق عبر الدمج الإداري الذي يفرض أولويات متناقضة، أم عبر التنسيق المؤسسي الذي يتيح لكل قطاع أن ينجز مهامه في استقلالية مع الحفاظ على قنوات للتعاون المشترك؟ التجربة العملية تميل إلى أن الفصل مع التنسيق أجدى من الدمج مع التضارب، وأن حماية التراث تحتاج إلى مؤسسة مستقلة ذات صلاحيات واضحة وميزانية مستقرة وخطة طويلة الأجل، في حين يمكن لوزارة السياحة أن تستفيد من هذا التراث في الترويج والجذب من خلال بروتوكولات تعاون محددة لا تمس جوهر عمل المؤسسات الأثرية.
بمراجعة الهيكل الإداري لوزارة السياحة والآثار بعد الدمج يتضح أن التضخم المؤسسي أصبح ملموسًا في تكرار الهياكل وتداخل الاختصاصات. فعلى سبيل المثال توجد هيئتان للمتاحف إلى جانب قطاع يشرف على نحو ستة وأربعين متحفًا، ما يخلق حالة من الازدواجية في المسؤولية ويجعل تحديد جهة اتخاذ القرار أمرًا غير واضح. هذا التشابك يضعف الحوكمة ويؤدي إلى توزيع الأولويات بين كيانات متعددة دون مرجعية تنفيذية مستقرة. وتشير الدراسات الإدارية إلى أن تضخم الجهاز البيروقراطي بنسبة تزيد عن ثلاثين في المئة غالبًا ما يؤدي إلى بطء الإجراءات وتراجع كفاءة الرقابة. ويمكن القول إن الدمج لم يحقق ترشيدًا كما كان متوقعًا بل زاد من التشابك وأضعف المساءلة.
الممارسة العملية أظهرت أيضًا أن الدمج لم يحقق التكامل المنشود بل عزز من تضارب الأولويات، فبينما يركز قطاع السياحة على زيادة أعداد السائحين ورفع الإيرادات، يحتاج قطاع الآثار إلى سياسات تحفظية تراعي الاعتبارات العلمية والأمنية. هنا يظهر أن الفصل مع التنسيق المؤسسي يعد نموذجًا أكثر كفاءة وأقرب إلى المعايير الدولية في إدارة التراث. وحتى في التجارب المقارنة وإن كانت لا تضاهي مصر في ثقلها الأثري، فإن الفصل بين الوزارات أتاح لكل قطاع التركيز على أولوياته الجوهرية.
الخلاصة أن الدمج بين وزارتي السياحة والآثار لم يحقق التكامل المؤسسي المنشود، بل أدى إلى تضخم في الهياكل وتضارب في الأولويات، مما انعكس سلبًا على كفاءة الحوكمة واستدامة برامج حماية التراث. والتجربة المصرية تؤكد أن السياحة والآثار مجالان مختلفان في طبيعة عملهما وأولوياتهما، وأن الفصل مع وجود آليات تنسيق فعالة يمثل الخيار الأكثر واقعية لتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية وحماية الهوية الثقافية. إن مصر بما تمتلكه من إرث حضاري فريد تحتاج إلى نموذج إداري استثنائي يضع حماية الآثار في صدارة الأولويات الوطنية ويجعل السياحة شريكًا داعمًا لا متحكمًا، وبذلك تضمن الدولة صون ذاكرتها التاريخية وفي الوقت نفسه تعظيم العوائد الاقتصادية بطريقة مستدامة للأجيال القادمة.