تحديات الهوية الوطنية المصرية في العصر الرقمي

مونيكا وليم-باحثة مشاركة
تعتبر الهوية الوطنية المصرية من القضايا المركزية في فهم التاريخ والثقافة المصرية، فهي تعبير عن الانتماء المشترك بين أفراد المجتمع المصري، متأثرة بعوامل تاريخية وثقافية ودينية إلا أن هناك عدد من العوامل التي ألقت بظلالها، فالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية وإقحام أفكار مختلفة عن تلك الهوية أوجدت فجوة بين الأجيال، حيث تختلف رؤية الأجيال الجديدة عن الهوية مقارنة بالأجيال السابقة.
وفي هذا السياق، ستركز هذه الدراسة بداية علي تناول الإطار النظري لمفهوم الهوية الوطنية ثم الانتقال إلى تمحيص عناصر ومهددات الهوية المصرية وأخيرًا محاولة قراءة مؤشرات التٌغير الناتجة عن عوامل وأبعاد مختلفة.
المحور الأول: الهوية الوطنية المصرية… المفهوم والأهمية
يتعين في البداية تحديد مفهوم الهوية وتفنيد عناصرها، كمفهوم ذو دلالات لغوية وفلسفية واجتماعية وثقافية. ولفظ “هوية” مشتق من أصل لاتيني gottlob يعنى الشيء نفسه بما يجعله مغايرًا ومميزًا، وتستخدم كلمة الهوية في الأدبيات المعاصرة كمعنى “Identity” التي تعبر عن سمة مطابقة الشيء لنفسه، أو الاشتراك مع شيء آخر يشابهه في الصفات والخصائص ذاتها. وهناك أنواع أو مستويات ثلاثة من الهوية الوطنية أو القومية، والهوية الجماعية.
يعد مفهوم الهوية بشكل عام من المفاهيم المرنة التي قد تؤدى محاولة ضبطها في تعريف محكم إلى إغفال أجزاء منها أو غيابها، ولذلك فليس من اليسير تحديد تعريف لمفهوم “الهوية”، فـ”جوتلوب فريجه Gottlob Frege” على سبيل المثال – أوضح أن الهوية – كمفهوم – لا تقبل التعريف، ذلك لأن كل تعريف هو هوية بحد ذاته. فيما وصفها “أندرسون” بأنها فكرة خيالية لا تقبل التجسيد أو التعريف، فالهوية مفهوم أنطولوجي وجودي يبرز في مختلف المقولات المعرفية، ويتسم بدرجة عالية من التجريد والعمومية تتفوق على مختلف المفاهيم الأخرى المقابلة والمجانسة له، كما يمتلك آلية كشفية لفهم العالم وما يضمه من كينونات.
إلا أن هناك عدد من المقاربات التي سعت لتعريف مفهوم الهوية الوطنية كونها مجموعة من الخصائص والمميزات التي تميز أمة أو شعب، وتشمل اللغة، الدين، الثقافة، التاريخ، والقيم.
في هذا الإطار، ينطوي هذا التعريف على جميع العناصر المكونة للثقافة، وتوضيح لدينامية وحركية المفهوم، وآثاره على جميع المستويات، وهناك عدة عناصر تسهم في تغيير الهوية ومن ثم أثرت في الهوية.
وبالتالي يطُرح التساؤل الرئيس حول، هل تعد الهوية مفهومًا متغير أم ثابت؟
أولًا: المفاهيم ذات الصلة
في ضوء التحليل السابق لمفهوم “الهوية الوطنية”، يلاحظ أن هناك تشابه بين مفهوم “الهوية الوطنية” وعدد من المفاهيم مثل مفهومي “الشخصية الوطنية” و”الثقافة الوطنية”.
ومن ثم تم تعريف “الشخصية الوطنية National Character” بأنها الخصائص الثقافية الخاصة أو المميزة لأمة أو مجموعة عرقية معينة. كما يستخدم مصطلح “الشخصية الوطنية” لوصف الخصائص الدائمة، وأنماط الحياة السائدة بين سكان دولة أو إقليم معين والمميزة لهم عن غيرهم في صورة سلوكيات عامة يمارسونها، ويُنظر إلى هذه السلوكيات باعتبارها مميزة للشخصية الوطنية، دون الإشارة إلى أنماط الشخصية المختلفة للأفراد الذين يمارسونها؛ ذلك أن هذا السلوك يمكن اعتباره مدفوعًا بآليات نفسية أساسية مميزة لشعب معين.
كما تشير “الشخصية الوطنية” إلى خصائص وأنماط شخصية وظيفية، تعد نموذجًا أوليًا يجمع بين الأعضاء الراشدين في المجتمع، وذلك على افتراض أن جميع أفراد هذا المجتمع تقريبًا يتصرفون وفقًا للمعايير المحددة لمجتمعهم.
وبمعنى آخر، تعبر “الشخصية الوطنية” عن مجموع العادات والاتجاهات والميول والآراء ووجهات النظر والدوافع والمعايير والمعتقدات التي يتشاركها الأفراد مع بعضهم البعض.
لذا فإنه عندما تستوطن جماعة من الناس منطقة ما، ويتم تعريفهم سياسيًا ككيان منظم، فإن الخصائص المميزة لهم تؤخذ بعين الاعتبار عند تعريف “الشخصية الوطنية” لهم، وجدير بالذكر أن تلك الخصائص تخضع لتأثير التاريخ والنظام القانوني. وهو ما يتفق مع ما أشار إليه “هانز كون Koun”، بأن الحياة في مكان مشترك، تخضع لتأثيرات التاريخ والأنظمة القانونية، فتنتج مواقف وسمات مشتركة، تعبر عن “الشخصية الوطنية”.
أما “الثقافة الوطنية”، فقد يكمن مفهومها عند علماء الاجتماع، بأنها القيم والمعتقدات التي تؤثر على سلوك مجموعة من الناس، ويمكن أن تتوارثها الأجيال فهي قابلة للانتشار والتوريث، كما يجادل البعض بأن “الثقافة الوطنية” هي الذهنية أو العقلية لمجموعة معينة من الناس والتي يتم مشاركتها فيما بينهم.
ثانيًا: طبيعة الهوية الوطنية
تتضح طبيعة “الهوية الوطنية” من خلال الوقوف على مقوماتها ووظائفها، وذلك على النحو التالي:
مقومات الهوية الوطنية:
تتعدد الآراء حول المقومات الأساسية التي تقوم عليها الهوية الوطنية، إذ يعتبرها البعض قائمة على عنصرين أساسيين هما التاريخ والثقافة، بالنظر إلى أن الثقافة هنا تشمل اللغة والدين والتراث، بينما يعتبر آخرون تفصيل تلك المقومات لتشكل رباعية اللغة والتاريخ والدين والتراث الشعبي لأصحاب الهوية الواحدة. وأيًا ما كانت تلك الرؤى المختلفة فإنه ثمة اتفاق على المقومات الأربع الأساسية المشار إليها عاليه.
والحقيقة أن الخلاف والجدل لا يتعلق بتحديد تلك المقومات الراسخة بقدر ما يتعلق بالإدراك لها والمكانة التي تحتلها، وأيضًا ترابط تلك المقومات مع بعضها البعض، والدور الذي ينبغي أن تلعبه في الحياة الآنية في ظل المتغيرات الاجتماعية والثقافية المتسارعة، فعلى سبيل المثال لا يوجد في الإقليم العربي برمته من ينكر أن لغتنا الأساسية هي اللغة العربية، ولكن الخلاف هو حول كيفية توظيف اللغة العربية في حياتنا سواء على مستوى التعليم أو على مستوى العمل والإنتاج. واستنادًا إلي ذلك يمكن الاتفاق على المقومات الأساسية للهوية الوطنية في العناصر الأربع التالية وهي اللغة والمعتقدات، والتراث والتاريخ المشترك.
المحور الثاني: الهوية الوطنية المصرية… والاستقرار المجتمعي
أ. عناصر الهوية في مصر ونطاق تهديداتها
وبالتطبيق على الحالة المصرية، فإن عناصر الهوية الوطنية المصرية تتشكل من تفاعل معقد بين الحضارات التي مرت علي مصر، بدءًا من الحضارة الفرعونية وصولاً إلى العصر الحديث، ويمكن سردها على النحو التالي:
1. التاريخ: يمتد تاريخ مصر لأكثر من 7000 عام، إذ شهدت البلاد العديد من الحضارات مثل الفرعونية، اليونانية، الرومانية، الإسلامية، والحديثة، وقد ساهمت كل حضارة في تشكيل الهوية الوطنية المصرية.
2. اللغة: حيث أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في مصر، وتعتبر وسيلة رئيسية للتواصل والتعبير عن الهوية، فاللغة تعكس الثقافة والتقاليد المصرية.
3. الدين: الإسلام والمسيحية يمثلان جزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية، خاصة أن القيم الدينية تلعب دورًا أصيلًا في تشكيل السلوك والعادات.
4. الثقافة والفنون: تشتمل الثقافة المصرية على الفنون، الأدب، الموسيقى، والعمارة. تعكس هذه العناصر التنوع والعمق الثقافي للمجتمع المصري.
5. العادات والتقاليد: تتجلى الهوية الوطنية من خلال العادات والتقاليد التي تُمارَس في المناسبات الاجتماعية والدينية.
ب.السمات والخصائص المميزة للهوية المصرية:
التنوع الثقافي: مصر تحتضن مزيجًا من الثقافات نتيجة لتاريخها الطويل، مما يساهم في إثراء الهوية الوطنية.
المرونة والقدرة على التكيف: عبر العصور، أظهرت الهوية الوطنية المصرية قدرة على التكيف مع التغيرات الاجتماعية والسياسية.
الانتماء القوي: يتمتع المصري بشعور قوي بالانتماء، يتجلى في الوطنية والولاء للوطن.
وبمراجعة المقاربات التحليلية في هذا الإطار، يتعين قياس أثر المتغيرات السياسية والتكنولوجية ومحدداتها على عناصر الهوية الوطنية، حيث شهدت اختبارًا حقيقيًا نتيجة تسارع وتيرة التطورات التكنولوجية وإحداث تغييرات في البنية السياسية الداخلية، وعلى هذا النحو يمكن قراءة المعطيات الآتية:
سياق سياسي مغاير قبل يونيو 2014
مثلت مرحلة ما بعد ثورة 2011 ومرحلة ما قبل ثورة يونيو سياق سياسي مغاير اتسم بتصدر جماعة “الإخوان” للمشهد السياسي، وبالتالي ثمة تحولات ضخمة طرأت على خريطة القوى السياسية في مصر.
وقد اتسمت هذه المرحلة بالانقسام الناتج عن عدة أسباب والتباسات، أدت إلى إزاحات وإقصاءات، ومن ثم إلى تبعات أثرت على الثقافة المصرية بتعدد روافدها، لذا فهناك سرديات عدة حول وضعية الأزمات الممتدة، والمشكلات البنيوية، التي أثرت على الهوية المصرية فـي عـام حكـم جماعة “الإخوان” فـي ظـل إقصاء انتهجتـه الجماعـة لمكونـات الطبقـة السياسـية والصفـوة المثقفـة، وعصـف بالدسـتور، وسياســات مضطربــة تكشــف عــن غياب رؤيــة، وتدهــور الأوضاع السياســية والاقتصادية ومحاولة لتغيير دعائم الهوية.
وإذا حاولنا في إيجاز استقصاء مصادر هذه الأزمات، وأسبابها، يمكن حصرها فيما يلي:
صعود تيارات إسلامية: خاصة صعود جماعة “الإخوان المسلمين” إلى الحكم بعد الانتخابات في 2012 والتي حاولت التأثير على الهوية الوطنية، حيث حاولت فرض رؤية دينية على المجتمع، مما أدى إلى انقسام بين العلمانيين والإسلاميين.
تراجع دور الدولة في تعزيز الهوية الوطنية، وغياب سياسات فعالة للتربية الوطنية مما أدي إلى للشعور بتفكك الهوية المصرية.
تنامي الاستقطاب والتجاذب في تكوين النخب السياسية والثقافية المصرية وتباين التوجهات السياسية بين كلا الطرفين وهو ما برز أثناء نتائج الاستفتاء على دستور وضعته جمعية تأسيسية هيمن عليها الإسلاميون، قد أُعلنت قبل نحو أسبوع فقط من بدء العمل، مما أعطى انطباعًا لدى قطاع واسع بأن جماعة “الإخوان” قد صعدت إلى قمة السلطة
عدم الاستقرار السياسي: شهدت مصر فترة من عدم الاستقرار السياسي بعد ثورة 25 يناير 2011. أدى الصراع بين القوى السياسية المختلفة إلى انقسام حاد، فقد ارتكزت قوى الإسلام السياسي على مفاهيم شكلت بطبيعتها خطوطًا لتقسيم المجتمع على أسس دينية، مما أثر على الشعور بالانتماء والهوية.
الانقسام الاجتماعي: تزايد الانقسام بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، حيث تم تهميش الفئات الضعيفة والتحقير من المرأة المصرية، وهو ما عزز من تشويه مرتكزات ودعائم الهوية الوطنية المتعارف عليها.
تأثير الإعلام: فقد حاول الاعلام لعب دور كبير في تشكيل الرأي العام، حيث ساهمت بعض القنوات في نشر خطاب الكراهية والانقسامات، مما زاد من الفجوة بين مختلف فئات المجتمع.
وعليه، مثلت ثورة 30 يونيو انتصارًا حقيقيًا للهوية المصرية، كونها تعتبر محطة هامة في تاريخ مصر الحديث، إذ سعت الدولة المصرية إلى تبني مقاربة جديدة تعمل وفق نهج تشاركي يضمن استعادة الهوية الوطنية.
وبالتالي ارتكزت محاور عمل الدولة المصرية في إطار تعزيــز الهويــة، علــى إعــادة بنــاء مفاهيــم الهويــة والمواطنــة ونشــر الوعـي وتصحيـح المفاهيـم المغلوطـة، وذلـك من خلال استراتيجيات متكاملة وواقعية تقوم على حماية ونشر الهوية المصرية والحفاظ على التماسك المجتمعي وعلى القدرة على الاستفادة من الثقافات الغربية في تناغم يستهدف الاستفادة بما يحفظ مقومات الهوية المصرية المتميزة.
وبناء علي ذلك يمكن حصر الرؤية المصرية في الآتي: تدشين عـدد مـن البرامج والمبـادرات النوعيـة التـي ارتكـزت مخرجاتهـا علـى أهداف خارطـة الطريق المصرية 2030 ومن أبرز هذه المبادرات: ”بناء إنسان“، ”اتكلــم عربــي“، ”صنايعيــة مصــر“، ”ذاكــرة المدينة“، و”المؤلف المصري“.
فضلًا عن المبادرات الشبابية والمجتمعية، وذلك على غرار مبادرة حياة كريمة، ومؤتمرات الشباب وكذلك أيضًا تمكين الشباب في كل المجالات السياسية والعملية وغيرها إلى جانب إشراك الشباب في المشروعات التنموية وتعزيز دورهم في بناء المجتمع، وهو ما يعزز الشعور بالانتماء.
المحور الثالث: تحديات وفرص الهوية الوطنية المصرية في العصر الرقمي
أولًا: غزو الثقافات وتأثير التكنولوجيا
في ظل الانفتاح الثقافي والتطور التكنولوجي، أصبحت الثقافات المختلفة تتفاعل خلال وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت وتوٌسع استخدام تقنية الواقع الافتراضي مما قلل من التفاعل المباشر وساهم في انتشار الثقافات بسرعة، وهو ما قد يشكل تحديًا كبيرًا للهوية الوطنية ودعائمها.
ومن ثمُ، تكتسب التكنولوجيا أهمية متزايدة في الآونة الاخيرة، وتزداد هذه الأهمية مع ما تمليه العولمة من إرساء وتكريس لمعالم النموذج الغربي، وفي الحالة المصرية تطرح هذه الهيمنة توازيًا مع هوية تمر بأزمة زادت منها التحديات السياسية عام 2013 إلى جانب العولمة، وجعلتها مصدر تهديد، سواء في التعامل مع المحددات الثقافية أو في التعاطي مع العناصر الثابتة أو تلك المتغيرة في تشكيل الهوية، فاللغة والدين من الثوابت، بينما العادات يمكن تغييرها بشكل إيجابي دون تأثير حاسم على الهوية، فتحديات التكنولوجيا تستدعي الاستفادة من إيجابيها دون تذويب الثقافة المحلية وفقًا للقيم الوافدة، كما يتعين الاهتمام بالبعد اللغوي والثقافي المحلي وكذا بالاندماج الاجتماعي، فالتعامل مع التكنولوجيا وتأثيراتها يتوجب المحافظة على الخصوصية المحلية دون الانعزال والانطواء مع مسايرة متطلبات العصر بإيجاد حلول لجميع الشواغل العالقة.
وبالتالـي، يمتـد تسـاؤل الهويـة عـن واقـع يتغيـر ومسـارات متعددة تخترق المجتمع المصري، خاصة في ظل ضعف المحتوى المصري المتاح على شبكة الإنترنت مقارنة بالمحتوى الموجود باللغات الأخرى الذي يعنى بالأساس بتقوية ونشر تلك الهويات على نطاق واسع، لا ســيما مــع حالــة الاستقطاب والشــد والجــذب بيــن الروافــد المتعــددة التــي ســاهمت فــي تحديــد ملامح الهويــة المصريــة.
وبناء علي ما تم طرحه، فهناك تحديات عدة يمكن رصدها علي النحو التالي:
- فقدان الهوية: قد تؤدي التأثيرات الثقافية الخارجية إلى تآكل بعض جوانب الهوية الوطنية.
- الصراعات الثقافية: قد تنشأ صراعات بين القيم التقليدية والتحديثية.
- تراجع الثقافة الوطنية نتيجة تراجع الاهتمام بالثقافة الوطنية والتراث، مع تصاعد التأثيرات الثقافية الأجنبية، مما يفاقم من التأثير على الهوية الجماعية.
ومن ثم، فهناك ضرورة ملحة للحفاظ على عناصر الثقافة المحلية، فاستيراد نماذج ثقافية جاهزة من الخارج سيؤدي لتذويب وطمس الهوية الوطنية وفقًا للنظام المستورد.
وعند استقراء طبيعة الأجيال الصاعدة وتحليل مدى تأثيرها على ركائز الهوية المصرية وعناصرها، حيث يعتبر جيل زد (Generation Z) وجيل ألفا (Generation alpha) من الأجيال الحديثة التي تتشكل في عصر التكنولوجيا المتقدمة؛ ورغم أن كلا الجيلين يعيشان في بيئات رقمية، إلا أن هناك اختلافات ملحوظة بينهما في القيم، والسلوكيات، والتوجهات وبالتالي يُظهر كل من الجيلين تأثيرات مختلفة على الهوية الوطنية، وذلك من خلال القيم والسلوكيات التي يتبناها كل جيل.
التعريف بكل جيل
يُعرف جيل زد بالأشخاص الذين وُلدوا بين منتصف التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نشأ هذا الجيل في عالم مليء بالتكنولوجيا، مما جعله أكثر اعتيادًا على استخدام الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي. يتميز جيل زد بقدرته على التفاعل مع المعلومات بسرعة وفعالية، مما يجعله أكثر وعيًا بالقضايا الاجتماعية والسياسية. في مصر، شهد جيل زد أحداثًا تاريخية مثل ثورة 25 يناير 2011، مما أثر على وعيهم الوطني.
أما جيل ألفا، فهو الجيل الذي وُلد بعد عام 2010، ويعتبر أول جيل ينشأ بالكامل في القرن الحادي والعشرين. يتميز هذا الجيل بتعرضه المبكر للتكنولوجيا، حيث يستخدم الذكاء الاصطناعي والأجهزة الذكية بشكل يومي في حياته. ومن ثم يتعرض هذا الجيل لتجارب تعليمية وتفاعلية جديدة، مما يؤثر على كيفية تشكيل هويته الوطنية في مصر، ويتوقع أن يكون لجيل ألفا تأثيرات أكبر على الهوية الوطنية بسبب توافر المعلومات والتكنولوجيا بشكل أكبر من الأجيال السابقة.
الفروق الرئيسية
وعلي صعيد الفروق الرئيسية بين الجيلين، تعد أبرز تلك الفروقات هي التكنولوجيا والقيم الاجتماعية والتعليم والتوجهات المهنية
أ. التكنولوجيا
جيل زد: يتفاعل بشكل أساسي مع وسائل التواصل الاجتماعي مثل إنستجرام وإكس، كمنصة للتعبير عن آرائهم ومواقفهم الوطنية. هذه المنصات ساهمت في تعزيز الوعي بالهوية الوطنية من خلال مناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية.
جيل ألفا: يعتمد على التكنولوجيا بشكل أعمق، حيث يستخدم الذكاء الاصطناعي والتعليم الرقمي بشكل أسرع وأكثر تنوعًا. وقد يطور هذا الجيل مفاهيم جديدة للهوية الوطنية تتماشى مع التغيرات العالمية، مما يؤثر بشكل كبير على طريقة تعلمه وتفاعله مع العالم.
ب. القيم الوطنية والاجتماعية
جيل زد: يهتم بالقضايا الاجتماعية مثل العدالة المناخية، حقوق الإنسان، والمساواة. يُظهر هذا الجيل رغبة قوية في التغيير الاجتماعي.
جيل ألفا: لا يزال في مرحلة مبكرة من تشكيل هويته، ولكن من المتوقع أن تتأثر قيمه الوطنية بتوجهات جيل زد وقد يتبنى جيل ألفا قيمًا جديدة تتعلق بالتنوع والشمولية.
ج. التعليم
جيل زد: يفضل التعليم التقليدي مع إضافة العناصر التكنولوجية، مثل التعلم عبر الإنترنت.
جيل ألفا: يتمتع بتجربة تعليمية أكثر تفاعلية، حيث يُتوقع أن يتعلموا من خلال الألعاب والتعليم القائم على المشاريع، مما يعزز التفكير النقدي والإبداع.
تأسيسًا على ما تم ذكره أعلاه، وعلى الرغم من أن جيل زد وجيل ألفا يعيشان نفس البيئة التكنولوجية، إلا أن الفروق بينهما تعكس تطور الزمن والتغيرات الاجتماعية والثقافية، فكل جيل له خصائصه الفريدة، مما يؤثر على كيفية تفكيرهم، وتعلمهم، وتفاعلهم، إن فهم هذه الاختلافات يمكن أن يساعد في توجيه الجهود نحو تلبية احتياجات كل جيل بشكل فعال.
ثانيًا: مؤشرات تغيير الهوية المصرية
تمثل الهوية المصرية مزيجًا غنيًا من العادات والتقاليد والقيم الثقافية الممتدة، إلا أنها قد تشهد مرحلة من التغيير الديناميكي نتيجة العوامل المشار إليها بعاليه. ومن ثم يمكن استعراض هذه التغيرات من خلال ثلاث زوايا رئيسية: الطابع المعيشي، نمط الاستهلاك، والسياسات الثقافية.
1. تغيير الطابع المعيشي
التحول الحضري: حيث أنه مع توسع المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية، وتحول المناطق الريفية إلى مجتمعات حضرية، تغيرت ملامح الحياة اليومية، وازدادت المساحات السكنية ذات الطابع الغربي، مثل الكمبوندات المغلقة، التي تقدم أسلوب حياة أكثر فردية مقارنة بالنمط التقليدي للمجتمعات المصرية القائمة على التفاعل الجماعي، وبالتالي أصبح الطابع المعيشي في مصر أكثر تنوعًا وحداثة، نتيجة عوامل مثل التوسع العمراني السريع.
2. تغيير نمط الاستهلاك
ثقافة الاستهلاك: تغيرت أنماط استهلاك المصريين بشكل كبير، حيث أصبح التركيز على المنتجات العالمية والعلامات التجارية بدلًا من المنتجات المحلية. على سبيل المثال، زاد الإقبال على الأطعمة السريعة والمستوردة مقارنة بالأطعمة التقليدية المصرية.
الاعتماد على الاستيراد: نتيجة لزيادة الاستهلاك، أصبح الاقتصاد المصري يعتمد بشكل كبير على الواردات، مما أثر على الهوية الإنتاجية للبلاد وأدى إلى تراجع الصناعات المحلية التقليدية، مثل صناعة النسيج والحرف اليدوية.
السعي وراء الرفاهية: ظهرت أنماط جديدة من الاستهلاك تركز على الرفاهية والمظاهر الاجتماعية، مما أدى إلى تغيير الأولويات الاقتصادية والاجتماعية للعديد من الأسر المصرية.
3. سياسات ثقافية وتعليمية مغايرة
دعم الثقافة الغربية: ساهمت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز الثقافة الغربية على حساب الهوية الثقافية المصرية. تراجعت المظاهر التقليدية مثل الأغاني الشعبية والمسرحيات المحلية أمام الإنتاجات الفنية الأجنبية والمنصات الخارجية.
التعليم والتأثير الثقافي: تغيرت مناهج التعليم بشكل يعكس التوجه نحو العالمية أكثر من التركيز على الهوية الوطنية. كما أن المدارس الدولية والخاصة أصبحت تقدم مناهج تعتمد على اللغات الأجنبية بدلًا من التركيز على اللغة العربية والتاريخ المصري.
المحور الرابع: الهوية الوطنية المصرية والمشروعات الوطنية (“حياة كريمة” و”بداية” نموذجًا)
استنادًا إلى ما سبق تناوله، تتضح فلسفة اهتمام الدولة المصرية بحتمية تعزيز الهوية الوطنية كركيزة أساسية لحقوق الإنسان ولترسيخ التماسك الاجتماعي وبناء وحدة اجتماعية قوية، وقد تسهم المشروعات الوطنية مثل “حياة كريمة” و”بداية” في ترسيخ الهوية الوطنية وتعزيز حقوق الإنسان، من خلال تحسين الخدمات الأساسية وتوفير الفرص، وذلك علي النحو التالي:
أ. مبادرة حياة كريمة
أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي مشروع “حياة كريمة” في عام 2019، بهدف تحسين جودة الحياة في القرى والمناطق المهمشة والحق في حياة كريمة وذلك بعد اتساع دائرة حقوق الإنسان مع التطورات الهائلة في كافة مناحي الحياة.
وعليه، يُعتبر “حياة كريمة” نموذجًا للاهتمام بحقوق الإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية، حيث يسعى إلى تقليص الفجوات بين الحضر والريف، من خلال توفير فرص عملية وتعليمية أفضل، ومن ثم يسهم المشروع بشكل مباشر في تعزيز الهوية الوطنية من خلال تقديم حياة كريمة لكل مواطن.
أطٌلق مشروع “حياة كريمة” كاستجابة للتحديات التي تواجه القرى والمناطق الريفية في مصر، حيث يهدف إلى تحسين مستويات المعيشة وتوفير خدمات أساسية مثل التعليم والصحة والمياه، بما يسهم في تعزيز حقوق الإنسان الأساسية، مثل الحق في الحياة الكريمة والحق في التعليم.
ب. مبادرة بداية
يهدف مشروع “بداية” إلى دعم الشباب المصري من خلال توفير فرص العمل والتدريب والتأهيل، ويتضمن المشروع إنشاء مراكز تدريبية وتقديم منح دراسية، بالإضافة إلى دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة. يعكس هذا المشروع التزام الدولة بدعم الشباب وتمكينهم من المشاركة الفعالة.
وقد تساهم “بداية” في تعزيز الهوية الوطنية من خلال تفعيل دور الشباب كعنصر فاعل في المجتمع، وذلك بالنظر إلى أنه بتوفير ممكنات تعزز من تحقيق الشباب لأحلامهم والمشاركة في التنمية، فإنه يتنامى الانتماء والولاء ومن ثم ترسيخ الهوية الوطنية.
كما تشتمل مبادرة بداية على تحقيق التنمية المستدامة والشاملة بمختلف القرى المصرية، والعمل على تحسين الأوضاع المعيشية، برفع كفاءة الخدمات وتأهيل المنازل وتطوير القطاعات المختلفة، فبرنامجها يتضمن أيضًا العمل على تنوير العقول، ودعم القرى ببرامج توعوية تحدث تغييرًا في الفكر، وتسهم في استكمال استراتيجية بناء الإنسان المصري.
ختامًا، يمكن القول إن الهوية المصرية ليست ثابتة، بل تتغير باستمرار وفقًا للظروف المحيطة، وهو ما يبرز الحاجة إلى تبني سياسات ثقافية واقتصادية تحافظ على جوهر هذه الهوية وسط المتغيرات العالمية، وبالتالي يبقى التحدي الأساسي هو تحقيق توازن بين التحديث والحفاظ على المعتقدات الراسخة، بحيث لا تُفقد القيم الأساسية التي كانت تُميز الهوية المصرية عبر التاريخ.