صناعة النفوذ عبر الدبلوماسية الرقمية: دراسة حالة الإمارات في العالم العربي

لقاء سيد أحمد- باحثة في العلوم السياسية
تُعدّ الدبلوماسية الرقمية اليوم أحد أهم أدوات صياغة النفوذ في الشرق الأوسط، حيث تحولت المنصات الرقمية ووسائل الاتصال الحديثة إلى ساحة صراع ناعم بين الدول لتوجيه الرأي العام وكسب التأييد الدولي. وفي العالم العربي أدركت الحكومات أهمية هذا التحول، فبدأت في دمج التكنولوجيا الرقمية داخل آليات عملها الدبلوماسي لتعزيز حضورها الإقليمي والدولي.
وفي السنوات الأخيرة شهد العالم العربي تحولاً نوعياً في آليات التواصل السياسي وصناعة النفوذ؛ فلم تعد العلاقات الدولية تعتمد على اللقاءات الرسمية أو البيانات التقليدية فحسب، بل أصبحت المنصات الرقمية مثل فيسبوك ويوتيوب وغيرها تلعب دورًا كبيرًا في إدارة الصورة الذهنية، وتوجيه الرسائل السياسية، والتأثير في الرأي العام الإقليمي والدولي.
وبرزت الإمارات العربية المتحدة كإحدى أكثر الدول تقدّمًا في استخدام الدبلوماسية الرقمية، من خلال تحويل أدوات الاتصال الحديثة إلى أداة سياسية تعزز حضورها العالمي وتدعم مكانتها في الشرق الأوسط. وفي هذا المقال نقوم بتحليل دور الدبلوماسية الرقمية العربية في صياغة النفوذ، مع التركيز على التجربة الإماراتية كنموذج بارز يجمع بين التكنولوجيا المتقدمة والرؤية السياسية الواضحة التي تستثمر في القوة الناعمة.
مفهوم الدبلوماسية الرقمية وأهميتها:
تُعرّف الدبلوماسية التقليدية بأنها “فن التفاوض والتواصل مع الدول في صورة ممارسة رسمية من خلال ممثلين يعيشون في البلدان الأخرى”، ويُطلق على هؤلاء الممثلين الدبلوماسيين، وتتمثل وظيفتهم الأساسية في استمرار العلاقات اليومية بين بلدانهم والدول الأخرى، وتحقيق مكاسب تصب في مصلحة دولهم.
ومع الثورة التكنولوجية الأخيرة تأثرت الدبلوماسية بهذا التطور، وظهرت أشكال جديدة منها الدبلوماسية الرقمية، وهي استخدام أدوات التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر رسالة الدولة وتوطيد حضورها الخارجي، وتوجيه الرأي العام، ودعم أهداف السياسة الخارجية.
وتكمن أهمية الدبلوماسية الرقمية في أنها تُسهِّل عملية تبادل الرسائل بين الجمهور، وتتيح الوصول إلى شرائح جديدة خارج الأطر التقليدية للدبلوماسية، مما يعزز صورة الدولة وجهودها التنموية والإنسانية.
الدبلوماسية الرقمية العربية:
أظهرت التجارب الحديثة أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت فاعلًا مركزيًا في تشكيل الرأي العام. ففي المنطقة العربية جسّد الربيع العربي مثالًا واضحًا على قدرة الشبكات الاجتماعية على تحريك الجماهير، وتغيير اتجاه النقاش العام، والتأثير في مسارات السياسة الداخلية والخارجية. وقد دفع هذا الدورُ الحكوماتِ العربية إلى إعادة التفكير في أدوات التواصل، والسعي نحو تعزيز حضورها الرقمي لحماية مصالحها وتوصيل رسائلها بفاعلية أكبر.
كما برزت حالات دبلوماسية واضحة استخدمت فيها منصات مثل “تويتر” لنقل مواقف رسمية وإطلاق مبادرات جذبت اهتمامًا دوليًا، إضافةً إلى استخدام قادة عالميين لهذه المنصات كأداة دبلوماسية مباشرة. ويؤكد ذلك أن الدبلوماسية الرقمية لم تعد خيارًا ثانويًا، بل جزءًا ضروريًا من القوة الناعمة للدول ومكوِّنًا أساسيًا في البيئة السياسية المعاصرة. وتُعدّ الإمارات نموذجًا بارزًا وأحد أكثر التجارب تطورًا في هذا المجال.
الدبلوماسية الرقمية الإماراتية:
برزت الإمارات العربية المتحدة كإحدى أكثر الدول تقدمًا في تبني الدبلوماسية الرقمية، مستفيدة من بنيتها التحتية التقنية المتطورة وسعيها لتعزيز حضورها الدولي. وتعتمد الدبلوماسية الرقمية الإماراتية على مجموعة من المنصات مثل موقع وزارة الخارجية، وفيسبوك، وتويتر، وإنستغرام، ويوتيوب، بهدف تقديم صورة شاملة عن الدولة، وبناء قنوات تواصل مباشرة مع الجمهور العالمي، وتعزيز أدوات التأثير والمشاركة في القضايا الدولية.
وفي هذا الإطار تبرز جهود وزارة الخارجية في دفع مسار التحول الرقمي، ومنها مشاركتها في “جيتكس 2024″، حيث عرضت تقدمها في تطوير خدمات قنصلية مؤتمتة تعتمد على التكامل الإلكتروني والذكاء الاصطناعي. كما ناقشت مشروع الربط الشامل لخدمة التصديق الرقمي الذي يتيح للمتعامل إتمام عدة معاملات عبر إجراء واحد ومنصة موحدة، دعمًا لبرنامج “تصفير البيروقراطية”. كذلك استعرضت مبادرة “البعثة الذكية” التي توظف التقنيات المتقدمة لتقديم خدمات أسرع وأكثر مرونة للمواطنين والمقيمين أثناء وجودهم في الخارج. وتأتي هذه الجهود ضمن رؤية شاملة لتعزيز مكانة الإمارات كدولة رائدة في الابتكار الحكومي والتحول الرقمي في العمل الدبلوماسي.
مظاهر الدبلوماسية الرقمية في الإمارات العربية المتحدة:
1. فتح قنوات المشاركة الإلكترونية: تُوظف الإمارات المشاركة الرقمية كأداة لدبلوماسية منفتحة وتفاعلية، حيث تستقبل وزارة الخارجية آراء الجمهور وملاحظاتهم عبر منصاتها الإلكترونية، باعتبارها مدخلًا لتطوير السياسات وتعزيز جودة الخدمات، وامتدادًا لرؤية «الإمارات 2071» في دعم الابتكار والشفافية.
2. منصات رقمية متعددة للتواصل: توفر الوزارة قنوات متنوعة للتفاعل تشمل الموقع الإلكتروني (المشورة، المدونات، الاستطلاعات) ومنصات التواصل الاجتماعي مثل إكس وفيسبوك وإنستغرام ولينكدإن، بما يوسع دائرة التأثير لتشمل المواطنين والجمهور الخارجي والبعثات الأجنبية والشركاء الاستراتيجيين.
3. ترسيخ مبادئ الشفافية وجودة المعلومات: تعتمد الدبلوماسية الرقمية الإماراتية على نشر معلومات دقيقة ومحدثة، وإرساء بيئة نقاش محترمة، والتفاعل السريع مع الاستفسارات، وتشجيع الابتكار والمقترحات، مع ضمان المشاركة الشاملة دون تمييز.
4. الإشراف على المحتوى وحماية الفضاء الرقمي: تطبق الوزارة ضوابط واضحة لإدارة المحتوى عبر منصاتها، وتشمل حذف المواد المخالفة التي تتضمن إساءة أو تهديدًا أو تمييزًا أو انتهاكًا للخصوصية أو القوانين، بما يضمن بيئة رقمية آمنة تخدم الأهداف الدبلوماسية.
5. آليات مؤسسية لمعالجة الملاحظات: تتبع الوزارة إجراءات دقيقة تشمل استقبال مشاركات الجمهور، ومراجعتها من قبل فرق مختصة، وإحالتها للجهات المعنية، والرد على أصحابها. كما تعلن بشكل دوري فرص المشاركة عبر موقعها ومنصاتها، ما يعزز التواصل الفعّال وصنع القرار التشاركي.
6. تكامل المشاركة الرقمية مع التحول الدبلوماسي: تعكس هذه الممارسات رؤية الإمارات في بناء نموذج دبلوماسي حديث يقوم على التفاعل والابتكار والحضور الرقمي المؤثر، بما يدعم مكانتها الإقليمية والعالمية.
الخاتمة، تعكس التجربة العربية في الدبلوماسية الرقمية – وبخاصة التجربة الإماراتية – تحولًا عميقًا في كيفية إدارة النفوذ والتأثير داخل الشرق الأوسط. فقد أصبحت المنصات الرقمية اليوم امتدادًا حقيقيًا لأدوات القوة الناعمة، ومجالًا رئيسيًا لتشكيل الصورة الذهنية للدول، وتعزيز حضورها الإقليمي والدولي، وتوجيه رسائلها إلى جماهير واسعة خارج الأطر التقليدية.
ويتضح من دراسة الحالة الإماراتية أن تبني بنية تحتية تقنية متقدمة، وتفعيل المشاركة الإلكترونية، وتطوير الخدمات الحكومية الذكية، كلها عناصر تسهم في ترسيخ نموذج دبلوماسي جديد يقوم على الشفافية والابتكار والتواصل المباشر مع العالم.
وعليه، يمكن القول إن الدبلوماسية الرقمية لم تعد مجرد وسيلة تكنولوجية، بل أصبحت استراتيجية شاملة لإنتاج النفوذ وصناعته، ومنح الدول العربية – وفي مقدمتها الإمارات – قدرة أكبر على الاندماج في المشهد الدولي الحديث، والتفاعل مع المتغيرات المتسارعة في بيئة المعلومات العالمية. وبينما تواصل الإمارات تطوير أدواتها الرقمية، فإن تجربتها تقدم نموذجًا إقليميًا يمكن البناء عليه لتطوير مستقبل الدبلوماسية العربية في عصر الثورة التكنولوجية.